07-يوليو-2021

الناقد المصري فاروق عبد القادر

نال الناقد المصري فاروق عبد القادر أول جائزة من بلاده "جائزة التفوق في الآداب" في العام 2010، لكن ولـ"ظروف خاصة" لم يستطع تسلمها شخصيًا، ذلك أنه كان يحتضر.

رقد في غيبوبة طويلة بعد إصابته بحزمة من العلل القاتلة: التهاب رئوي حاد، جلطة في المخ، قرحة فراش.. والجائزة، التي كانت أصلًا مجرد إجراء لتوفير مبلغ للعلاج اليائس، لم تفلح حتى في رفع روحه المعنوية، ففي المكان النائي الذي كان قد ولجه لا تستطيع مثل هذه الأشياء أن تقدم أي شفاعة.

قدم فاروق عبد القادر نموذجًا فريدًا لتشبث المثقف باستقلاليته، وهو لطالما ربط عزوبيته بخيار أن يكون ناقدًا حرًا

اقرأ/ي أيضًا: إدوار الخراط.. سيرة انشقاق

في 22 حزيران/يونيو من العام نفسه أنهى طقوس احتضاره الرهيبة ورحل، ليقوم أقرباء ونفر من الأصدقاء بدفنه في مقبرة بعيدة، مسلمين تلك الحياة الصاخبة إلى صمت الفناء الكثيف.

قدم فاروق عبد القادر نموذجًا فريدًا لتشبث المثقف باستقلاليته، وهو لطالما ربط عزوبيته بخيار أن يكون ناقدًا حرًا، فالزوجة والأولاد كانوا ليجبرونه على تقديم تنازلات، وعلى مهادنة السلطات والمؤسسات خوفًا من الأذى وطلبًا للقمة العيش..

يقول الكاتب محمد سلماوي، رئيس اتحاد الكتاب المصريين السابق، إن "عبد القادر لم يكن ممن يحصلون على جوائز رغم أنه كان من أهم النقاد في مجال المسرح"، لافتًا إلى أنه "عند مرض عبد القادر لم تكن هناك جهة تتكفل بعلاجه، لأنه لم يكن ينتمي لأي جهة، حتى أنه لم يكن عضوًا في اتحاد الكتاب لأن له موقفًا منه".

وهو لم يصر على عدم الانتماء لكي يعيش بسلام، بل، على العكس، كان صداميًا على الدوام، فشهّر بالفساد الثقافي الذي يتسبب به تدخل السلطة السياسة، كما هاجم رموزًا ثقافية مرسخة لا يجرؤ الكثيرون على نقدها. وصف يوسف السباعي بأنه "مكارثي الثقافة المصرية"، لأنه كان "مرتبطًا بالوجه الرجعي والمتخلف للثقافة المصرية، وكان أداة النظام في تنفيذ كل أغراضه". وقال عن نوال السعداوي إنها "آخر كاتبة تخوض حروب جنس وكأنها حرب صليبية بين الرجل والمرأة، وهي له بالمرصاد لأنه سيئ وفاسد ومتسلط وشرير بحكم أنه رجل فقط ليس أكثر"، وسخر من أنيس منصور واصفًا إياه بـ"الحلاق الثرثار الذي يطرقع بالمقص فوق الشعر وحوله ولا يقص أبدًا". ودخل في خصومة طويلة مع جمال الغيطاني بعد أن قال عن إحدى رواياته بأنها "مليئة بالثرثرة". أما رشاد رشدي، الذي شغل لفترة طويلة موقعًا مهابًا في الوسط الثقافي، فقد نال النصيب الأكبر من نقد عبد القادر القاسي.

وصف فاروق عبد القدر الكاتب يوسف السباعي بأنه "مكارثي الثقافة المصرية"، لأنه كان "مرتبطًا بالوجه الرجعي والمتخلف للثقافة المصرية، وكان أداة النظام في تنفيذ كل أغراضه"

ولد صاحب "ازدهار وسقوط المسرح" في بني سويف العام 1938، ودرس علم النفس في جامعة عين شمس بالقاهرة. عمل سكرتيرًا لتحرير مجلة "المسرح" ثم مجلة "المسرح والسينما" حتى نهاية 1970. كما عمل محررًا مسؤولًا عن ملحق الأدب والفن الذي كانت تصدره مجلة "الطليعة"، قبل أن يغدو كاتبًا حرًا خارج أي مؤسسة ثقافية أو صحفية.

اقرأ/ي أيضًا: هزيمتنا في الرواية المصرية

ألف الكثير من الكتب، بينها: نافذة على مسرح الغرب، أوراق من الرماد والجمر، نفق معتم ومصابيح قليلة، من أوراق الرفض والقبول، ازدهار وسقوط المسرح المصري، في الرواية العربية المعاصرة، مساحة للضوء.. مساحات للظلال، من أوراق نهاية القرن.

كما قام بترجمة عدد من المسرحيات العالمية، منها: فترة التوافق لـ تنيسي وليامز. لعبة البنج بونج لـ أرتور أداموف، النقطة المتحولة لـ بيتر بروك.

كتابه "من أوراق الرفض والقبول" (دار شرقيات ــ ط 1993)، يصلح أن يكون عينة نموذجية من نتاجاته، فهنا ثمة باقة كبيرة من المقالات النقدية الرفيعة والتي تغطي جميع الأنواع الأدبية: قصة، رواية، مسرح.. وهنا أيضًا يتجلى ذلك الأسلوب المميز والذي يُذوّب المتناقضات في مزيج ذي مذاق خاص: السخرية مع العذوبة، القسوة مع خفة الظل، الصراحة مع اللطف.

وكذلك يظهر ميل عبد القادر إلى الخروج من دائرة مصر نحو الدائرة العربية الأوسع، إذ يفرد مقالات عديدة لتجارب عربية غير مصرية: حنا مينة، إميل حبيبي، سعد الله ونوس، سحر خليفة، حسين مروة.

في القسم الأول "وجوه"، يستذكر المازني، وطه حسين، وحسين مروة، وعبد المحسن بدر، وعبد الحكيم قاسم.. لكنه لا يكتفي بالتقريظ وكلمات الرثاء المألوفة، بل ينقد ويحلل ويُشرّح، ويرصد نتاجاتهم في غربال الزمن: ما العابر وما الذي بقي، وما الأثر الذي تركوه في الأجيال اللاحقة.

كان فاروق عبد القادر صداميًا على الدوام، فشهّر بالفساد الثقافي الذي يتسبّب به تدخل السلطة السياسة، كما هاجم رموزًا ثقافية مرسخة لا يجرؤ الكثيرون على نقدها

ويتوقف عند يوسف إدريس "أستاذ القصة ورائدها في مصر والعالم العربي.. الذي أضاع ــ عمدًا ــ يقينه القديم، ثم ظل يبذل ــ في كل عمل يبدعه ــ الجهد المضني في البحث عن يقين جديد لم يبلغه أبدًا". يوسف إدريس "الذي عرف قرى مصر وكفورها ونجوعها ومدنها وشواطئها وصحاريها، ثم خرج إلى العالم الواسع، فشرق وغرب.. صاحب الأعمال التي قد لا يأتيها النقد من أي مكان: "أرخص ليالي"، "جمهورية فرحات"، "البطل"، "أليس كذلك"، "حادثة شرف"، "آخر الدنيا"... دع الآن بقية أعماله، فهذا حديث عن وجه القمر المضيء". أما وجه القمر المعتم فيأتي في القسم الثاني من الكتاب "أعمال: قاصون وروائيون"، عندما يكتب الناقد مقالًا قاسيًا عن رواية إدريس "البيضاء"، تحت عنوان: "أوراق يوسف إدريس القديمة وأكاذيبه المتجددة".

اقرأ/ي أيضًا: مكاوي سعيد: أنا كاتب كسول ومزاجي

وفي هذا القسم يتحدث عن رواية "نهاية رجل شجاع" لحنا مينه، فيقول عن بطلها: "هو ــ مثل معظم أبطال صاحبه ــ راوية ثرثار عليم بكل شيء.. وهو مثلهم أيضًا يعاني من التناقض الداخلي في صميم وجوده.. ويكاد هذا البطل الجديد أن يخلو من أي جديد. ولو أننا رددنا ما قاله وفعله لما قاله وفعله السابقون عليه ما بقي له شيء، وبدا أشبه بمرقعة عجوز درويش، تتنافر رقعها لونًا وحجمًا".

بالمقابل يصف "الفجر الكاذب" لنجيب محفوظ بأنها "صياغات عذبة لحكمة الثمانينات.. لمسات صغيرة ونهائية تكمل صورة الكاتب والعصر".

في القسم الثالث، "أعمال: مسرحيات ومسرحيون"، يعرض لعدد من التجارب المسرحية، بينها مسرحية "الاغتصاب" لسعد الله ونوس، و"البترول طلع في بيتنا" لعلي سالم، كما يتحدث عن عدد من المسرحيين: شكسبير، علي الراعي، الفريد فرج..

يقول عن علي سالم: "ليس كمثله أحد بين كتاب مسرحنا المعاصر في قدرته على تشمم اتجاه الريح، ثم عمله على أن يجعل مسرحه في مهب هذا الريح، وليس كمثله أحد في قدرته على الوصول إلى توليفة (أو خلطة) من العناصر.. في هذه الخلطة: الإيهام بأنه يطرح في عمله قضية ملحة على ضمائر الناس، يستخدم في طرحها كلمات كبيرة ملونة، لا تشير لأشياء محددة وراءها، لكنها تداعب ذوات جمهور بعينه هو هذا الذي يريد أن يتوهم أنه جاء للمسرح سعيًا وراء تلبية احتياج ثقافي، وليس لمجرد التسلية"، ووراء هذا كله "لن تجد هدفًا محددًا أو رسالة واضحة.. إنما ستجد خلطًا مائعًا من الأفكار والمواقف. هو مسرح مراوغ، يطالعك بوجوه متعددة، تحار لحظة بينها، ثم تنفضها جميعًا عنك، وتخرج صفر اليدين والعقل والوجدان".

وصف فاروق عبد القادر قصص "الفجر الكاذب" لنجيب محفوظ بأنها "صياغات عذبة لحكمة الثمانينات.. لمسات صغيرة ونهائية تكمل صورة الكاتب والعصر"

اقرأ/ي أيضًا: عن مؤَلِّفٍ اسمُهُ اللّسان

مر وقت كانت فيه كتب النقد الأدبي مقروءة، بل موضوع شغف عند كثير من القراء. واليوم ثمة الكثير من الإشارات التي تؤكد أن هذا صار جزءًا من الماضي.. كتب فاروق عبد القادر علامات على هذا الماضي، لكنها أيضًا موئل للمتعة لا ينضب ولا يتقادم.

 

اقرأ/ي أيضًا:

جوناثان غوتشل: كيف تجعل منا الحكايات بشرًا؟

رفقةُ القارئ بحثًا عن النّص المفتوح