10-مارس-2016

إيمانس فوكوزلف/ لاتيفيا

أقول لصديقتي في حلب: لو رأيتُني جثةً مقطوعة الرأس وسطَ شارعٍ مزدحمٍ بالذبابِ لن أتفاجأ، سأضحكُ حتى تسيلَ من عينيّ أنهُر ملح، ثم أذهبُ نحو الرأسِ أغمضُ العينين وأتابعُ مسيري، لا شيءَ يُفاجئني.

كذبتُ، فقد تفاجأتُ حينَ رأيتُني في لندن، حاولتُ أن أتأكدَ منّي، لا شيء يثبتُ ذلكَ، أنا ربّما أنا، اتصلتُ بزوجتي وقلتُ لها: أحبّكِ ثم أغلقتُ السماعة مثل المراهق.

لم أتفاجأ حينَ عبرت من تحت البحر ولم أبتلّ بنقطة ماء، تصوّر يا صديقي ركبْتُ سيّارةً ركبَتْ القطارَ فدخلَ البحرَ، أغمضتُ عينيّ وبدأتُ أرى، أولَ خطوةٍ خطوتُها كانت في غور الأردن، آخرَ خطوةٍ أيضًا خطوتُها، لكن لا أذكر جيدًا هل كانت في بحر إيجة، أم في سماءِ بيروت، لا يهم فقد خطوتُها وانتهى الأمر.

الآن ما بعدَ الخطو، أسكنُ الطابقَ الثاني لسكنٍ حداثيّ، أكتبُ ورقة نعوة، أعلّقها على بابِ غرفتي، أُغلِقُ الباب وأتمدّد على السرير، أفكّر بمعين بسيسو وبي، أخبرتُكَ مرّةً أنّني فلسطينيّ بالفطرة، ها أنذا لاجئٌ وأحلمُ بالعودة، لكن إلى فلسطين، سوريّا كما قالت جدتي: "ماتسوى شي بلا تتن". ولكلّ منّا تتنُه الخاص، أنا لا أدخن على أيّةِ حال، لكنّي سأخبركَ ما حاجتي لورقة النعوة، أنا مثلكَ تمامًا ميت، والسكون على الياء التي حذفتُ أختها، تذكرُ جيدًا عندما كنّا نمشي سويّا، وأطلقَ عليكَ القناص بصقةً فجاءَتْ في وجهي، ثمّ قتلَ الرجلَ المسنّ الذي يقود البسكليت عند طلعة الحيدرية في حلب، أعرف لم أكن معكَ، لكنّك أخبرتَني تلك التفاصيل عبر سكايب، رأيتُه يتمدّد وسطَ الشارع عندما كان المارّة يحسبونهُ جروًا قذرًا، يمرّون من جانبهِ ويسدّون أنوفهم، لم أقدّمُ امتحانات تلكَ الأيام خوفًا من رؤية المشهد، ولقبتموني يومها بالجبان، أعرفُ أنّني جبان، لكنّني مثلكَ، ميّت.

سأخبرُك ما حاجتي لورقةِ النعوة، لم أنجح بمادة علم الجمال لأنّ الجمالَ كان كذبةً ككلّ الذي يحدثُ في حياتنا، وكنتُ أدّعي الصدق. وقفتُ عند تمثال زهير بن أبي سُلمى في كليّة الآداب أراقبُ طائرةً بيضاء تقصفُ دوّار الليرمون، هي تقصف والخبر العاجل في هاتفي يقول: "استشهد مأمون الجاسم وعبد الإله حداد على دوّار الليرمون"، وأنا أتابع مباشرةً، حاولتُ أن أصرخَ عاليًا، أن أبكي، لم أستطعْ لأنّني كنت مثلكَ، ميْت.

حاجتي لورقة النعوة لا تأتي من كوني خائفًا أن أموتَ بصمتٍ محرقٍ كما راشد حسين، لكنّي أخاف من ترديدِ أبياته التي أبكتني عندما غنّتها ريم البنا على مسرح قصر اليونيسكو في بيروت، كان صديقي الشاعر بجانبي يضحكُ بهيستيريا لا مثيلَ لها وكنتُ أبكي بجنونٍ أسكَتَ الحضور، حينَ قالت: الله أصبحَ لاجئًا يا سيدي/صادر إذن حتى بساطِ المسجدِ.

أقسمُ لكَ أنّني أبكي الآنَ وحولي نساء شقراوات جميلات لا يشعرنَ بي، وبجانبي فنجان قهوةٍ بعد أن نفد الشاي، وصرتُ أشربُ القهوة مثلكَ ميْتًا.

سأخبرُكَ ما حاجتي لورقةِ النعوة، عندما خنْتُ الوطن وسميّتُ نفسي وطنيًّا تبوّلتُ على المُثِل التي تعلّمناها في كتابِ القراءة، قطعتُ صورة بابا وماما، وشوّهتُ ميسونَ ومازن بقلم الرصاصِ، ثم وضعتُ باسم ورباب في إطارٍ من لحمٍ ودم، أطلقتُ عليهما الرصاص رغمَ جهلي باستخدامِ الأسلحة، عصبتُهما بـ(هبريّةٍ) سوداء، ولم أقرأْ الفاتحة بل ردّدتُ تلكَ الأغنية التي حفظتها من شريطِ الكاسيت المسجّل احتفالاً بعيدِ الحزب الشيوعي السوري الستين، كانَ الخطابُ يمجّدُ الوطن والوطنيّة أيضًا، وكانَ الخطيب مثلنا "عرصة" واسمهُ: خالد بكداش -لا تضحك- وكنتُ أنا مثلَك تمامًا ميْت.

سأخبركَ ما حاجتي لورقةِ النعوة، عندما اعتقلني حاجز المخابرات الجويّة على الحدود بسببِ قصيدة "وحدهم أحياء" التي كتبتُها ردًّا على تسميتكَ شهداء درعا بـ"الفطائس". أول سؤالٍ سألني إيّاه الضابط: "هنت بتعرفوا لأدونيس؟" ضحكتُ بجنونٍ وأنا أرتجفُ من الخوف، أجبتُه بصوت متقطّع: نعم أعرفه، وشتمتُ بيني وبيني كلّ آلهة الحبّ كي أمرّ باسمه. أخذ الضابط يبرهن لي صحة النظرية الديكارتيّة بعد معرفَته بأنّي أدرسُ الفلسفة، ثمّ أردفَ قائلًا: "شو رأيك بسارتر؟"، أجبته: أنا أحبّ جلجامش، لأنّه خالد، ذُهلَ من جمالِ الإجابة، وبُهِتَ حينَ عرفَ أنّني شيعي، تركني وقال لي قبلَ أن أخرج: "هنن ميقتلونا وهنت معهن، والله لو ما كنت شيعي رب القدرة أبيفكك". هل تحوّل الوجود إلى مذهب؟ ربّما كان ديكارت من آل البيت، لا أعرف. حاولتُ أن أواسي نفسي فهمستُ وأنا أخرج: واحد.. واحد.. واحد.. الشعب السوري واحد هههههه.

استغربتُ من شيئين؛ الأول أنّه أقسم بالله، والثاني أنّ الذين رأوني بعد الحادثة قالوا لي: الحمد لله على سلامتك، لم يعرفوا أنّني صرتُ مثلكَ تمامًا، ميْت.

سأخبرُكَ عن حاجتي لورقة النعوة. لحظة، فنجانُ القهوة نفد، وصديقتي ستقول لي: هذا يستحقُّ أن يكونَ نصًّا، سأكملُهُ كعادتي، سيكون عنا؛ أنا وأنتَ، لأنّكَ ميْت ولأنّني مثل البقيّة الذين بقوا على قيد الحياة؛ "عرصة" وميْت.

اقرأ/ي أيضًا:

لم يهزمني "شمس تبريز"

الخامسة فجرًا بتوقيت القمر