11-أكتوبر-2018

بيرني ساندرز متحدثًا في SXSW أوستن (ستيف روجرز/Getty)

تقول أم سعد، على ذمة قلم غسان كنفاني، "خيمة عن خيمة تفرق". أبرز ما يشهده عالم خلط الأوراق اليوم، وربما من أخطر ما يهدد مستقبله، يكمن في الرؤية "المأدلجة"، حتى بدون أيدولوجيا، أحادية البعد للنقائض وتناقضاتها. حتى يبدو أن نبوءة هربرت ماركوزة أحيلت إلى عملية ديناميكية دائمة التحقق والتهجين. 

اشتغل بيرني ساندرز تراكميًا وبصوت جهور ضد غزو العراق ومجمل سياسات إسرائيل الاستعمارية أكثر من أي سياسي غربي آخر، بل وأكثر من مجمل الجامعة العربية

منذ بداية القرن الـ21، وبعيدًا عن أشباح الخيمة السوفيتية، اتخذت الوقائع بشأن اليسار، الماركسي خاصة، بنسخه العديدة والمتناقضة، بعدًا/ أبعادًا جديدة. أما رفقة حفلة دونالد ترامب العولمية  فقد وصلت النقاشات بشأن الوقائع الجديدة إلى ذروة الوصم الأحادي الناهل من الاستسهال الاستشراقي واليقين الأيدولوجي أكثر من أي شيء آخر.

اقرأ/ي أيضًا: الدولة العميقة.. "مؤامرة" بلا متآمرين

الإشكال الأساسي في هذا الاستسهال أنه لا يتوقف عند عتبات أكاديميا المؤسسة/النمط المهيمن، ولا خزائن تنظيرات النظام القائم منذ "نيوديل" ما بعد الحرب العالمية الثانية، الذي مات للمناسبة، دون أن يولد بديل أو وريث، وهذا ما يفسر جزء من الفوضى الشعبوية اليوم. بل يجري تعميمه عبر آليات الكسل الصحفي إعلاميًا من خلال التبني السهل لما تقدمه تنظيرات آلهة الصحف البنكية، ووال ستريت جورنال وفايننشال تايمز، رفقة عالم توماس فريدمان المسطح برعاية روبرت مردوخ عبر نيويورك تايمز وخليلاتها من صحافة الحملات المدفوعة لتنميق الاستبداد والنهب وإسدال ستارة البلاغة الخطابية على فداحة جرائمه.

في تناول عملية الوصم والتسطيح للعالم وضرورة التفريق بين يسار ويسار، وهي عملية للمناسبة لا ينجو منها أي خصم سياسي أو أيدولوجي لأبناء المؤسسة ورعايا الدولة العميقة. فكل إسلامي إرهابي لدى هؤلاء، وكل قومي شوفيني بالضرورة من منظورهم، بالتالي فكل يساري حالم خائن للحدود القومية وجاسوس محتمل كما يرى كولن باول وستيف بانون وماتيو سالفيني وفكتور أوربان وبنيامين نتنياهو وآخرون في سيرك شعبوية أقصى اليمين المتفاقم، الذي لا يعد وصول هؤلاء، ومعهم ترامب، عبر الانتخاب "الديمقراطي" لمؤسسات الحكم سببًا لتفاقمه بقدر ما هم أحد أعراضه. بينما لا تخلو المنطقة العربية من وصم مشابه، بل وأفدح، فسبق لـبشار الأسد الحديث عن 8 مليون إرهابي! أما العقيد القذافي فمنح العالم لحظة تأمل وجودي بسؤاله "من أنتم؟!" وتسيل الأمثلة إن دعت الحاجة. 

بالتوقف لدى مفارقة يسار بيرني ساندرز العالمي/الأممي، ويسار سيريزا ضمن حكومة أليكسيس تسيبراس في اليونان. يتضح الكثير، ليس فقط عن تمادي حالة الوصم المعممة بشأن الاستخدام المفاهيمي "لليسار"، بل أيضًا عن هذا "اليسار" المبهم ذاته، بفروقاته وتشعباته، والأهم سؤال فاعليته لأجل من وفي أي اتجاه؟.

يشخص بيرني ساندرز حالة أقصى اليمين المعولم والشعبوي على أنها حالة وبائية عالمية، يعم خرابها ليمس صالح الـ99% من سكان الكوكب، الذين يأتي من ضمنهم جمهور هذا اليمين ليس للمصادفة، عاملين لصالح الـ1% الناظرين للعالم بما فيه الـ99% من بشره أنفي الذكر مسرحًا لنشاطهم الاقتصادي، ولا ضير إن توفرت المساحة لنموذجهم "الثقافي". كما اشتغل ساندرز تراكميًا وبصوت جهور ضد غزو العراق ومجمل سياسات إسرائيل الاستعمارية أكثر من أي سياسي غربي آخر، بل وأكثر من مجمل الجامعة العربية. كما عارض سياسية وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية وتدخلاتها الانقلابية في أمريكا الوسطى والجنوبية وإيران وصولًا لمعارضته حالة التواطؤ المعلن في عهد باراك أوباما مع الثورات المضادة التي لحقت بمطالب التغيير الديمقراطي عربيًا منذ 2011، ووقفته النقدية الجادة ضد المجزرة السعودية في اليمن. ولا يسع إلا تذكر جهود الرجل، ليس فقط في النضال الطلابي والعمالي والمضاد للعنصرية أمريكيًا، كذلك مساعيه ضد الأسلحة النووية لبلاده أولًا، ثم لدى بقية العالم تاليًا.

إذًا، ما يمكن تكثيفه بشأن بيرني ساندرز، المناضل والسياسي، كما الصوت الضميري في مزالق السياسة الغربية انه أتى السياسة من باب اليسار وأتى اليسار من باب الاهتمام بالشأن العام والوفاء للصالح العام نقديًا، شأنه في ذلك، مثلًا، شأن الكاتب والمناضل اليساري العربي الفلسطيني البارز الراحل عن العالم قبل أيام، سلامة كيلة. كما لا تهم الأيدولوجيا والاشتغال بالسياسة بيرني ساندرز بقدر ما يهمه ما يمكن تحقيقه للصالح العام، للقضايا التي تستأهل النضال من وراء هذا الانخراط، مذكرًا بمثال جورج حبش فلسطينيًا وعربيًا، الذي لم يزعج وقته كثيرًا بالتهليل للماركسية أو التحطيب لنار القومية بقدر ما كان اهتمامه منصبًا على ما يمكن تحقيقه من خلال السياسة وأدواتها في نهاية النهار. كما يذكر موقف ساندرز الزاهد تجاه مكتسبات العمل السياسي والشجاع أمام استحقاقتها، لكن المهتم أكثر بمسارها، بصورتها الأشمل وانعكاسها على الصالح العام، بمواقف المناضل وعالم الاجتماع السوري برهان غليون منذ الثورة في بلاده مرورًا باختطافها وحتى اللحظة.

اقرأ/ي أيضًا: الإمبريالية وسوق العالم.. الوحش الذي "يداعبنا"

أما في الحالة اليونانية المقاربة والفارقة هنا، كانت حكومة أليكسيس تسيبراس، المنحدرة عن حزب سيريزا "اليساري" عقب أزمة الدين اليوناني للبنك الأوروبي والمشرع الألماني وتعقيدات الصراع مع بروكسل، وعدت ناخبيها بادئ ذي بدء بتحريرهم من استبداد التقشف والشروط الأوروبية. بينما تقف اليوم هذه الحكومة ذاتها، لتقمع المحتجين على الإجراءات التي جاءت معارضتها بسيريزا إلى السلطة. واقفة مع البنوك ضد العائلات التي ترحل عن مساكنها ويلقى بها على عتبات الأرصفة، وضد مستخدمي الدولة من موظفي نظافة مؤسساتها الذين يعيشون على أقل من 300 يورو شهريًا، وجلهم من النساء/الأمهات. 

عاش كثير من اليسار العربي على هامش نقد السلطة عقودًا إلى أن حانت لحظة المواجهة، لينحاز للسلطة بتبريرات أشد وطأة من الانحياز نفسه

للأسف أن العديد من المتبنين لأحاديث يسارية في العالم ما زالوا يهللون لتقدم اليونان وخلاصها التدريجي من قبضة  البنوك الأوروبية، لكن الخبر غير السعيد لهؤلاء أن الوقائع الموضوعية تقول بغير ذلك. سيريزا ارتمى أخيرًا في حضن صندوق النقد الدولي والبنك الأوروبي ورمى اليونان معه مجددًا، هذا بعد أن غادر الحزب أحجام لا يستهان بها من مناضليه عقب خيانة الحكومة والاتحاد الأوروبي لنتائح الاستفتاء الشعبي بشأن ديون اليونان. التي ظهر أن التخطيط المسبق لعدم قبول القرار الشعبي بخصوصها كان قد اتخذ حقًا. 

هذه إحدى القضايا للمفاجأة وليست كلها، قد يكون من المستجد السماع بأن الانشقاق، بل والاستقالات الجماعية التي شهدها سيريزا خلال السنتين الأخيرتين كان وراءها، مع الموقف من خيانة الاستفتاء الشعبي لصالح البنك الأوروبي ووكلائه في اليونان، دافعًا حقيقيًا يتعلق بالسياسة الخارجية لليونان وعلاقتها بإسرائيل، التي شهدت في عهد سيريزا "اليساري" استمرارًا للعلاقات الدافئة أساسًا، بل وتحفيزًا لهذا الدفء أيضًا. لذلك يمكن رؤية اليوم أن من بين أجندات الحزب الجديد الذي شكله من خرجوا على سيريزا، ميرا 25، بقيادة الوزير السابق في حكومة سيريزا يانيس فاروفاكيس، إلى جانب القضايا الجوهرية اليونانية والأوروبية، مسألة "أنسنة" العلاقات الخارجية لليونان، والوقوف وقفة واضحة من قضايا الاستعمار والعنصرية والهجرة. كذلك الحال في مواجهة اليمين الشعبوي، وهذه إحدى نقاط الالتقاء مع جهد بيرني ساندرز، ليس مصادفة ربما، خاصة مع وجود قامة بوزن نوعام تشومسكي في صف الناصحين والمستشارين.

يمكن القول بين يسار ويسار، يستحضر بيرني ساندرز فلسطين وجهود هوغو تشافيز لصالح المعذبين ومعاداة الإرث الإمبريالي الأمريكي. في حين يستحضر سيريزا إسرائيل وانتهازية نيكولاس مادورو لإرث تشافيز واستعماله الشعبوي لشعارات قد تبدو يسارية. كما يتصالح سيريزا، بل يطوع قدراته في خدمة صندوق النقد والاتحاد الأوروبي بشكله السلطوي المنفر الحالي، بينما يسرف بيرني ساندرز في الاهتمام بمعركته ومعركة العالم على جبهة مواجهة موجة اليمين المتجددة. والأهمية هنا ليست في الأمثلة بعينها، بقدر ما هي مرتبطة بفهم السلوك البشري تجاه القضايا الجمعية، وعدم تخصيص المآسي بقوم دون غيرهم، فكما ريجيس دوبريه طار من كتف إرنستو غيفارا إلى معصم فرانسوا ميتران، عاش كثير من اليسار العربي على هامش نقد السلطة عقودًا إلى أن حانت لحظة المواجهة، لينحاز للسلطة بتبريرات أشد وطأة من الانحياز نفسه، مستعملًا فلسطين ومواجهة الإمبريالية ونقد الرأسمالية في دفاعه عمن لا يمكن أن يشكلوا حلفاء على أي من هذه الجبهات!   

 

اقرأ/ي أيضًا: 

المانيفستو في ضيافة القرن 21

مستقبل الديمقراطية والرأسمالية.. بربرية التضليل