07-فبراير-2021

تمثال يوسف العظمة في الساحة التي تحمل اسمه في دمشق

لطالما فشلت، ليس في الكتابة عن يوسف العظمة فحسب، بل في القراءة عنه! ولطالما كنت أمرّ سريعًا على الفقرات التي تتحدث عنه في الكتب، وفي الإنترنت، وفي الصحافة، لأسباب بدت دائمًا غامضة، كنت كأنني أُرجئ قراءته ضمن ظروف خاصة بمرحلته، خاصة بمعركة ميسلون وبالانتداب الفرنسي وبإنذار غورو، وغيرها... كنت كأنني أريد تجميع ما كُتب عنه لأقرأه شخصًا منفردًا، واحدًا، أحدًا كشخصيات هوميروس وفرجيل وسوفوكليس... كأنني أراه بطلًا تراجيديًا لا ينتمي لزماننا الرخو، بل لتلك الأزمان الصحيحة التي بُني فيها العالم على القيمة. لم يحدث تقريبًا ولا مرة أن مررت، وهذا كان يحدث كثيرًا، أمام تمثاله الشاهق، الباذخ في ساحة يوسف العظمة التي تسمى أيضًا ساحة المحافظة في دمشق، إلا وقفت ناظرًا إليه بتهيّب، وبخفقان قلب، وبمشاعر شديدة الخصوصية لدرجة أنني لا أقدر على وصفها. 

ثمة شخصيات لا يمكن الكتابة عنها أو حولها، ثمة من لا تستطيع الكتابة عنه محايدًا كما يتطلب البحث العلمي، والكتابة الرصينة، ثمة من تكتب عنه بالدم أو بالدموع

ذات مرة صنعوا في سوريا طابعًا بريديًا ووضعوا عليه صورته؛ اشتريت حينها الكثير من تلك الطوابع دون حاجتي لها في أية إضبارة رسمية، ووضعتها في كتاب لساطع الحصري عن معركة ميسلون ويوسف العظمة، ولم أفتح الكتاب إلامتأخرًا جدًا عن تلك الواقعة. ولطالما شعرت بالامتعاض من أشخاص اسمهم يوسف وماكانوا بجدارة الاسم!

اقرأ/ي أيضًا: دمشق التي لي

ثمة شخصيات لا يمكن الكتابة عنها أو حولها، ثمة من لا تستطيع الكتابة عنه محايدًا كما يتطلب البحث العلمي، والكتابة الرصينة، ثمة من تكتب عنه بالدم أو بالدموع، لذلك أنا لا أكتب هنا عن يوسف العظمة، بل عني! ذات مرة طلب معلمي في الصف المدرسي أن نكتب موضوعًا تعبيريًا عن شخص نحبه: كالأب أو الأخ أو الأم أو المعلم، إلخ... فوضعت عنوانًا هو: يوسف العظمة، ولم أستطع سوى كتابة جملة واحدة: قاتل يوسفُ العظمة الفرنسيين لوحده ومات. قال المعلم: يا بني، هو لم يقاتل لوحده، كان معه جيش. عندما ذهبت إلى البيت تشاجرت مع أسرتي ورحت أصرخ  باكيًا: بل كان وحده، قاتلهم وحده!

ذات مرة، في العام 2006 طُلب إلي أن أشارك بموسوعة عن شخصيات سورية، وشعرت بفرصة تاريخية وشرفيّة لي أن أكتب عن بطلي الخاص: يوسف العظمة، كانت فرصة لأقرأ عنه وأعرفه كما ينبغي، ولأفسر تلك العلاقة الغامضة التي ربطتني بتلك الشخصية العظيمة التي رافقتني منذ كنت طالبًا في المدرسة ولم تزل. إذْ لطالما شعرت أن الملاحم التراجيدية خُتمت في بلاد الإغريق، وأنهم أغلقوا الباب نهائيًا عليها، إلا أن يوسف العظمة هو الذي أبقى ذلك الباب مفتوحًا بكل اتساعه لملحمة جديدة سورية هذه المرة، هي ملحمة الدفاع عن القيمة، ملحمة يوسف العظمة.

انغمست بالقراءة عنه في طقس تعبّدي لا قرائي، كنت أمسك الكتاب بيدين مرتجفتين، بعينين  مرتجفتين، بشفتين مرتجفتين، وبكثير من المشاعر الهشّة والإحساس بالاضمحلال، وكنت كلما تقدمت بالقراءة بكيت، وعندما باشرت الكتابة منعني البكاء من التقدم فيها، فمن يصدق أنني عوضًا عن أن أكتب، كنت أبكي!

لم يكن يوسف العظمة حزينًا لأبكي على/لأجل حزنه، ولم تكن حياته بائسة، لم يكن متروكًا ومهملًا ومغبونًا لأبكي، بل على العكس؛ كان قائدًا عسكريًا مطلوبًا ومرغوبًا لكفاءته العالية، وقد حقق انتصارات في الحروب التي خاضها في العديد من الدول خلال الحقبة العثمانية، وتقلد العديد من المناصب، لم يُحرم من التعليم، فقد تكلم العديد من اللغات أيضًا: إضافة إلى العربية؛ لغته الأم، التركية والفرنسية والألمانية، إنما كنت أبكي ربما لشيء آخر: عندما تولى وزارة الحربية (وزارة الدفاع)، بتكليف من الملك فيصل 1920  أسّس جيشًا وطنيًا سوريًا من عشرة آلاف مقاتل، ولكن في 5 تموز/يوليو من العام نفسه أرسل الجنرال الفرنسي غورو من بيروت إنذاره إلى السوريين بعدة شروط إن قبلوها لن يدخل دمشق غازيًا وقاتلًا. لكن الملك فيصل قبل الإنذار وانصاع للشروط، وكان من بين الشروط حلّ الجيش، فتم حلّه.

على امتداد الأيام، وعلى الرغم من صروف الدهر، تتكلم سوريا عن يوسف العظمة بزهو وعظمة

لم يقبل بطلُ السوريين الإنذار، لم يهُن ولم يسهل الهوان عليه، فكر أن الفرنسيين لن يدخلوا دمشق بلا مقاومة، وفكر أنهم لو دخلوا فسيدخلون على جثته! حاول إعادة تشكيل الجيش الذي حلّه الملك، فأجابه بعض من العناصر وبعض من وطنيي سوريا المدنيين كمتطوعين. لكن غورو حنث بوعده وحشد جيشه في 24 تموز/يوليو على حدود دمشق بذريعة أن الاستسلام لم يحصل خلال مهلة الأيام الأربعة التي منحها للسوريين! فلاقاه العظمة في منطقة ميسلون مقاومًا ومقاتلًا على رأس المقاتلين والمقاومين، وتعرض لخيانات بعض من الذين معه، وقاتل ست ساعات حتى قُتل.

اقرأ/ي أيضًا: بين إنذار غورو وإنذار كيري.. مفاوضات الدم

ذهب إلى حتفه باسمًا كأبطال الملاحم الكبرى، كان يعرف أنه، ربما، لن يستطيع مقاومة دبابات وطائرات فرنسا وجيشها المنظم، لكنه فكر بما هو أكثر أهمية وافتتانًا، فكر بكرامة السوريين. فكر أنه يجب أن يصون كرامتهم مهما كانت النتيجة، فلو دخل غورو سوريا بلا مقاومة سيشعر السوريون طيلة حياتهم بالذل، وبانعدام أية قيمة لحياتهم ووجودهم، وهذا ما يجب ألا يكون! وبالفعل، وعلى امتداد الأيام، وعلى الرغم من صروف الدهر، تتكلم سوريا عن يوسف العظمة بزهو وعظمة، وقد دخل كيانهم كما لو أنه كريات دم في أجسادهم، أسس لهم قيمة ودافع عنها حتى النهاية، حتى آخر قطرة دم من جسده المسجى، ليس في ميسلون فحسب، وليس في بقاع سوريا من جهاتها الأربع فحسب، بل في وجدان السوريين، في ذلك المكان الفاره المحجوز للنبل والمثال، في ذواكرهم وهم يرونه على حصان من غيوم  بيضاء ممتشقًا السيف السوري، متخطيًا المكان تلو المكان والزمان تلو الزمان وهو ذاهب ليدافع عنهم وعن كرامتهم.

كنت أبكى رجلًا ذهب، ليس للقتال، بل للدفاع عن القيمة.

قلت للمسؤول عن الموسوعة حينئذ: ليس في وسعي أن أكتب عن يوسف العظمة، هذا رجل لا يُكتب عنه، هذا رجل يُحتذى به فحسب.

 

اقرأ/ي أيضًا:

فصول ترويها دمشق

رغم ذلك أحبّ دمشق