19-سبتمبر-2018

نجاح البقاعي/ سوريا

الهلوسات المارقة تخترق قضبان وحدته، وتزحف إلى أروقة سجنه المحنط بأكداس الوقت، حيث لا زمن يجنح إلى سرير أحلامه الموءودة غير ضوء شحيح يظهر تجاعيد روحه البائسة.

كان يكابر مع فتات وجبة اختلطت بأطياف هواجسه اليومية، وهي تقضم ما بقي من جسده المهزوم أمام جسارة الوجع. التقط فجأة قلمًا من تحت وسادته البالية، كأنها صندوق أسراره اليتيمة، ثم سارع إلى أجندة فوق منضدة صغيرة ليدون آخر ما تبقى من معقل أفكاره المدججة بالمتاهة. إنها قوت نهاره المظلم في منفى يهتك أوصاله العنيدة ثم يجترها ويلقي بها كفضلات لجرذان تقتات من هيكل بشري، لكنه ظل يكتب ويختزل حريته المغتصبة في قصص اندلقت مع شلالات الألم وطمست نذالة القدر، ثم أطلقت العنان لعنفوان أنامله المبتورة. كانت زنزانته شاهدة على حشود أفكاره المدرجة في سياق الحظر لتظل كفيفة إلى حين إطلاق سراحها من حبسها المنفرد.

قام فجأة واتجه عند ركن قصيّ؛ لأول مرة يرى قسمات وجهه قبالة مرآة طواها الزمن بدوائر خضراء وطفيليات تقوض ما بقي من وسامته. يقف على بعد ذراع منها ناظرا في صمت الى هذا الغريب الذي يرمقه ويتساءل:

- من هذا؟ لماذا يتفرس في وجهي؟ إنه مرعب!

شعر بتراكم ثقيل في الرؤية؛ طيف يتغير ويتمايل؛ ثم تتعدد الوجوه وتنحاز مرة إلى اليمين، ومرة إلى اليسار... هل هي لحظة انفصام؟ أم مفاجأت اليقظة وأطياف الأمس؟

انتقل إلى منضدته وبقبضة يده أبعد طبق وجبته المشمئزة لمذاقه المعدوم، وجلس فوق سريره يحمل رأسه ويعتصره بين يديه عسى أن يسترجع ذاكرته المسلوبة ليترجم تلك الوشاوشات التي تقتحمه في نومه، وترمي به في جبّ المشاهد المروعة التي تتكرر معه كلما التحم بكوابيسه دون أن يفك شفراتها، ويلج الى ماضيه المتمنع لعله ينقذه من وضعه الكارثي؛ مدعيًا في قرارة نفسه أنه خلاصه الوحيد من براثن الجنون؛ ثم صرخ بأعلى صوت:

- أخرجوني من هنا؛ أنا بريء، تبًا لكم.

السكون حوله لا يواسيه انما يغيظه إلى درجة أنه أجهش بالبكاء ليقع صريعًا على الأرض فتهزه دموعه الشفيفة ويبتلعه الصدى المقيت.

هل حكم عليه بالأشغال الشاقة أم الإعدام؟ أي ذنب عظيم اقترفه وأي ممنوع قام به؟ جنحة أم جريمة؟ سرقة أم قتل؟ هل انفلت عن الصواب وصار ملحدًا؟ أم أنه صار داعشيًا ينتظر الحياة الأبدية في مغاور الحور؟

 كانت لحظات غليان بركان ونوبات ألم قاتلة تقوده إلى رهان خاسر بين الشح والموت، وبين الحرية والحياة.

ها هو طيف قادم، إنه حارس السجن يقترب من غرفته بخطوات ثقيلة ثم يقف أمامه واضحًا وجليًا 

- أيها السجين لديك زيارة؛ وأخيرًا سينتشلك احدهم من هلوساتك.

- هل تقصد أن أحدهم ذكر اسمي يود رؤيتي؟ أنا؟

- نعم أنت.

أجابه حارس السجن وهو يضع يد على كتفه، والأخرى تدفعه بقوة، وقلبه يكاد ينخلع لمعرفة زائره كمن يستعجل خلاصه من شقاء طاعن وجنون يخترق خلاياه ويطمس معالم وعيه.

في غرفة ضيقة ذات ضوء خافت، وطاولة يجلس إليها شخصان قبالة كرسي ضئيل، اندلق جسده بينما عقله مشتت في ارتياد تفاصيل يستحيل حاضره أن يسعها وهو يتشظى بألم، ويشقى في زنزانته ليطفو على سطح اليقظة بإيعاز من تلك الأطياف التي ترصده وهو الكائن الملوث بذنب ما. تقدم نحو الكرسي رفقة الحارس ثم انكب على الطاولة واضعًا يده المكبلة بالأصفاد وذاكرته المهجورة والمشوبة بالغموض.

نهض الزائر وبالكاد استطاع أن يلمحه حين استدار نحو ضابط شرطة كان يشي زيه برتبته العالية، وطلب منه أن ينفرد بموكله. تفطن إذ أنه محاميه، وخلاصه من طابور الانتظار ليواجه الحقيقة التي ربما يتلوها فرح قادم على عكازين، أو يقظة عسيرة تصلبه نحو لجج راكدة في واقع بائس.

 

اقرأ/ي أيضًا:

هكذا ولدا، من نَزْوة الضوء

سيرة مختزلة عارية لرجلٍ عارٍ