18-سبتمبر-2019

لقطة من مسلسل الانتظار

وضع الكاتبان الدراميان حسن سامي يوسف ونجيب نصير سنة 1997 مسلسلهما الأوّل بعنوان "نساء صغيرات" (إخراج باسل الخطيب، 1999)، ليكون خطوتهما الأولى في مشوار شراكتهما التي حقّقت نجاحًا واسعًا أغرى الكاتبين فيما بعد لسلك مسارٍ جديد، وخوض غمار دراما العشوائيات وأحوالها، فقدّما "أيامنا الحلوة" (إخراج هشام شربتجي، 2003)، وأتبعاهُ بـ"الانتظار" (إخراج الليث حجّو، 2006) و"السراب" (إخراج مروان بركات، 2009). وإذ بهما يفتحان الباب واسعًا لأعمال جديدة ترصد حياة ومشاكل ويوميات سكّان ما اصطلح على تسميته بـ "الحزام الدمشقي"، لكتّاب ومخرجين مختلفين، كمحمد العاص الذي كتب "قاع المدينة" (إخراج سمير حسين 2009)، وفؤاد حميرة الذي كتب "غزلان في غابة الذئاب" (إخراج رشا شربتجي، 2006)، وسامر رضوان في "الولادة من الخاصرة" (أخرجت رشا شربتجي الجزء الأول والثاني منه، 2011,2012)، وغيره.

تبدو العودة الآن إلى تلك المسلسلات مُغرية وضرورية أيضًا، ذلك أنّها، في جوانب محدّدة منها، قادرة وإن بشكلٍ بسيط على تفسير ما آلت إليه البلاد منذ 2011 وحتّى الآن، والتنبؤ بمستقبلها الدامي، إن كان بقصدٍ أو دون قصد. فعدا عن انشغالها بقضايا وهموم المواطن السوريّ الذي بدا جليًّا أنّه يضمر رفضًا كبيرًا للسلطة وواقع البلاد، لا سيما في العشوائيات التي تُعتبر قنابل موقوتة بفعل الحياة المأساوية لسكّانها الذين بلغ احتقانهم ذروته بلا شك مطلع 2011. في هذه المقالة، نعرض لكم أربعة مسلسلات تناولت عشوائيات العاصمة دمشق.


1- الانتظار

لا يقتحم الليث حجّو في مسلسله "الانتظار" (2006) عشوائيات العاصمة السورية دمشق فجأة، ودون مقدّمات. المخرج السوريّ كان يُدرك أنّه ليس بحاجة إلى افتتاحيةٍ تضع المشاهد في مواجهتها، أي العشوائيات، سريعًا. وإنّما إلى افتتاحيةٍ تضعهُ إزائها على غفلةٍ منه، وتُتيح لهُ في الوقت نفسه إنشاء مسافة تُمكّنه من مُعاينة الحارات العشوائية من خلف زجاج نقيضتها، دون أن يتجاوز الأمر حدود الافتتاحية، بمعنى أنّه لن يتحوّل إلى نسقٍ عام أو خطٍّ سرديٍّ يحكم ويُسيِّر أحداث المسلسل.

هكذا، ستنفتح عدسة الليث حجّو على شوارع دمشق وساحاتها وأحيائها الراقية؛ دور سينما ومصارف ومسارح، وبشرًا سمتهم الأبرز أنّهم، جميعًا، ينتظرون شيئًا أو أحدًا ما. مشاهد سريعة ستُمهّد لدخول الكاميرا إلى العشوائيات أخيرًا. هناك، سيوسّع الليث حجّو عدسته لالتقاط خلّية بشريّة تعيش تحت خطّ الفقر، ويخوض كلّ فردٍ فيها نزاعاته الشخصية التي تبدأ وتنتهي وفقًا لما تقتضيه فلسفة البقاء وكذا تعزيز شروط الـ"أنا". ما معناه أنّ المُشاهد سيكون أمام مجتمعٍ يعيش على هامش الحياة، وملوّن بشتّى أطياف العنف، دون أن يكون الأخير سمة عامّة تدمغ سلوك جميع سكّان الحيّ.

باستثناء بضعة أشخاص قليلون، وائل (بسّام كوسا)، وزوجته سميرة (يارا صبري)، وروبن هود الحيّ عبّود (تيم حسن)؛ يعيش سكّان الحيّ العشوائيّ مُبعدين تمامًا عن الحياة العامّة وتفاصيلها، مُكتفين بالتلصّص عليها بينما يُحاولون علاج هزائمهم الشخصية الصغيرة والخافتة التي لن تخرج في نهاية الأمر عن فردانيّتها أو تتجاوز أزقّة الحيّ، أو تُصبح شأنًا عامًا أيضًا. انخراط الشخصيات أعلاه في الحياة العامّة أو مكوثهم في أمكنةٍ بالقرب منها، لن يجعلهم بمنأى عن الهزائم الصغيرة تلك إطلاقًا، لا سيما الأستاذ وائل، وكذا زوجته سميرة التي وجدت نفسها مشتتةً بين مكانين مختلفين اختلافًا شديدًا وقاسيًا كوّن عندها مأساةٍ وضعت بينها وبين سكّان الحيّ العشوائيّ حواجز شاهقة، قبل أن ينعكس الأمر فيما بعد على حياتها العائلية، وعلاقتها بزوجها الذي تنتظر منه إخراجها وأولادها من الحيّ نحو مكانٍ أفضل وبعيد عن العشوائيات.

ستنتقل عدسة الليث حجّو من منزل الأستاذ وائل العالق بين المبادئ وما يُغري للتخلّي عنها، نحو شجارٍ عنيفٍ بين شابّين سنعرف لاحقًا أنّهما شقيقان، وأنّ سبب شجارهما هو رغبة بسّام (أحمد الأحمد) بالسفر إلى الإمارات، بينما يرفض شقيقه الكبير صابر (أيمن رضا) الفكرة. في وسط هذه المعركة سيظهر غليص (آندريه سكاف) الذي انحدر من حياة الطبقة الوسطى نحو حياة العشوائيات بعد اتّهامه بسرقة آلة حاسبة، ليمضي حياته بعد ذلك مُدمنًا على أدوية السعال كمحاولةٍ للهرب مما انتهت إليه حياته. سنتعرّف أيضًا إلى عائلة أبو أسعد (عمر حجّو) الذي أمضى حياته مُنتظرًا صبيًّا لم يأت بعد أربع بنات أرهقن كاهله. وإلى عبّود الذي يسطو على المتاجر لسرقة ملابس وأحذية سيقوم فيما بعد ببيعها للفقراء بأسعار زهيدة. هكذا، يقدّم "الانتظار" (للكاتبين حسن سامي يوسف ونجيب نصير) افتتاحية تكوّن عند المُشاهد فكرة أوليّة وثابتة عمّا ستؤول إليه أحداث المسلسل وشخصياته التي تنتظر الخروج من العشوائيات نحو أمكنةٍ تصلحُ للحياة، وكذا للحلم.

2- غزلان في غابة الذئاب

كاميرا الليث حجّو ركّزت إذًا على الحيّ العشوائيّ والتفاصيل اليومية لسكّانه باعتباره مسرحًا وحيدًا لأحداثه. ولا تُلغي تنقّلاتها بين أمكنةٍ ثانية في العاصمة دمشق فكرة أنّ الحيّ ظلّ فضاءً وحيدًا للمسلسل. في "غزلان في غابة الذئاب" (تأليف فؤاد حميرة، 2006) تفعل المخرجة السورية رشا شربتجي، وبحكم طبيعة القصّة والسيناريو، العكس تمامًا، حيث تتنقّل بعدسة كاميرتها بين فضائين أو عالمين مختلفين؛ الأحياء الراقية والمخملية، والحارات العشوائية ببشرها غير الصالحين للحياة تمامًا كمنازلهم.

شيَّد فؤاد حميرة نصًّا سرديًا وزّعه بالتساوي على مكانين مُختلفين طاردتهما شربتجي بكاميرتها لالتقاط ملامحهما وتفاصيلهما وأنماط العيش فيهما، فكان الأول مكانًا مُخصّصًا للأغنياء، أو الفاسدين منهم تحديدًا. وهو، كما سنعرف لاحقًا، أو كما سيتبين لنا منذ الافتتاحية، وُجد كنتيجة طبيعية لصمت فقراء المكان الثاني وضعفهم وعدم قدرتهم أيضًا على كسر المألوف وتغيير نمط عيشهم والخروج من مكانٍ يقتات على سنوات حياتهم، أي من العشوائيات. ما يعني أنّ الأجواء المأساوية التي تتسمّ بها الأحياء والحارات العشوائية هي أيضًا نتيجة طبيعية لفساد بشر المكان الأوّل المُرتبط وجودهم بصمت فقراء العشوائيات.

سنتعرّف في المكان الأوّل إلى عائلةٍ تملك السلطة والمال في آن معًا؛ وزير فاسد (خالد تاجا) يلهث وراء المزيد من السلطة التي ستأتي لهُ بالمزيد من المال الذي يتولّى مسؤولية إدارته ابنه سامر (قصي خولي) الذي يفوقه فسادًا وبطشًا في تعامله الآخرين، تحديدًا أبناء العشوائيات ومن هم أقلّ مرتبةً أو مكانةً من والده، دون وجود من يردعهُ. في المقابل، على الجانب الآخر تمامًا، الهامش، سنتعرّف إلى عائلة غدير (أيمن رضا) التي تعيش على حافّة الحياة، شأنها شأن جميع سكّان العشوائيات. سنُشاهد غدير يُحاول، مرّةً بعد مرّة، التغلّب على الفقر والخروج من مستنقعاته، دون أن تكون الوجهة الثراء بالضرورة، وإنّما الحياة فقط، تلك التي لا تأتي ببيع الأشياء البسيطة، وإنّما بما هو أكبر منها. إنّها مجرّد فكرة تحوّلت عند غدير إلى قناعةً دفعتهُ للبحث عمّا هو أسرع للوصول إلى وجهته. هكذا، سيبدأ أوّلًا بتقديم التنازلات، قبل أن يذهب نحو التزوير الذي لن يُغيّر من واقع الأمر شيئًا، سوى أنّه سيضعه في السجن.

3- زمن العار

مسلسل "غزلان في غابة الذئاب" معالجة سردية وكذا بصرية لمسألة أو أزمة العشوائيات، قدّمها فؤاد حميرة ومعه رشا شربتجي عبر تشييد بنية العمل على ثنائية الفقر والثراء، وكذا المال والفساد باعتبارهما مسؤولان عنها. ستتخلّى رشا شربتجي بعد ثلاث سنوات عن ثنائياتها تلك لصالح أخرى جديدة، وهي: الشرف والعار. متناقضان إشكاليّان أسّس الكاتبان حسن سامي يوسف ونجيب نصير عليهما مسلسلًا مُتخمًا بالتناقضات، أي "زمن العار" (2006).

ستُغيّر رشا شربتجي زاوية التصوير هذه المرّة، وتضع كاميرتها في زاوية مختلفة، تُتيح لها أن تُرصد وتُعاين طبيعة الحياة في الأحياء العشوائية انطلاقًا من داخل منازل سكّانها، وعبر عائلةٍ متناقضة تُبدّل جلدها وكذا مبادئها مرارًا وتكرارًا وفقًا لما تقتضيه المصلحة الشخصية أوّلًا وأخيرًا. هكذا، ستضعنا افتتاحية العمل سريعًا ضمن صلب موضوعه، أي داخل عائلة أبو منذر (خالد تاجا) وأبنائه؛ منذر (إياد أبو الشامات) الذي يُحاول أن يخرج وزوجته (ديمة بياعة) من منزل العائلة. ونورس (مكسيم خليل) الذي سنعرف لاحقًا أنّه موظّف متمرّن على الرشوة، تخلّى عن حبيبته لأجل الارتباط بزميلته المرتشية أيضًا. بالإضافة إلى بثينة (سلافة معمار) التي كرّست سنوات حياتها لرعاية والدتها المصابة بمرض عضال، لا سيما وأنّها بلغت الثلاثين من العمر، بمعنى أنّ قطار الزواج قد فاتها منذ زمن طويل. وأخيرًا، رانيا (كندا حنا) التي تتورّط في علاقة حب غير متكافئة إطلاقًا.

ستُطارد عدسة شربتجي في المشاهد الافتتاحية بثينة كتأكيدٍ على أنّها تلعب دور البطولة. وسنعرف مشهدًا وراء آخر أنّ الجميع من حولها نسوا أو تناسوا فكرة أنّها أنثى، باستثناء جميل (تيم حسن) زوج صديقتها صباح (قمر خلف) الذي سيقع في غرامها، وتبادله هي أيضًا الشعور نفسه، لينتهي الأمر بزواجٍ عرفي يُضاعف من مأساة بثينة التي سيبدأ بطنها بالتكوّر، دون أن تكون مستعدةً لفضيحة أو مُغامرة كهذه، تعرف مُسبقًا أنّها ستدفع حياتها ثمنًا لها. هكذا، ستتخلّى عن الطفل سريعًا لإخفاء فعلتها التي ستُكشف لاحقًا، ليصير قتلها هدفًا لعائلتها، تحديدًا شقيقها الصغير نورس، الموظف المرتشي.

4- سحابة صيف

أنجزت رشا شربتجي في "زمن العار" عملًا دراميًا تناول العشوائيات بصورةٍ أقلّ مما تناوله العملان السابقان، أي "الانتظار" و"غزلان في غابة الذئاب". ووضعت نصب عينها تبيان طبيعة العلاقات الاجتماعية، وكذا الإنسانية في هذه الدوائر الضيّقة والمُتخمة بالتناقضات. في "سحابة صيف" (تأليف إيمان سعيد)، سيضعنا المخرج مروان بركات إزاء هزائمنا السياسية المتراكمة، وتأثيرها على سكّان العشوائيات. سيختار بركات حيًّا عشوائيًا قادرًا على استيعاب عدد الحكايات في نصّ إيمان سعيد التي شيّدت حيّزًا مكانيًا تجتمع فيه السياسة والخيانة السياسية والزوجية، والرشوة وتجارة الأعضاء وتبييض الأموال وسفاح القربى معًا. ما معناه أنّ العمل يريد إماطة اللثام عمّا هو مسكوت عنه في المجتمع السوريّ عامّة، وفضاء العشوائيات خاصّة، والنتيجة اختراق الممنوعات وهتك المحرّمات التي أفسدت حياة هؤلاء البشر.

الحيّز المكاني الذي بنتهُ سعيد، شأنهُ شأن جميع الأحياء العشوائية، يُعدّ ملاذًا وحيدًا وأخيرًا لجميع الوافدين إلى العاصمة السورية من المناطق الريفية، أو من الجولان المُحتل، وكذا اللاجئين الفلسطينيين والعراقيين. وبالتالي، يكون الحيّ، في صورته الأساسية، مرآةً لهزائمنا السياسية وغير السياسية ودليلًا على زيف الشعارات والخطابات الرنّانة التي كان سكّان هذه الأماكن أوّل من انجرّ خلفها وآمن بها بشدّة لعلّها تُغيّر واقعهم المأساوي، إلّا أنّ ما حدث هو العكس تمامًا، ذلك أنّ هذه الهزائم الكبيرة أسّست أو مهّدت لهزائم صغيرة يومية يُمنى بها هؤلاء البشر الذين يخوضون حربًا يومية طويلة لأجل رغيف خبز.

هكذا، سنتعرّف إلى أبو حبيب (بسّام كوسا) اللاجئ الفلسطينيّ الذي لا يزال يستعيد حكايات وأمجاد عائلته الإقطاعية التي كانت تسكن مدينة حيفا قبل النكبة. وعماد الناجي (سلّوم حداد) الذي خطّ لنفسه مسارين مختلفين، الأول كان نتيجة إيمانه بالنصر والشعارات السياسية الباهتة، والثاني كان نتيجة سلسلة الهزائم العامّة وكذا الشخصية، الأمر الذي دفعهُ لخلع مبادئه والتحوّل إلى رجلٍ براغماتيّ بحت، يُدير مكتبًا للسياحة والسفر علنًا، ويعمل في غسيل وتبييض الأموال سرًّا. سنتعرّف أيضًا إلى شهد (ديما قندلفت) التي تعيش وفقًا لرغبتها في إنهاء حياتها نتيجة تعرّضها لتحرّش جنسيّ في مراهقتها. بالإضافة إلى ناهد (كاريس بشّار) التي تدخل السجن بسبب طعنها جارها الذي تحرّش بابنتها. وأخيرًا، أم حبيب (سمر سامي) التي فقدت ابنها البكر في الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982.

 

 

اقرأ/ي أيضًا:

"جميل وهناء".. و"اليوتيوب" ثالثهما

"دقيقة صمت".. ثورة في الدراما السورية بعد الثورة