14-يوليو-2021

كتاب "يوميات عارف العارف في إمارة شرق الأردن 1926 – 1929" (ألترا صوت)

أواخر حزيران/ يونيو عام 1926، تولى عارف العارف (1892 - 1973) مهامه بصفته سكرتيرًا عامًا لحكومة شرق الأردن، أو ما كان يُعرف حينها بـ "مجلس النظَّار" الذي ترأسه آنذاك حسن خالد أبو الهدى، وكان العارف أحد أعضائه المؤثرين، لا سيما وأن أبو الهدى عَهِدَ إليه غير مرة بترأسه أثناء غيابه.

وصل عارف العارف إلى عمَّان في مرحلةٍ حرجةٍ في تاريخ الأردن، سمتها الأبرز الاضطراب والفوضى والاحتقان السياسي

ومن موقعه في "مجلس النظَّار"، السلطة التنفيذية في الإمارة، وعلى امتداد ثلاث سنواتٍ تقريبًا، عاين العارف الظروف التي أحاطت بولادة الدولة الأردنية، خاصةً داخل أروقة الحكم ودوائر صنع القرار. ورصد أيضًا، في الوقت نفسه، مكامن الخلل في بنية مختلف أجهزة الدولة الأردنية آنذاك، لا سيما الإدارية والقضائية وحتى الأمنية أيضًا.

اقرأ/ي أيضًا: كتاب "المسلمون والحداثة": من الفضول الجغرافي حتى الجغرافيا المُستعمرة

إدراكًا منه، على ما يبدو، لأهمية تلك المرحلة وضرورة التأريخ لها، دأب مؤلف "تاريخ بير السبع وقبائلها" طيلة سنوات وجوده في عمَّان، على تدوين يومياته التي روى فيها وقائع تلك المرحلة، وبيَّن عبرها موقعه فيها وموقفه منها أيضًا، وهي اليوميات التي صدرت مؤخرًا عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" تحت عنوان "يوميات عارف العارف في إمارة شرق الأردن 1926 – 1929"، تحقيق وتقديم: علي محافظة، ضبط ودراسة ومقابلة النصوص: مهند مبيضين.

الأردن قبل حزيران/ يونيو 1926

وصل عارف العارف إلى عمَّان، قادمًا من يافا، في مرحلةٍ حرجةٍ في تاريخ الأردن، سمتها الأبرز الاضطراب والفوضى والاحتقان السياسي الذي ترتَّب على إقصاء الإنجليز، بمساعدة بعض رجالات الدولة الأردنية، لرجال حزب الاستقلال من مراكز صنع القرار وإدارة الدولة، وطردهم بعد ذلك خارج حدود الإمارة.

وتبدأ يوميات شيخ المؤرخين الفلسطينيين، بعد الحديث عن ظروف إعارته من قبل حكومة فلسطين الانتدابية للعمل سكرتيرًا عامًا لحكومة شرق الأردن، باستعراض أحوال الإمارة عقب إبعاد الاستقلاليين من جهة، وفشل الحكومات التي ترأَّسها مقربون من دار الاعتماد في تحقيق مطالب الأردنيين وتطلعاتهم من جهةٍ أخرى، معيدًا أسباب هذا الفشل إلى تدخلات المعتمد البريطاني في شؤون إدارة الدولة، وتقاعس المسؤولين الأردنيين عن مواجهته ووضع حدٍ لإملاءاته.

في هذا السياق، يشير صاحب "النكبة: نكبة بيت المقدس والفردوس المفقود" في مطلع يومياته، إلى أن أول ما لاحظه بعد لقائه بالمعتمد البريطاني في إمارة شرق الأردن، هنري كوكس، أن الأخير هو: "الحاكم المطلق، وليس الأمير عبد الله، وأنه الناهي في البلاد، يفعل فيها وفي حكامها ما يشاء" (ص 52).

حدد العارف في يومياته أسباب فشل عملية بناء الدولة الأردنية وضبط أمنها وتنظيم وإصلاح مؤسساتها أيضًا

يختزل العارف في تدوينه للحديث الذي دار بينه وبين المعتمد البريطاني، واقع الأردن وأحواله في عشرينيات القرن الفائت، حيث يسعى البريطانيون لبسط هيمنتهم على مؤسسات الدولة، والانفراد في تسيير أمورها وفق ما يتناسب مع مصالح بلادهم، خصوصًا بعد نجاحهم في طرد الاستقلاليين، وفي مقدمتهم رشيد طليع، رئيس أول حكومة تُشكَّل في شرق الأردن بعد الاستقلال.

اقرأ/ي أيضًا: كتاب "هل انتهى القرن الأمريكي؟".. ريادة أمريكا عوضًا عن هيمنتها

يروي الكاتب أن الإنجليز بذلوا جهدًا كبيرًا لإسقاط حكومة طليع من خلال التضييق عليها بأشكالٍ مختلفة، والسبب مواقفه التي تُعارض سياساتهم بل ووجودهم بأكمله، إذ كان طليع رافضًا للوجود العسكري البريطاني في الأردن، ساعيًا إن لم يكن لإنهائه، فللمحافظة على أعداد الجنود البريطانيين دون زيادة، إلا أن مساعيه هذه قوبلت بمعارضة الأمير عبد الله الذي كان على خلاف معه في مسائل أخرى مختلفة، منها إجراء انتخابات لتشكيل مجلسٍ نيابي يمثل الأردنيين ويراقب أداء السلطة التنفيذية.

وحول خلافات الأمير عبد الله الأول ورئيس حكومته، يروي العارف أن طليع حاول، عبثًا، إقناع البريطانيين بأن البلاد: "في حاجة لقوة لا تقل عن ألف وخمسمائة جندي ليتمكن من تحصيل الضرائب وجباية الأموال اللازمة للإصلاح والتعمير والإدارة المعتادة. فقد أصر الإنجليز على ألا تزيد تلك القوة على 750، وقد تعهدوا بدفع نفقاتها شريطة أن يتولى قيادتها ضابط بريطاني، وهو فريدريك بيك، فاعترض على ذلك رشيد طليع، ولكن الأمير لم يؤيده بل أيَّد المعتمد" (ص 69).

يضربُ من قدَّم "المفصل في تاريخ القدس" مثالًا آخر، فيقول: "وكذلك كان موقف الأمير من الخلاف الذي نشب بين رشيد طليع والإنجليز عندما احتج على قدوم جنود بريطانيين ونزولهم في ماركة بحجة المحافظة على الطائرات البريطانية التي استقرت هناك، وعددها أربعة، فقد خذل الأمير رئيس مشاوريه، وأبدى ارتياحه لوجود الطائرات الإنجليزية وحراسها البريطانيين" (ص 69).

رغم إيجاز العارف الشديد في تصوير أحوال الأردن قبل تولي حكومة حسن خالد أبو الهدى مهامها، إلا أنه حدد في يومياته أسباب فشل عملية بناء الدولة وضبط أمنها وتنظيم وإصلاح مؤسساتها أيضًا؛ وهي، أولًا: إملاءات المعتمد البريطاني وتدخلاته برفقة موظفيه المنتشرين في جميع مؤسسات الدولة، في إدارتها وتسيير شؤونها وشؤون الحكم التي يُفترض أنها داخلية تخص الأمير وأعضاء حكومته فقط.

يروي العارف أن أول ما لاحظه بعد لقائه بالمعتمد البريطاني، هو أنه الحاكم المطلق، وليس الأمير عبد الله

أما السبب الثاني، فهو انصراف رجالات الدولة، بما فيهم الأمير، عن مواجهة التدخلات البريطانية المستمرة والفظة في شؤونهم الداخلية، بل وسعيهم الدائم لكسب رضا المعتمد البريطاني، والنزول عند رغباته في مختلف مسائل الحكم. فيما يكمن السبب الثالث والأخير، في كيفية تعاطي الحكومات المتعاقبة مع القطاع الوظيفي الغارق في الفساد والفوضى، نتيجة تعدد ولاءات العاملين فيه. يقول المؤرخ الفلسطيني: "والأنكى من هذا وذاك، انتساب كل واحد من الموظفين، بلا استثناء، إلى حزب من الأحزاب. لا، أستغفر الله، فقد أردت القول: إلى زعيم من الزعماء، أو باشا من الباشوات، وما أكثر الباشوات في هذه البلاد" (ص 82).

اقرأ/ي أيضًا: كتاب "وجهًا لوجه".. قصة حب غريبة الأطوار

حكومة حسن خالد أبو الهدى

لا تختلف حكومة حسن خالد أبو الهدى عن سابقاتها، بل إن عهدها بدأ من حيث انتهت عهود الحكومات السابقة لناحية الانصياع للإرادة البريطانية، إذ يذكر عارف العارف أن أبو الهدى لم يُطلِع أيًا من أعضاء الحكومة على بيانها الذي تبيَّن لاحقًا أنه: "من وضع دار الاعتماد البريطاني في عمَّان. ومن يدري، لعل دار الاعتماد أيضًا استشارت وزارة المستعمرات في لندن قبل وضعه! ذلك هو الفصل الأول من فصول المهزلة التي جئتنا – على ما يظهر – لنمثلها في هذه البلاد" (ص 77).

أما بقية فصول المهزلة، فلا تبتعد عن تدخلات المعتمد البريطاني المستمرة في عمل الحكومة وفرض إملاءاته عليها بشكلٍ مباشر، فيأمر بتعيين هذا، أو فصل ذاك. ومثالًا على ذلك ما يذكره مؤلف "القضاء بين البدو" حول رسالة المعتمد إلى أبو الهدى يخبره فيها أنه: "حان الوقت الذي يجب أن يُنقل فيه قائمقام العقبة نجيب بك محمود، إلى مكانٍ آخر" (ص 208).

ويضيف العارف هنا: "تذكرت كتابًا كان المعتمد أرسله إلينا قبل بضعة أيام، وقد قال فيه إنه لا يوافق على تعديل اقتراح الرئيس حول رواتب اثنين من السعاة (...) وتذكرت أيضًا كتابًا تلقته الحكومة من المعتمد أمس الأول وفيه ينصحها أن تعني بنظافة المراحيض، وإحكام السد لفوهات الآبار (...) قلت في نفسي، ما هي علاقة الآبار والمراحيض، ورواتب السعاة، ونقل القائمقام من مكان إلى مكان بالانتداب الذي فرضوه علينا؟ ولكن ليسوا هم، وإنما نحن الجناة لأننا نسمح لهم بالتدخل في شؤوننا إلى هذا الحد" (ص 208).

يكشف العارف أن التدخل البريطاني لم يكن محصورًا في شؤون الحكم فقط، بل شمل أيضًا بعض شؤون الأمير العائلية

لا يتعدى ما سبق ذكره مجرد نموذجٍ من نماذج أخرى عديدة للتدخل البريطاني، شبه اليومي، في شؤون إمارة شرق الأردن. وهي نماذج، على بساطتها، تدل على المستويات التي بلغتها الهيمنة البريطانية على قرار الدولة الأردنية خلال تلك المرحلة من تاريخها.

اقرأ/ي أيضًا: صراعُ العروشِ وتطييفُ الحربِ والسّلمِ وشيعةُ شمالِ الشام لجمال باروت

ولا يتعلق الأمر هنا بنقل قائمقام أو عزل آخر فقط، وإنما بإجبار حكومة حسن خالد أبو الهدى، شأنها شأن الحكومات السابقة، على إمضاء اتفاقياتٍ والدخول في أخرى دون اطلاعها على مضمونها. بل وحتى إجبارها على منح مشاريع سيادية ممولة من خزينتها، لشركاتٍ انفرد البريطانيون بالتفاوض معها دون العودة إلى المعنيين في الدولة الأردنية أو استشارتهم.

عارف العارف والأمير عبد الله

يكشف عارف العارف في يومياته، أن التدخل البريطاني لم يكن محصورًا في شؤون الحكم وإدارة الدولة فقط، بل شمل أيضًا بعض شؤون الأمير العائلية، ومنها مسألة تعليم ابنه نايف الذي أراد الأمير إرساله إلى مدرسة عربية، إلا أن إرادته هذه قوبلت برفض الإنجليز الذين اقترحوا عليه تعليمه في إحدى مدارسهم.

الملفت في هذه الحادثة، هو عدم قدرة الأمير عبد الله على المضي في تنفيذ ما أراده بسبب فشله في الحصول على الموافقة البريطانية. يقول العارف حول هذه المسألة: "كانت نتيجة هذا الأخذ والرد أن عدل الأمير عن إرسال ولده إلى المدرسة، حتى لو بقي طيلة عمره جاهلًا (...) ظل الأمير طوال الوقت عابسًا (...) وقد ختم حديثه بقوله: سبحانك يا رب، إنهم حتى في شؤوننا الخاصة وفي تعليم أبنائنا يريدون فرض إراداتهم علينا" (ص 127).

ولأن يومياته لم تخلُ من النقد الذي طال مختلف المسائل التي تناولها، والشخصيات التي جاء على ذكرها أيضًا، تضمن حديث المؤرخ الفلسطيني عن الأمير عبد الله، قدرًا عاليًا من النقد، لا سيما في المسائل المتعلقة بعمل الحكومة وإدارة شؤون البلاد. فمن بين ما يرويه أن الأمير لم يكلف نفسه عناء قراءة الدستور الذي أعدَّه البريطانيون، بسبب ضيق وقته: "سبحان الله! دستور يُسن، ودستور يُقرأ، ودستور يُصحَّح، في أقل من لمح البصر، وأمير يضيق صدره في مسألةٍ حيوية كهذه لأنه مدعو لتناول الطعام عند شيخ من شيوخ بني صخر". (ص 149).

لم تختلف حكومة حسن خالد أبو الهدى عن سابقاتها لناحية الانصياع للإرادة البريطانية وتنفيذ إملاءات المعتمد البريطاني

ويبدي مؤلف "تاريخ غزة" في يومياته، استيائه من انصراف الأمير عن الاطلاع على أحوال البلاد بنفسه، واعتماده على حسن خالد أبو الهدى وغيره من المسؤولين المقربين منه، في معرفة ما يدور خارج القصر، خصوصًا وأن أولئك كانوا يخفون عليه أوضاع البلاد الاقتصادية الصعبة. وفي كل الأحوال، لم يكن باستطاعة الأمير تغيير الوضع القائم، بل وكان، وفق تعبيره: "عاجز وراضٍ عن هذا الوضع، شريطة أن يبقى في كرسي الإمارة" (ص 173).

اقرأ/ي أيضًا: مقطع من كتاب: في عبثيّة تجميل صورة "إسرائيل"

استياء الأردنيين من الأمير وحكومته، سيأخذ منحىً تصاعديًا بعد توقيع المعاهدة الأردنية – البريطانية عام 1928، بالإضافة إلى إقرار الحكومة للقانون الأساسي، الدستور، لإمارة شرق الأردن الذي وضعته: "وزارة المستعمرات في لندن، وقد أرسلوه للمجلس، فوقعه الأعضاء دون أن تتاح لهم الفرصة في تعديل أي بند من بنوده، ولا سيما المادة 16 التي تخوِّل الأمير، وورثته من بعده، السلطات التشريعية والإدارية كلها دون تمييز!" (ص 192).

وفي ضوء ما ترتب على توقيع المعاهدة الجائرة، وإقرار القانون الأساسي، إلى جانب غيره من القوانين السابقة، مثل قانون الجرائم، والعقوبات المشتركة، والنفي والإبعاد؛ حمَّل عارف العارف الأمير مسؤولية الفوضى التي ألمَّت بالأردن خلال تلك المرحلة، ووجَّه إليه نقدًا حادًا في يومياته أيضًا، حيث وصفه بأنه: "آلة صمَّاء تحركها دار الاعتماد من وراء ستار، وهو – في ملتي واعتقادي – مصدر الداء وأصل كل بلاء حل بنا في هذه الديار" (ص 226).

عارف العارف وجماعة أنصار الحق

يتحدث العارف في الجزء الأخير من يومياته، عن تأسيسه برفقة صالح بسيسو، وشكري شعاعة، وعبد الكريم الخطيب، وسعيد الخطيب، وجميعهم موظفون بارزون في الدولة، جماعة معارضة حملت اسم "أنصار الحق"، هدفها: "توجيه الشعب وتنبيهه إلى واجباته، وحثه على المطالبة بحقوقه؛ تلك الحقوق التي لخصناها في تأسيس حياة نيابية صالحة، وإجراء انتخابات حرة لمجلس نيابي يتمتع بما تتمتع به المجالس النيابية في العالم الحر" (ص 202).

واستطاعت هذه الجماعة التي تأسست بعد توقيع المعاهدة البريطانية – الأردنية، ووضعت نصب عينها: "مقاومة الانتداب البريطاني ورفض المعاهدة التي يريد الإنجليز فرضها على البلاد، وإلى أن نحصل على استقلالنا كاملًا غير منقوص" (ص 234)؛ استقطاب عددٍ كبيرٍ من الموظفين البارزين في الدولة، على أن أهم إنجازاتها هو المؤتمر الوطني الذي عُقد في 25 تموز/ يوليو في عمَّان، وأقرَّ فيه المجتمعون الميثاق الوطني الذي ضم أحد عشر بندًا، شدد مضمونها على استقلال الأردن، ورفض وعد بفلور.

عاين المؤرخ الفلسطيني عارف العارف على امتداد ثلاث سنواتٍ تقريبًا الظروف التي أحاطت بولادة الدولة الأردنية

تنتهي يوميات عارف العارف بتقديمه استقالته من عمله في حكومة شرق الأردن، بعد انكشاف نشاطه في جماعة أنصار الحق للمعتمد البريطاني هنري كوكس الذي طلب منه العودة إلى فلسطين، ميسِّرًا له، وبحسب قوله: "الفرصة لانسحابي من هذه البلاد، وقد كنت أبحث عن فرصة ملائمة للانسحاب منها قبل اليوم" (ص 236).

اقرأ/ي أيضًا: "سياسة الإذلال".. في تفكيك العار وأدواره

ويضيف شيخ مؤرخي فلسطين: "الانسحاب من هذه البلاد – ولا سيما في هذه الآونة – خير لي من البقاء فيها؛ ذلك لأننا قادمون على انتخابات اعتزمت الحكومة أن تطبخها، شئت أم أبيت (...) إذًا فلأرحل عن هذه البلاد، قبل أن أسجل على نفسي العار" (ص 236 – 237).

 

اقرأ/ي أيضًا:

كتاب "المرأة في العصور الوسطى الإسلامية".. تهافت الصورة النمطية للمرأة المسلمة

"نقد الذات".. مساءلة التجربة الإيرانية ومحاكمتها