26-سبتمبر-2018

مؤيد محسن/العراق

عاش چاچي وسط مجتمع مادي وغير مثالي البتّة. كان من عائلة فاضلة ومحترمة عند أهل الحيّ، وهذا ما مكّنه من أن يعيش فترة طفولته القصيرة بحالٍ جيد وجميل.

ولكن بعد أن بلغ الثامنة من عمره تغير كل شيء؛ استشهد أبوه في انفجار إرهابي استهدف سوق المدينة، وبعد أشهر استولى عمه الأكبر على كل ممتلكاتهم بحيلِه الخبيثة وتَزوّج أمه، كانت مُرغمة على القبول بالزواج من عمِّ چاچي؛ هدّدها في حال عدم قبولها بطردهم من المنزل وطرد چاچي من المحل. وبعد مرور العام الخامس على الزواج ماتت أم چاچي إثر اصابتها بنوبة قلبية حادة. في تلك الساعة كان چاچي في المدرسة، وما أن رجع حتى وجدها مرمية وسط صالة البيت كنفاية لا يطمع بها أحد. لم يحزن على موتها في العالم كُلِّه غير چاچي؛ كان وجودها هو سبب بقائه في المدرسة والمنزل والحصول على الطعام والقليل جداً من الامان، إما الآن فهو بانتظار صرخة الطرد من حنجرة عمِّه الذي يكرههُ ويُتعبه بالعمل معه بعد عودته من المدرسة من دون أن يعطيه أي أجر. تذكرة التشرد والضياع أصبحت في جيب حسابات چاچي.

وبالفعل بعد مرور شهر طُرد چاچي من البيت والمحل. المحل الذي يعمل به مع عمه ببيع المواد الانشائية وسط سوق المدينة. كان عمه معروفاً بفراغ وجدانه من أي رحمة أو عطف وبالاستغلال والاحتيال عند الجميع.

في تلك اللحظة أصبح چاچي فريسة سهلة للأمراض النفسية، لكنه كان قويا بإخفاء الوجع بداخله، لم يدع لخذلان الحياة له أن يتسرب من أعماقه إلى الخارج؛ حتى لا يستغلّه العالم المادي الذي يعيش فيه. المدرسة أول الأشياء التي كرهها چاچي لأنها لم تفتقد غيابه بعدما كانت مبلّلة بقطرات الحب التي تنزل على موجوداتها من سماء قلبه الحزين. في زوبعة المدينة الغنية بثرواتها والفقيرة بخدماتها، قضى نهاره يمشي في أسواقها باحثاً عن عمل. أناقته، صغر سنّه، وسامته وعدم انتمائه لعائلة، كل هذه العناصر كانت تساعده على الحصول على عمل. بعد ساعات طويلة من البحث والتنقيب عن عمل أصابه التعب عند نهاية السوق و وقف يُحملق بالناس العابرة حوله.

- (هاك خالة اشربلك كوب ماي وارتاح مبيّن متعوب). هذا ما قالته امرأة جالسة على الأرض و تبيع أكياس صغيرة من الليمون والثوم والباقلاء. ابتسم چاچي، جلس بجوارها على علبة حليب فارغة، شرب كوب الماء وردّ عليها:
- أنا أبحث عن عمل، هل بإمكانك مساعدتي؟
- (شكلك مرتب يخالة وبعدك صغيّر، شعجب تدوّر على شغل؟ زين أنت مو چاچي ابن الشهيد محمد وتشتغل وي عمك سالم لو اني غلطانة؟)
- نعم أنا چاچي. ردّ عليها و أخبرها بكل قصته التي دفعته للبحث عن العمل وسبب طرده.

تعاطفت معه المرأة الأربعينية. وعدته أنها ستجعلهُ يباشر بالعمل من يوم غد بعيدا عن هذه المدينة حتى يتخلص من شرّ عمِّه سالم المكروه وأفعاله الخبيثة مع كل الناس. ذهب معها إلى منزلها ليقضي أول لياليه في رحلة التشرد. وفي الصباح اوصلته الى

مرآب مدن الوسط، أعطته أجرة السيارة التي ستنقله الى المدينة التي سيعمل بها، حيث هناك أخوها ناصر في أحدى نواحيها يُدير معمل نجارة ويحتاج الى عامل دائمي معه. زودّته برقم هاتف وعنوان معمل أخوها حتى يذهب إليه مباشرةً.

غادر چاچي مدينته البصرة ووصل إلى مكان العمل ليلاً. اتفق معه صاحب المعمل على مبلغ الأجر اليومي الزهيد وساعات العمل وفرّغ له غرفة صغيرة فيها سرير وبراد ماء قديم وشاشة تلفاز أسود وابيض في نهاية المعمل لتكون بيته الجديد للراحة والنوم بعد العمل.

استمر چاچي بالعمل في معمل الخشب لأكثر من سبعة أعوام. بعدها أفلس المعمل وتم إغلاقه. ثلاث مئة ألف دينار كل ما استطاع چاچي إدخاره من عمله في المعمل؛ أما الباقي فقد كان يدسّه بجيب سنوات المراهقة. وما أن خرج و ودّع صاحب المعمل حتى ذهب ليشتري ملابس جديدة؛ چاچي منذ طفولته يحب الأناقة والمنظر الجميل. انتقل بعد شراء الملابس إلى أحد الأحياء الشعبية جنوب المدينة التي دخلها قبل أكثر من سبع سنوات, أستأجر غرفة يسكن فيها إلى ان يحصل على عمل جديد. مرّ شهر ونصف ولم يحصل چاچي على فرصة عمل توفّر له تكاليف ايجار الغرفة والطعام وعلبة السجائر. في الليل دخل عليه مالك الغرفة وأخبره أن يترك الغرفة صباح يوم غد؛ لأنه استأجرها لشخص آخر يستطيع دفع مبلغ الايجار بموعده المحدد ولا يماطل ويحتال مثل چاچي.

من الغبش استيقظ چاچي، أرتدى قميصه الأبيض وبنطاله الأزرق الداكن، نفض عنهما الغبار، لملم كل ما يملك بكيسٍ شفاف، كيسٍ قديم سبق وان حصل عليه عند شراءه الخبز من مخبز الحيّ قبل أسبوع، وضع فيه علبة صبغ حذاءه الأسود مع فرشة تلميع، مسواك أسنان صنعته له أمه بنفسِها قبل أن تموت من شجرة الزيتون التي كانت تُغطي باحة بيتهم في البصرة، مشط صغير أصابه تسوس الزمن فتساقطت نصف أسنانه، شاحنة هاتفه وسماعات أذن واحدة. لولا شامات الفقر الملتصقة على ظل وجهه وسوء غذائه المستمر منذ أسبوع لارتعش كل من صادفه من جماله وأناقتِه.

دخل صاحب الغرفة عليه وأشار بذراعِه القصيرة إلى الخارج وكأنه الزعيم كيم جونغ أون.

- إنني راحل، راحل. رد عليه چاچي. سار أمامه بخطواتٍ راقصة غير ثقيلة. أغلق خلفه باب الغرفة المليء بالثقوب والاعوجاج،  كان صاحب البيت ينظر له بحقد وغيرة أثناء خروجه؛ كان مستاءً من أناقة چاچي ولمعان حذائه؛ فقط لأنه أنيق! كم حقيرة مثل هذه المواقف المتكررة بمجتمع هذا الحيّ، مثل هذا العجوز الذي ينظر إلى چاچي بكراهية فقط لأن منظره أنيق!

إنه الفجر، هو الشيء الوحيد الجيد في هذه المدينة عند چاچي، خاصة في فصل الصيف الذي لا يوجد فيه وقت جميل للتنفس والتأمل غير الفجر، شوارع هذا الحي الفقير الذي عاش فيه هذه المدة القصيرة مصرّحة بالبؤس، لا حدائق، لا خضار، لا أعشاب طبيعية، لا ثمار برتقال وتفاح متساقطة قرب جدران المنازل. آه يا ألهي حتى شوارع الفجر لم يُترك بها الخبز للمشردين والقطط. ردّد هذا بصوتٍ حزين. يمشي من شارعٍ إلى آخر ولا يدري الى أين، وما أبعد المحطات على من سقطت محطته في حفرة العدم، أنها المحطات البعيدة، أبعد حتى من الخلود. رجع يعاتب القدر والطبيعة والآلهة على هذه المدينة قائلا: ماذا بها هذه المدينة، لا بحر تهب منه نسائم الفجر، لا جبال تُذكرنا بصغر حجمنا، لا سكك قطار، لا حقول، لا مزارع، لا معامل ضخمة ينبعث منها الدخان، لا طرقات مزدحمة، لا مطار تذهب من خلاله الناس إلى أمّم أخرى، لا ملاهي ليلية تمتص سموم النهار من الأجساد والأرواح، لا ملاعب كرة قدم كبيرة يفرُ إليها الشباب بعد العمل، حتى أن أحزاب السلطة الحاكمة وحواشيهم يشكرون الرب والكهنة الكبار على هذا السكون في المدينة، ولا أدري على ماذا كل هذا الشكر! لكنهم بالتأكيد يشكرونه لأن هذه المدينة يُمكن سرقة أحلامها من ثقوب وسادة الغيب بكل سهولة، يمدّون أصابعهم بتلك الثقوب ويزرقون عقاقير التخدير بجماجم النائمين عليها، الوسادة التي ينام عليها نصف سكان المدينة منذ قرون. آه ما أسهل سرقة وجود الإنسان في مثل هذه المدن، خاصةً وهو نائم على هذه الوسادة. قالها چاچي بكل سخط.

وبينما دلف چاچي في فرعٍ ضيق من الأحياء الراقية في هذه المدينة، حتى سمع صوت يناديه: أيها الشاب الأنيق من فضلك. أستدار الى الخلف، امرأة عجوز تقف عند باب منزلٍ كبير وكأنه قصر، نظر إليها وأشار إلى نفسه:

- هل تقصديني أنا يا سيدتي؟
- نعم وهل في الزقاق شاب غيرك!
- نعم تفضلي، بماذا أساعدك أيتها الجدّة؟
نظرت واصطكت أسنانها ممتعضة من كلمة (الجدة)، وقالت:
- هل رأيت ظهري مقوّسًا حتى تقول جدة أيها الأنيق؟ على كل حال غفرتها لك، أسكنُ وحدي هنا، لقد احترق جهاز تحويل الكهرباء والمولد المنزلي، هناك في المطبخ فوق الباب من الداخل، البارحة اشتريت جهاز جديد لكن لا أستطيع تسليكه بدل الجهاز المحترق، فهل تساعدني في تثبيته؟ 
- نعم أستطيع، بالتأكيد، لكن..
- لكن ماذا؟ هيا تعال أدخل أيها الوسيم. فكّر چاچي بأن يخلقُ كذبةً تساعده للحصول على طعامٍ من هذه العجوز، أقترب منها وقال:
- أنا جائع وذاهب لأتناول وجبة باقلاء وبيض في سوق المدينة.
- ما رأيك أن تفطر معي، سأحضر لك كل ما تشتهي حتى تشبع، وبعدها تقوم بربط الجهاز الجديد.

دخل چاچي خلف العجوز الضاحكة وهي تمشي كمراهقة. طلبت منه الجلوس في الحديقة بينما تُجهز له الفطور. حديقة جميلة بأنواع الورد المبعثرة في أطرافها، منذ زمنٍ طويل لم يندهش بشيء، لذلك ظل ينظر إلى كل شيء حوله باندهاش. وما أن مرّت أقل من نصف ساعة حتى خرجت إليه العجوز من المطبخ وهي تناديه لتناول الفطور. لكن الدهشة الأكبر حين رأى العجوز كيف تغيرت، ظل مندهشا وهو ينظر لها قبل أن يقوم من مكانه، حتى حسب أنها مجنونة أو فيها شيء ما، خلعت ملابسها ولبست قميص نوم أزرق، سرَّحت شعرها الأبيض، وضعت عشرة أنواع من المساحيق على وجهها. حاول أن لا يظهر علامات الاستغراب على وجهه، أبتسم لها وقام من مكانه نحو المطبخ. كانت طاولة الضيافة مليئة بالطعام، أكل حتى شبع. ارتشف كوب الشاي الحار وكأنه يحتسي كأساً من الفودكا.

طلب منها أن تُدلّه على مكان الجهاز ليقوم باستبداله، أشارت له: ذاك، فوق باب المطبخ من الداخل، خذ هذا الكرسي وأصعد عليه لأنه مرتفع. وما أن صعد على الكرسي حتى اقتربت منه العجوز، ناولتهُ آلة فك البراغي ليرفع الجهاز القديم، بينما هو يفك بالبرغي الثاني حتى شعر بخدرٍ يتصاعد من أسفل ساقيه حتى فخذيّه، خدر يتصاعد، نظر الى الأسفل، ورأى العجوز واضعة رأسها بين ركبتيه وتُدلّك بساقيّه من الأسفل حتى الأعلى، تفرك بأطراف أصابعها فوق بنطاله الأزرق. ألتقت عينه بعينها، ابتسمت له وسقطت على الأرض، تطاير ثوب النوم القصير عن جسدها، واتضحت كل معالم جلدها المتجعد وعظامها البارزة. طلبتْ منه أن ينزل ويساعدها للوقوف، وما أن نزل من الكرسي حتى سحبته وارتمت بكل غنجها المضحك وأنوثتها الثائرة منذ زمنٍ سحيق بأحضانه.

-لقد بلغتُ ذروة الاشتهاء بالنوم معك أيها الشاب الوسيم، أتوسلُ أليك بأن تضاجعني من كل مكان. همست العجوز بأُذن چاچي بغنجٍ ونصف إغراء؛ النصف الآخر أبتلعه الزمن منذ أن سقطت جميع أسنانها. چاچي بدأ يستسلم للعجوز وهي تفك بأزرار قميصه، تمسك يديه بقوة وتطلب منه أن يحرقها بشهوتِه ويُكثر من مداعبة وتدليك جلدها حد التمزيق. كانت العجوز مشتعلة بما يكفي لإشعال كل الحطب الذي في رأس چاچي، أصبح الأثنان عاريان، مارس چاچي العلاقة الحميمية بين كارهِ لما يفعله مع عجوز بالغة سن اليأس والشيخوخة وبين استسلامه لشهوته التي اشتعلت خارج سيطرته، وما أنتهى من تفريغ شهوته حتى أومأت له برأسها بأن يفعل مرةً أخرى، كان جبينها يتصبب عرقاً، أطرافها تخشّبت وأنفاسها تلهث وكأنها تمر بسكرات الموت، ظلت تهز برأسها وأطرافها تلتف على جسد چاچي إلى أن استقرت للأخير وأغمضت عيناها وأرتخى جسدها تماما وكأنها نامت.

قام چاچي وارتدى ملابسه، قامت العجوز بعد لهاثٍ طويل لتلبس ثوبها وهي تئن، تئن بابتسامة وكأنها جُنّت، أخبرتهُ إن لا داعي لتركيب الجهاز على الحائط اليوم، طبعتْ على خدِه قبلة، طلبت منه أن يعود لها غداً لإكمال تركيب الجهاز، أكدت عليه ذلك لأكثر من مرّة، أبتسم بوجهها، أخرج من كيسه الفرشاة وعلبة الطلاء، انحنى ولمّع حذائه، أعاد الفرشاة والعلبة داخل الكيس، ضحك مرّة أخرى بوجه العجوز ثم خرج من غير أن ينطق بأي كلمة.

قضى چاچي نهاره يطوي مسافات التشرد من زقاقٍ إلى آخر حتى دبّ الملل في جسمِه المتراخي، واصل سيره حتى استراح بالقرب من علوة الخضار القديمة، استيقظ بجسده النعاس، نام هناك حتى حلّ الغروب، ومن حسن حظه أن في تلك الليلة كانت هنالك مراسيم إحياء مناسبة دينية في هذه المنطقة، يقومون الأهالي باستقبال كل عابرٍ ويقدمون له الطعام والمسكن وكل خدمة يحتاجها للحصول على الثواب.

چاچي يجلس امام مائدة طويلة جدا، أنواع المأكولات والمشروبات، تترامى الأنظار بين الجالسين، كان يأكل من كل صحنٍ تصل يده إليه.

بعد أن أرتشف كوب الشاي، وضع كيسه الشفاف بالقرب من رأسه، مدّد جسده على الفراش، يبتسم للجموع المزدحمة في صالة الضيافة، يُفكّر أين سيقضي ليلته القادمة؟ وما أن خدّره الحنين إلى أشياءٍ ابتلعها مريء الماضي حتى نام.

الذهاب إلى بيت العجوز المراهقة الطيبة والكريمة، هذا أول ما خطر على بال چاچي عندما خرج أول لحظات الفجر من بيت الأهالي الذين استضافوه الليلة الماضية؛ إذ وعدها بأن يأتيها ويركّب جهاز حماية الكهرباء المنزلي في الصباح.
يمشي في الشوارع الخالية من البشر، بنفس الطريق الذي سلكه البارحة، يسيطر عليه الاطمئنان والهدوء أثر سماعة للموسيقى الصينية؛ إنها الموسيقى التي تُرمّم تصدعات النفس. وما ان أقترب من منزل العجوز بعد ساعتين من المشي حتى توتُّر بؤبؤ عينيه

وانصدم، وجد على جدار منزلها قطعة قماش سوداء مُعلقة، أقترب منها ليقرأ ما كُتب عليها: انتقلت الى رحمة الله الحاجة صفية إثر حادثٍ مؤسف...

كان يظن أن هذه اللافتة لبيت آخر وليس للعجوز نفسها، ولم يكن أمامه سوى الدخول الى المنزل ومعرفة كل شيء.

ما ان دخل چاچي باب المطبخ من جهة الحديقة حتى تم إلقاء القبض عليه، خمسة نفرات من رجال الشرطة، قيدوا يديه، صرخ بوجههم إنه ليس لص وجاء فقط ليركّب جهاز الحماية الكهربائية للعجوز، حاول معهم بأن يستمعوا اليه ولكن وضعوا اللاصق على فمه واشتغلوه بالضرب المبرح، أخرجوه حيثما تأتي سيارة الحجز التي أخفوها بالفرع الثاني من أجل الكمين، بعدها أرسلوه الى التوقيف المؤقت ريثما يتم التحقيق بالقضية.

بينما كان يشكر الله لأنه حصل على محل إقامة في السجن لينام ويأكل مجاناً رغم استغرابه وعدم معرفته السبب، صاح باسمه حارس التوقيف في اليوم الثاني واقتاده الى غرفة التحقيق.

أجلسوه على كرسي في غرفة رهيبة الملامح ومرعبة الإضاءة، دخل عليه ذلك الضابط الضخم والعملاق، يمسح شاربيه الكثيفين بقبضته الصخرية، نظر إلى چاچي بابتسامة يسيل منها الرعب والخبث، جلس أمامه وقال:

- الآن قل لي أيها المجرم الأنيق، كيف فعلت جريمتك الشنيعة؟
- أنا لست مجرمًا يا سيدي، ولم أفعل شيئاً؟
قهقه ضابط التحقيق وأكمل حواره مع چاچي:
- وماذا نصف القاتل، اذا لم تكن مجرماً؟
- قاتل! سيدي ارجوك أن تخبرني عن ماذا تتحدث حتى أساعدك، فأنا حتى الان لا أعرف السبب الذي دعاكم الى حبسي.
- لا تعرف اذن، حسناً سأقول لك السبب وماهي جريمتك، وبعدها ستتوقف عن التنكر وتعترف بالأسباب التي دعتك الى الجريمة.
- تفضل سيدي أخبرني.
- العجوز التي دخلت بيتها وأمسكنا بك فيه، ماتت منذ يومين، وبعد فحص الجثة لمعرفة سبب الوفاة في الطب العدلي، تبيّن انها ماتت بعد تعرضها لعملية اغتصاب وممارسة الجنس معها لأكثر من مرّة، والبارحة بعد ما قمنا بتسكيرك في غرفة التوقيف،

استطعنا وبطريقتنا الخاصة أن نحصل على عينة من نُطْفَة عضوك الذكري. وبعد إجراء الفحوصات المختبرية الكاملة من قبل الأطباء الشرعيين تبيّن انها مطابقة للنطف العالقة داخل رحم الضحية، وعلى أثر هذه المضاجعة ماتت. ولكن دم القاتل لا يمكنه أن يبتعد عن الجريمة التي ارتكبها، وها هو الله أتى بك لتنال حقك.

- سيدي صدقني انا لم أفعل شيء، هي من اغتصبتني ولست أنا، كنت عابراً من جوار منزلها وطلبت مني مساعدتها بتركيب جهاز حماية الكهرباء المنزلي، وبعدها خلعت ثيابها وراحت تتوسل بي لأمارس الجنس معها، صدقني سيدي، حتى هي من طلبت أن أضاجعها مرتيّن، اما عن سبب عودتي فهي طلبت مني ان لا اكمل تركيب الجهاز وان اعود في اليوم الثاني لتركيبه.
- وكيف أُصدّق كلامك هذا؟
- فوق الباب الداخلي للمطبخ، هنالك جهاز حماية منزلي معطوب، ستجد بجانبه مفك البراغي، كذلك ستتأكد من أنني فككت برغي واحد أو أكثر ولم أُكمل فك البراغي الأخرى بسبب طلبها.
وما أن أرسل القاضي وضابط التحقيق لجنة تحقيق وكشف من المحكمة للتأكد من صحة ما قاله چاچي حتى تأكدوا أن اعتراف چاچي صحيح الى درجة كبيرة وكذلك بعد رؤية تسجيل الكاميرات الخارجية التي بيّنت جزء كبير من مصداقية اعتراف چاچي، ولكن ضابط التحقيق نوى أن يجري صفقة مع چاچي يستفاد منها الطرفين.
- ما رأيك يا چاچي أن نجري صفقة؟
- كيف؟ صفقة بماذا سيدي؟
- أيها الشاب الأنيق، عرفنا من خلال معلوماتنا  الاستخبارية انك شاب فقير ومسالم ولا تملك حتى غرفة تنام فيها، وأنت الآن امام خيارين، الأول ان تختار إكمال حياتك بالسجن المؤبد، والثاني أن نتعاون أنا وإياك فقط لخلق خطة تُنقذك من السجن وتغنيك ايضاً. الخطة هي أن نزوّر مستمسكات وأوراق ثبوتية تُثبت انك زوج العجوز، وحينها تكون بريء وفِي الوقت نفسه ستكون الوريث الوحيد لأملاك العجوز الهائلة، إنها تملك فندق في العاصمة ومحلات تجارية في مركز مدينة البصرة والقصر الذي تعيش فيه وأملاك أخرى. وبعد أن ننجح بالخطة وتتحول كل الأملاك لك، تكون حصتي من هذه الصفقة هو الفندق، وحتى لا تُثار الشكوك حولي تقوم بتحويل الفندق بأسم زوجتي. ولك حرية الخيار، ما رأيك؟
- بالحقيقة انها خطة عظيمة وتجعلني ثري، لا مانع من ذلك يا سيدي.
- لكن تأكد أنني قادر على كشف حقيقتك لو حاولت اللعب معي بعد أن تكون كل الاملاك باسمك رسمياً.
- انا تحت امرك يا سيدي، وسأفعل كل ما تريده.

ما أن مرّت ثلاثة أشهر على هذه القضية حتى حصل چاچي على كل الأوراق التي تُثبت أنه زوج العجوز واعتذرت له إدارة السجن عن المدة التي قضاها في السجن ظلماً، أصبح چاچي الوريث الوحيد لكل أملاك الحاجة صفية، وكل هذا كان بمساعدة وقدرة ضابط التحقيق وعلاقاته بالمزوّرين بإنجاح الخطة.

وبعد خروج چاچي بأيام قابله ضابط التحقيق بعيداً عن البيت، لكن هذه المرّة كان الضابط متواضعا ولم يقبض شاربيه بقبضته مثل كل مرّة، قِبَّل چاچي خدّ الضابط علامة منه للامتنان على كل ما فعله من أجله وقال:

- أنا بخدمتك سيدي وكل طلباتك أوامر.
-ليس لدي طلبات غير الفندق الذي في العاصمة، عليك أن تحوّل ملكية الفندق بأسم زوجتي غداً، حتى لا يشك بالصفقة أحد المسؤولين في الوزارة، وبهذا تنتهي الصفقة التي بيننا وندفن هذا السر وتكتمل الخطة.
- اتفقنا سيدي.
ذهب الضابط باتجاه سيارته الشخصية، أخرج چاچي هاتفه من جيب سترته الأمامي وضغط على زر الإنهاء، رجع چاچي من المقابلة وهو يضحك كالمجنون. استطاع أن يكون قائد الصفقة والرابح الوحيد فيها؛ حيث قام بتصوير كلام ضابط التحقيق كله، وصار بإمكانه ان يبتز الضابط بإرسال وثيقة فساد تُدينه الى مفتّش الوزارة الموثقّة بالفيديو.

بعد أيام قرّر چاچي السفر للبصرة لتفقّد أملاكه الجديدة فيها والتي ورثها من الحاجة صفية. أنه يرجع لمدينة الذكريات، المدينة التي خرج منها فقيرا ومشردا ومطرودا، يدخل إليها وهو صاحب ثروة وأملاك فيها. كان چاچي متوقعاً من مواجهتِه لأحداث مفاجئة في حياته أو عقبات تسبب له الصدمة بعدما تحولت أوضاعه بين ليلة وضحاها، لكن لم يتوقع أبداً أن يأتي يوم ويحدث مثل هذه الصدفة والموقف العجيب الذي أثلج قلبه اليوم.

المحل الذي كان يعمل به حمالاً بدون أي أجر، المحل الذي كان يقضي فيه ساعات العصر كعبدٍ تحت إمرة عمِّه السيد المتوحش، عمّه الذي عامله بالضرب والتعذيب وتزوج أمه غصباً حتى جلب لها الأمراض وماتت بسبب تعذيبه النفسي لها، المحل الذي طُرد منه قبل ثماني سنوات، يقف الآن عند بابه العريض، يحملق بوجوه الداخلين والخارجين منه. دخل للمحل متفحصاً كل ما فيه وبيده سند ملكيته للمحل المُسجّل باسمه الكامل مع محلاتٍ كثيرة بجواره. لم ينطق چاچي بأي كلمة، فقط وضع السند امام عمه وظل يضحك. يضحك بصوتٍ مرتفع.
 

اقرأ/ي أيضًا

أطفال للبيع 

رسالة إلى السيد عين: الاسكندرية والخريف

أمومة ماء وشعير