03-يونيو-2016

من الفيلم

لا يمكن لك وأنت تشاهد الفيلم الفلسطيني "3000 ليلة" للمخرجة مي المصري أن تقف على الحياد أو أن تخرج منه دون مبالاة، ففيلم مثل هذا يهزّك هزًّا ويجعلك تحاور نفسك مرات ومرات عن الحياة التي يصارع من أجلها الفلسطينيون منذ حل بأرضهم أولئك المتغطرسون ليستعمروها ويرهنوا أهلها لنزوات كيانهم.

"3000 ليلة" فيلم يروي معاناة النساء الفلسطينيات داخل السجون الإسرائيلية

يعود بنا الفيلم، الذي يعرض لأول مرة في تونس ضمن "أسبوع آفاق السينمائي"، إلى بداية الثمانينيات راويًا قصة "ليال" (ميساء عبد الهادي) تلك المدرّسة الفلسطينية التي تمّ الحكم عليها بالسجن لمدة 8 أعوام بعد اتّهامها ظُلمًا، وهي المتزوجة حديثًا، فتُنقل إلى معتقل إسرائيلي للنساء حيث تواجه واقعًا مريرًا مليئًا بالمخاطر.

اقرأ/ي أيضًا: مورغان فريمان.. أسعى لتحقيق السعادة والسكينة

تُزج مع الأسيرات السياسيات الفلسطينيات، في قسم مشترك مع سجينات إسرائيليات اعتُقلن بِتُهمٍ جنائية، وعندما تكتشف ليال بأنها حامل، يطلب منها زوجها إجهاض حملها ويخبرها بأن عليه السفر إلى كندا لتحسين وضعيته، فترفض التخلي عن جنينها وتتمسك به حتى ولو ولد في السجن وكبر فيه. يولد الطفل وتصطفي له والدته اسم نور وفي الاسمين رمزية لا تخطئها البصيرة، فمن ليالي السجن يولد النور ومن رحم اليأس يولد الأمل والحياة.

يكبر الطفل يومًا بعد يوم، ويصبح الشيء الوحيد الذي يسلّي السجينات الفلسطينيات، سجينات تحالفت ضدهن نظيراتهن من الإسرائيليات (كان يُجمع بين الجنسيتين في تلك الفترة الزمنية) وإدارة السجن التي تجعل منهن خادمات فيطهين ويغسلن الأواني ويتعرضن لأبشع النعوت.

ذات يوم وغداة الاجتياح الصهيوني لبيروت سنة 1982، تقرر السجينات العربيات الدخول في إضراب عن الطعام وعن الطهي والغسيل احتجاجًا على هذا الاجتياح، وعلى حرمانهن من متابعة الأخبار ويصعّدن من مواقفهن، فيتدخل حرس السجن ليقمع احتجاجهن بغازات مخدرة، لتصبح الغرف بمثابة غرف الغاز الهتلرية والسجن كمعتقل أوشفيتز.

ولدفعها لكسر الإضراب تقوم مديرة السجن بعزل ليال انفراديًا مع ابنها وتهددها لاحقًا بانتزاع ابنها منها إن لم توقف الإضراب، وتجمع معلومات استخباراتية عن المعتقلات الفلسطينيات لحساب إدارة السجن. تنصاع ليال مكرهة بادئ الأمر ثم تقوم بتسليم ابنها لعائلتها حتى يتربى في وضع أفضل وتستأنف نضالها مع رفيقاتها، وفي إحدى الاحتجاجات وسط ساحة السجن تقتل جميلة إحدى أصغر السجينات، فيرتفع باستشهادها منسوب الاحتجاج، احتجاج يشارك فيه السجناء الرجال في نفس الوقت، وفي نفس السجن، لا يفصل بينهم وبين النساء إلا سور تم ثقبه لتمرير الرسائل بين السجناء الفلسطينيين والسجينات.

يذكر فيلم "3000 ليلة" بفلسطين التي ترك أهلها يواجهون جلادهم بظهر مكشوف وحيلة قليلة

بعد هذه الاحتجاجات تقوم المقاومة باحتجاز رهائن من الصهاينة، وتطالب في المقابل بإخلاء سبيل عدد من المساجين ومنهم زميلات ليال التي تواصل تجرّع علقم السجن إلى أن تمضي السنوات الثماني، أو الثلاثة آلاف ليلة قضتها بين ألم الحبس وشوقها لابنها الذي أتى لاستقبالها لدى الخروج.

اقرأ/ي أيضًا: تونس.. أسبوع للسينما المستقلة

يكشف الفيلم عن العلاقات الإنسانية، ليس فقط بين السجينات العربيات فيما بينهن ومع "الإسرائيليات"، فبين العربيات يطغى التضامن والتآلف فيما لا يخلو كل لقاء مع "زميلاتهن" من تصادم يبلغ حد الاشتباك بالأيد، ووسط كل هذا نجحت ليال في التواصل مع إحدى "الإسرائيليات" بعد أن أنقذتها من الموت بسبب جرعة زائدة من المخدرات.

هذه العلاقة تحدثت عنها المخرجة مي المصري بعد الفيلم قائلة إنه يحدث أن تتطور الروابط داخل السجون، وأن من عاشوا هذه التجربة حدثوها عن مثل هذه الوقائع، حيث تنتزع الفلسطينيات الاحترام ويفرضن أنفسهن كرقم صعب.

تحدثت المصري عن عشرة آلاف طفل دخلوا سجون الاحتلال وعن النتائج الكارثية على نفسياتهم، من بينهم الأطفال الذين ولدوا لسجينات كحال ليال التي استوحت قصتها من مأساة حقيقية، أنجبت فيها امرأة ولدا سمته فلسطين، فأصبحت كنيتها أم فلسطين.

عن الممثلات، قالت المصري إن فيهن من دخلت السجن أو لها في العائلة من اعتقل، وأن منهن من كانت مشاركتها في هذا الفيلم الأولى من نوعها، فيلم تم تصويره في سجن عسكري مهجور بالأردن، مكان أعطى زخمًا أكبر وأخرج من الممثلات أقوى ما فيهن وأفضل أداء ممكن.

كاميرا المخرجة صورت الفيلم بزاوية قريبة جدًا من الممثلات دلالة على ضيق المكان وعدم القدرة على التنقل وبحركة أحيانًا بطيئة بطء الزمن، الذي يبدو كأنه توقف يوم دخلن السجن، ما يعطيه عمقًا أكبر ورمزية أكثر.

الفيلم، وإن غلبت عليه الدراما، فإنه لم يخل من بعض الكوميديا، حين تحرف النسوة أغنية "أنا قلبي دليلي" لتصبح "أنا قلبي دليلي قالي حتتحبسي"، أو حين تعرض الفنانة هيفاء الآغا في دور أم علي ابنيها على بنات السجن للزواج وتقوم هاتين السجينتين باستراق النظر للتعرف على "زوجي" المستقبل.

يأتي الفيلم ليذكر بالقضية الأم، بفلسطين التي ترك أهلها يواجهون جلادهم بظهر مكشوف وحيلة قليلة، فيلم مقاوم وجد الثناء أينما ذهب بحسب مخرجته، وقد تحصل على خمس جوائز لحد الآن.

اقرأ/ي أيضًا:

فيلم "بين المؤمنين".. صناعة التطرف في باكستان

بيتر دنكليج.. لا أعرّف نفسي بناء على حجمي