"يحدث في البيوت" لعبّاد يحيى.. عن تشابك المصائر والهامش الذي يتحدى واقعه

منذ النكبة مرورًا بالنكسة، وحتى وقتنا الحالي. يتتبع عبّاد يحيى في روايته الأحدث "يحدث في البيوت" (منشورات المتوسط، 2025)، الحياة في رام الله عبر شخصيتين متوازيتين، تلتقي مصائرهما عبر سلسلة مصادفات يرتبها القدر. فتترك حياتيهما معلّقتين بالأسئلة والألغاز والغموض.

رام الله التي جعلها منع التجول المتكرر تنام مبكرة وتصحو مبكرة، فأصبح "أهم ما يحدث فيها، يحدث في البيوت". يتكثف حضورها في العمل حتى تبدو، وكأنها إحدى شخصياته. فضائها السياسي والاجتماعي والنفسي، مسرح كبير للأحداث، ومحرك رئيسي لها. هذا الذي يحركه بدوره الاحتلال. هو الواقع الذي ما انفك يفرض نفسه في كل المراحل، مهما تعددت المسميات.

تبدأ الرواية مع هالة ذات الثالثة عشر عامًا؛ الهاربة من زواج دُبّر لها على عجل. أثناء تَقدّم العصابات الصهيونية في القرى الفلسطينية وحصدها بالمجازر والتهجير، كان في ذهن والدتها شيئًا أكثر خصوصية، فضيحة محتملة يجب أن توارى بزواج سريع. فهربت، مستغلة الفوضى العارمة، ووسط حالة التشرد العامة لم تكن سوى نازحة أخرى مجهولة الأهل والماضي لكن باختيارها. فأوصلتها أقدامها بتوجيه من أيادٍ عبثية إلى رام الله. لتبدأ حياة جديدة أنتجتها ولادة ثانية بكل ما يحمله هذا المجاز من معنى.

بعدها بأعوامٍ طويلة، في رام الله ذاتها، ستؤوي هالة الشابة فتىً يافعًا هاربًا من صوت القذائف في الدار التي أصبحت بيتها. في عام 67 خلال الأيام – التي كان لا يزال اسمها الحرب – قبل أن تكتسب اسم "النكسة" سنتعرف على جمال الذي سنحتاج لفصولٍ عدة لنعرف اسمه. عبر هذا الحدث الذي سيشكل حلقة الوصل بين حياته القديمة مع عائلة من النازحين في المخيم، وحياته الجديدة كشابٍ اختار ألا يلجأ مع عائلته إلى الأردن، بل يبقى في رام الله، ويشقّ طريقًا في مهنة الخطاطة التي اختارته جزافًا، حيث سيأويه بعدها خطّاط عجوز في داره، قبل أن يصبح معلمه في المهنة وشريكه فيها.

على خلفية عمل الخطاطة المُزدهر، يلتقي الرجلان: راغب وجمال في رغبتي الأبوة والبنوة. جمال بوالد لاجئ، وراغب بابن لاجئ. أثناء ذلك نتعرف على هذه المهنة التي شكّلت وجه المدن العربية في وقتٍ ما؛ الوقت الذي لم يكن به لوحات كهربائية عملاقة ومضيئة. كان الخط العربي مستودع جمال وأسرار وفتنة. ومثل كل شيء آخر، مصدر قلق للاحتلال. وعلى الجانب الآخر، وعبر المحامي شكري أبو جابر؛ الرجل الذي آوى هالة ودبّر لها أوراقها، نتعرّف على مهنة المحاماة التي لا تشبه المحاماة في مكان آخر. فقد وجد الفلسطينيون أنفسهم مغرقين من قِبل إسرائيل بالوثائق والتصريحات والأوراق التي لا يفهمون كُنهها. ومع الوثائق والاعتقالات والمحاكمات الكثيرة، راهنت هذه المهنة بجدارة لتلعب اللعبة الصعبة. في حلقة التوازن بين الفلسطينيين والاحتلال، لعب المحامون دورًا صعبًا ما بين وسيط ومترجم ومنقذ ومُتهم بالخيانة.

وسط كل هذا تظهر شخصية الفدائي خالد؛ الرجل الذي سيظهر في حياة جمال. شخصية ديناميكية وغامضة وملتبسة. يبدو القلق الذي تثيره لشخصية جمال قلقًا متعمدًا، هدفه التوريط الشعوري والنفسي، حتى يتبعه توريط فعلي بأعمال المقاومة. فنصبح أمام شخصيتين يُمكن أن نعتبرهما نقيضين. شخصية الفدائي الذي ينظّم ويخطط ويقرر، وشخصية الشاب "السادة" الذي ليس بطلًا لكنّه ليس بخائن بالتأكيد. عبر هذه الأحداث تصل لجمال رسالة كتبها خالد حلل فيها شخصيته، فتستوقفه بعض عباراتها التي كانت تصفه وتنتقده وترن في رأسه طويلًا. جمال نفسه كان عبر سرده الذاتي للأحداث يعطي انطباعاته وانتقاداته لخالد وتنظيمه أو طريقته في التنظيم. فتنشأ بينهما علاقة مربكة، تتصاعد شيئًا فشيئًا حتى تصل إلى الذروة ثم السقوط المدوي. 

كثرة القتل السهل بتفسير أو دونه، ليس الناتج عن الاحتلال فقط، بل الصادر عن جماعات متناحرة تُتراشق بالاتهامات والثارات

تمضي الأحداث رويدًا رويدًا، يتناوب السرد بين الراوي العليم مع هالة، فتكسب القصة هُنا شيئًا من الابتعاد عن نفسية الشخصية ومن الغموض وعدم الفهم، والراوي الذاتي مع جمال الذي يعد بمزيد من التكشف والوضوح حتى وإن لم يفِ بهما فعلًا. تبتعد مصائرهما وتلتقي. نرى عبر السردين التغيرات في رام الله. علاقة الفلسطينيين بالخارج، العلاقات الشخصية مع الأقرباء اللاجئين، ردات الفعل على الأخبار السياسية الآتية من الخارج، وما كان يحدث هنا وهناك. كثرة القتل السهل بتفسير أو دونه، ليس الناتج عن الاحتلال فقط، بل الصادر عن جماعات متناحرة تُتراشق بالاتهامات والثارات.

وسط هذا الجو كلّه، وفي خضم تصاعد الأحداث والمشاعر بين جمال وهالة، وجمال وخالد على حد سواء، يحين دور "العملية". هذا الاسم المُحمّل بالدلالات والأفعال والبطولات أو الخيانات الكثيرة. لكن على عكس كل فعل مقاوم يمكن أن يخطر على البال، تتسم هذه العملية في كل مراحلها وخطواتها بالغموض والحيرة، حتى في عقل المنفذ نفسه. فهو لا يدرك حتى إن كانت عمليته قد نفذت أم لا. لا يدرك أصلًا إن كانت "عمليته" هو أو لا. تطرح هذه الفكرة أسئلة كثيرة على "عمليات المقاومة"؛ من يخطط لها ومن ينفذها؟ وكيف؟ ولماذا؟ وعلى أي أساس؟ تعطينا القصة نظرة محايدة ليس هدفها الاصطفاف أو الحكم، أو على الأقل تعطي القارئ حرية التأويل، لأن العمل في أساسه يحاول الخروج من سردية البلد المحتل ويصور الحياة في رام الله تحت تداعيات الاحتلال. نعم، ولكن بشكل غير مباشر للدرجة التي يُمكن أن تحدث فيها هذه القصة في أي مدينة عربية أخرى.

هناك ثنائية بارزة في العمل أيضًا، فمن جهة هناك التركيز على حرية الفرد في اختيار مصيره، حيث يتحرر من العائلة والتنظيمات السياسية والمؤسسات مثل الجامعة. ومن جهة أخرى هناك التضامن المجتمعي الذي يظل موجودًا وسائدًا رغم كل الظروف. هذا ما تظهره التبدلات والتغيرات في حياة الشخصيتين هالة وجميل. فهما شخصيتان متوازيتان إلى حدٍ بعيد، ويمثلان نموذج الخروج من العائلة، وعدم الانخراط على مضض في الحياة السياسية دون وعي أو تخطيط. فشخصيتهما أشبه بردة الفعل على السُلطة المزدوجة المتمثلة في الاحتلال الخارجي والقهر الأسري الذي بدوره يعيد تشكيل نفسه داخل التنظيمات السياسية أو العلاقات المهنية. هما شخصيتان يمكن أن نعدّهما من شخصيات الهامش. الهامش الذي يتحدى واقعه ويحاول إعادة تشكيل نفسه. ربما لأنه هامش أيضًا. في النهاية تظل أسئلته مفتوحة، وألغاز حياته دون حلٍ مؤكد.