28-أغسطس-2018

محمد عباس/ سوريا

ما أشبهني كاتبًا بعمّي موّالًا! (من تربية المال، الذي هو الأنعام عند القرويين. وإنّما اختصروا المال في الأنعام لأنّها غالب ما يملكون. ومنها قولهم: اللّي ما عندو مال ما يرفع راسو بين الرّجال)

وجه الشّبه الأوّل: يعتني عمّي بأغنامه مثلما أعتني أنا بروايتي. فهو يُطعمها ويسقيها في أوقاتٍ محدّدةٍ، ولا يملّ من ذلك. تمامًا مثلما أغذّي روايتي بالقراءات والتأمّلات والأسفار والخلوات والبحوث. بل إنّني أنوي لها أفعالًا عادةً ما تُنوى لإنسان آخر كأن أتعطّر. إذ تكاد علاقتي بالعطر في سنواتي العشر الأخيرة ترتبط ارتباطًا تامًّا بالكتابة.

وجه الشّبه الثّاني: يتفادى عمّي العلف الذي يُؤدّي إلى غلبة الشّحم على اللّحم في أغنامه. وما الشّحم الذي أحرص على تفاديه في نصوصي السّردية، إلا البلاغة اللّغوية الزّائدة، التّي تتغلّب على بلاغة الوصف والتّصوير. إذا غلب الشّعر على السّرد في الرّواية جعلها شبيهةً بخروف يغلب شحمُه على لحمه، فلا يربح منه صاحبُه إلّا الاستعراض.

وجه الشّبه الثّالث: يجد متعته بينها، ويتأفّف من الوقت الذي يقضيه بعيدًا عنها. حتّى أنّه يُقصّر الوقت مع الضّيف الطّارئ. سألتني مرّة أمّ علياء: لماذا تقضي معظم وقتك في خلوة الكتابة، بينما لا تخرج إلينا إلّا لتأكل معنا وتشرب؟ فقلت لها: لأنّ متعتي الأعمق مع شخوصي، الذين أكتبهم لا مع شخوصي الذين أنجبوني أو أنجبتهم. وقد قاطعني أكثر من قريب، لأنّه لم يتفهم كوني لم أجالسه عند زيارته لبيتي.

وجه الشّبه الرّابع: يقتطع أوقاتًا من نومه ليلًا ليتفقّدها. عادة ما أكتب في النّهار وأنام ليلًا. لكنّني إذا استيقظت لأقضي حاجة ما، فإنّني لن أعود إلى فراشي قبل أن أفتح الجهاز وألقي نظرة على مخطوطي. قد أقرأ آخر ما كتبت، وقد أقرأ عشوائيًا، وقد تستفزّني حالة ما، فأواصل الكتابة حتّى الصّباح.

وجه الشّبه الخامس: يُدخل عليها بعض معارفه ليعاين نموّها ويستمتع بأن يحدّثه عنها وعن اهتمامه بها والاستفادة من نصائحه في ذلك. لم يحدث أن كتبت تجربة سردية من غير أن أختار نخبة ضيّقة العدد وواسعة العدّة من الأصدقاء، لأسرّب لها مفاصل ممّا أكتب قبل أن أتمّه. إنّ الكاتب، وهو يكتب، يشبه النّازل إلى البئر، يحتاج صوتًا يصله من الأعلى ليسأله: هل وصلت إلى القاع؟  

وجه الشّبه السّادس: يرفض أيّ عرض لبيعها قبل أن يحلّ موعد عيد الأضحى. يقابل هذا الموعدَ عندي معرضُ الكتاب. فأنا لا أكتب خضوعًا لضغطه، بل خضوعًا للزّمن النّفسيّ الخاصّ بي، لكنّني أتخذ منه موعدًا للمّ شتاتي وتسريع وتيرة الكتابة، التي لا بدّ من التّحايل عليها وإلا صارت متفلّتة مثل العجينة كثيرة الماء. 

وجه الشّبه السّابع: ينظّفها تنظيفًا ويُنقّيها تنقية أيامًا قبل بيعها. ولم يحدث أن أرسلت مخطوطي للنّاشر في الموعد المتّفق عليه، لأنّني أشرع في مراجعته بمجرّد أن أراجعه، ذلك أنّني أفهم إرسال مقال أو نصّ لينشر من غير أن يُنقّى خيانةً لروح الكتابة.

وجه الشّبه الثّامن: لا يقطع عنها العلف والماء والاهتمام ريثما يأخذها من اشتراها. وهذا يعني أنّ علاقته بها روحية أكثر من كونها تجارية. وهو ما أفعله تمامًا مع نصّي بعد أن أنشره، إذ أضيف له وأحذف بناءً على وعي جديد، ثمّ أتدارك ذلك في طبعةٍ قادمة. أؤمن بأنّ النصّ الحقيقيّ يبقى مفتوحًا على إضافات كاتبه ومتلقّيه. 

وجه الشّبه التّاسع: يُرافق بائعَها مسافةً معيّنةً، ثمّ يُلقي عليها نظرةً حزينةً قبل أن يعود إلى البيت. وعادةً ما يتفادى الدّخول إلى زريبتها أيّامًا بعد ذلك. وهذا ما أفعل مع النّاشر، الذي يستقبل مخطوطي. إن لم يكن ميدانيًا لقربه، فافتراضيًا لبعده.

وجه الشّبه العاشر: يسأل عنها بعد بيعها. هل وصلت بخير؟ هل وُجدت فيها أمراض معيّنة أو شحوم زائدة بعد ذبحها؟ أفعل هذا مع معظم القرّاء، الذين ينتهي إليّ العلم بأنّهم اشتروا كتابي الجديد، خاصّة بعد معرض الكتاب. 

وجه الشّبه الحادي عشر: يسارع إلى تعويضها بخراف جديدة، ليكون جديرًا بصفة "الموّال". مثلما أحرص على أن أكون جديرًا بصفة "الكاتب"، من خلال ممارسات ومواقف ومكابدات واجتهادات معيّنة، منها الانخراط في تجربة كتابية أخرى، كلّما صدرت لي تجربة جديدة.

قد يكون الفرق الوحيد بيني كاتبًا وبين عمّي موّالًا، أنّ شاته حين تُباع من أجل الأضحى، تصبح مقدّسة عند الشّعب، صوفًا وقرونًا ولحمًا وشحمًا ودمًا، حتّى أنّه يرفض انتقاد بعرها في السّاحات والعمارات، بينما تُعامل روايتي بعين الإهمال وروح التّدنيس. فما المانع من أن تجد الشّاة الجزائرية مذبحًا نظيفًا، وتجد الرّواية، بالموازاة، مكتبة بالمواصفات نفسها، فيكون ذابح الأولى هو نفسه قارئ الثّانية؟ هكذا نتفادى هذا الجهل المقدّس، الذي حرمنا من مذبح ومكتبيين محترفين.

 

اقرأ/ي أيضًا:

قصتي القاتلة.. من دفتر مذكرات يافا

قَدر جسيم في نهاية الأصص