30-سبتمبر-2016

العمل ل سندس عبد الهادي/ العراق

‎ما كاد يدخل عبد الرحمن المدرسة حتى بدا له أنه في عالمٍ مختلف، عالمٌ لم يدرك حقيقته، هل هو يحلم، أم أنها تلك التخيلات التي اعتاد رؤيتها مؤخرًا، تراجع خطوة ليتأكد أنه لا يزال في وسط ضوضاء سوق "الشورجة"، التفت يمينًا فإذا بدُكان قديم يبيع الورق بغير ما ألفه هو في مكتبات بغداد، وكأنه قد رأى شبيهًا لتلك الأوراق في مكتبة النفائس في شارع المتنبي، التفت يسارًا وإذا برجال يركضون باتجاه النهر، سمع المارة يرددون أنهم "العسس".

‎زيهم غير المألوف والجميل في ذات الوقت زاد من دهشته، وأدرك بعد نظرات متنقلة سريعة لمحيطه أنه في بغداد أخرى، كان وجود المستنصرية كفيلًا بتعريفه ببغداد، لكن كيف وصلها، كيف انتقل إلى ماضٍ يبعد عنه مئات السنين؟!

‎وكأني ببغداد في سنوات تأسيسها الأولى، هكذا قال مع نفسه وهو يسير بالأزقة المجاورة للمدرسة المستنصرية، مستذكرًا وصفها في كتاب "تاريخ بغداد"، المكتبات منتشرة في كل مكان، وكأن الجميع هنا يعمل بمهنة "الوراقين"، الكتابة والترجمة، ومما شده، مكتبة اسمها "المنصور"، كان لدى صاحبها سبعة مترجمين، يعملون على الترجمة من وإلى العربية وكأنهم فريق متخصص، يشبهون أولئك الذين رآهم بجامعة "ويستمنستر" في شتاء2002.

‎بقي عبد الرحمن يسير بالاتجاه المحاذي لسور المستنصرية، قرب بابها الخلفي، كانت المحلات مخصصة لبيع أجود أنواع العطور والملابس، بعضها كان يصنع في بغداد، وبعضها الآخر كان يجلب من المدن والولايات المختلفة، كانت دهشته تزيد كلما تقدم، وكأن بغداد النظيفة الجميلة هذه مدينة غير التي يعرفها، المملوءة بالأوساخ والدماء والتي تركها منذ سويعات.

‎أخذ ينظر إلى "هندام" الناس، إلى ذهابهم وغدوهم، كانت هيئتهم توحي براحة في العيش والاطمئنان، ابتسامات مرسومة على الوجوه، أجواء بعيدة عن النزاعات والمشاحنات، وبينما هو يجول في هذا العالم القديم، سمع أحدهم يذكر اسم المنصور في خضم كلامه: "لقد طلب الخليفة المنصور من وزيره أن يجوب بغداد صباح كل يوم لمراقبة أعمال النظافة". ‎لم تفاجئه هذه العبارة بقدر رؤية بغداد على هذا النحو، حتى مجرى المياه في الأزقة كان على نحو جميل رغم بساطة الطريقة المتبعة في تصريفه، لم يكن يدرك أن بغداد تحمل كل هذا السِحر.

‎فجأة تنبه لصوت دندنات وألحان تأتي من الوراء، أدار وجهه ونصف جسده بسرعة إلى الخلف، ليرى فرقة موسيقية تدخل بناية صفراء قريبة عليه، جمال صوت المنشد شده كما لو كان لحنه سحرًا، سارع الخطى نحو البناية التي دخلوها، رآها أكبر من اللاتي بجوارها، ربما كانت غرفها تزيد عن عشرة، بدأ يخمن أن تكون مدرسة لتعليم الموسيقى والغناء، غير أن الصوت واللحن جعله مستمرًا في لذته دون محاولة لتمييز ماهية البناية.

‎لم يدرك كم استغرق من الوقت وهو ينصت لتلك الفرقة، وعندما همّ بالخروج من البناية، جاءه صوت ثلاث طرقات متتالية، كانت كفيلة لإخراجه من عالمه، بدا مشهد بغداد الأولى يتلاشى من أمامه، ثم لم يعد فيها، إذ استيقظ من نومته، جاءت الطَرقات على باب الغرفة التي كان يغط فيها بنوم عميق. ‎أدرك أنه كان في حلم انتقل به عبر التاريخ إلى بغداد الأولى، وما إن عاد إلى واقعه حتى عاد إليه ذاك الشعور الغريب، ربما هو الشعور بالخوف.
‎الشعور الذي بدأ يطارده قبل عشر سنوات، أول مرة كانت بعدما رأى ذاك الشبح، كانت قبيل وقوع انفجار في الكرادة، ثم بعدها كان يرى أشباحًا تعمل من أجل أن يبقى الموت في كل مكان، كانت الرؤية المتكررة لتلك الأشباح كفيلة بتغير لون شعره، حيث بدأ اللون الأبيض يشتعل في رأسه، وكانت أخبار القتل الطائفي وقودًا لانتشاره.

‎قال محدثًا نفسه: جميع من في بغداد يعيشون ذات الخوف، خوفٌ من سيارة قد تتوقف في أي لحظة لاختطافه، من رجل يمشي خلفه، من سيطرة للتفتيش لا يعلم ما تخبئه له، من أشخاص يرتدون الزي الرسمي ولا يكونون منهم، من أقفال توضع بأبواب المؤسسات الرسمية ولا تزاح إلا بـ "هدية"، من بنايات قد نَقش الرصاص لوحة عليها، من رايات عشوائية تعلو الأسطح، من شيء قد زال ومن شيء سيزول، من شيء قد كان ومن شيء سيكون.

هكذا هي بغداد، مدينة مليئة بالأعاجيب والتناقضات، لكن تناقضاتها لا يدركها إلا عدد محدود من الناس، أولئك الذين يحاولون أن يشاهدوها في زمانين، أو أولئك الذين يُعملون الزمان في مكانين.

اقرأ/ي أيضًا: 

علم نحو الخبز

أشياء متأخرة عن جدّي