12-سبتمبر-2022
سامية حلبي

لوحة لـ سامية حلبي/ فلسطين - أمريكا

حسنًا! ست دقائق أخرى فقط وسأمشي.. لن أنتظر أكثر ولن أضطر لإعادة كرة السؤال على نفسي عن الجهة التي سأقصدها في كل مرة يقف فيها باصٌ ذو رقمٍ غيرِ الذي أنتظر. أسئلة وإن كانت بسيطة سهلة.. فهي غالبًا ما تأتي ممتنعة متمنعة. هذا هو حال الانتظار! فما بالك إن كنت تنتظر أمرًا مجهولًا.. باصٌ جل ما أعرف عن رقمه أنه أخذني مرة إلى مكانٍ هوته نفسي. وفي شديد أزمتها الآن وجدتها تتوق إليه. أسئلة ذات طعمة ولا طعمة أستثير فيها صورًا عن احتمال وجود مكان آخر علّي أحتال على معضلة الانتظار: يا ترى، هل سيعجبني اتجاه الباص الجديد؟ هل تعادل مغامرة الوجهة الجديدة مخاطرة هجر الصورة التي تخيلتها لي وأنا أقطن جهتي المقصودة - والتي سأشد رحالي عنها في قراري بركوب أول باص يتوقف عند موقفي؟ أم أنها لا ترتقي لوصفها بالمغامرة أصلًا. فممكن أن تكون أيضًا محض مخاطرة جبانة يائسة أسلم فيها إرادتي للوقت والظرف والزمان.. كل هذا خوفًا من شك الانتظار! أقول لنفسي: "هي ست دقائق لا أكثر ولا أقل". سأغرق في توقع الباص كل دقيقة حتى يستنفذ صبري الانتظار. سأنتظر.

أذكر نفسي أنه عليّ أن أستعد على الأقل لأي من الرحلتين. أولًا: عليّ الرجوع من الشتات الذي سرعان ما تهاجره نفسي إذا سرحت في عشيقين متعانقي اليدين، أو في شيخٍ كبير، أو طفل صغير، أو امرأة مقطبة الجبين. ثانيًا: أن تكون إحدى يديّ على الأقل شاغرة؛ فلا أنساها في شعري أو داخل حقيبتي أو في جيبة المعطف الشتوي. على يدي تقع مهمة التأشير، مهمة أساسية قيادية في تحديد وجهتي. ثالثًا: الفكة! الفراطة! أفكر إن كان معي فكة خمسين للدفع للباص. فممكن أن يذهب كل الوقت الذي استثمرته في الانتظار هباءً منثورًا في لحظة يستعند فيها سائق الباص على قبول خمسينتي. فروتين الباص يتوجب أن نجهز أنفسنا بفكة له دائمًا. أطلب فكة من أحد المحلات المجاورة. ينظر إليّ بشك غريب! "لا أمتلك فكة أنا آسف!". محلٌ آخر: "عمري ما قبلت خمسين من قبل ولن أقبل!". محل ثالث: "هل من الممكن أن تحاسبيني على ما اشتريت؟ هاكِ خمسين باوند". فكت الخمسين وأعادت لي 45 باوند وقرشًا. انتشيت. شعرت أني قد حللت أول لغزٍ في أحجية الانتظار! ما اختلفنا، هو انتصار بعد مساومة اضطررت فيها على شراء شيء لا أحتاجه حقًا. تهون هذه المساومة مقابل تيسيرها لإرادتي.. فقد أردت الصعود إلى الباص.

ألمح الباص من بعيد. أنظر إلى ساعتي في توجس، هل فقدت إحساسي بالوقت أم أن الباص قد وصل قريبًا أو بعيدًا عن موعده الذي عينته له في رأسي. أبتسم بالرغم من شديد الأزمة. سعيدة تلك المفاجأة التي يطل علينا فيها ما ننتظره ولو ثانية قبل موعد وصوله المتوقع.. فما بالكم لو طل قبل بدقيقتين من أصل ست، هكذا قالت ساعتي. صعدت إلى الباص.

في انتظار آخر لأمرٍ مجهول وقفت عند باب حمام السيدات. من مكان انتظاري سمحت لنفسي بالنظر نحوه. نظرت إليه نظرة أخيرة متفحصة وكأني بدافع داخلي غير مسبوق أود لو أمسك بهذه اللحظة كي أعود إليها.. وكأني أود توثيقها في صفحات ذاكرتي. لحظة مرجعية بدت وكأن لونًا ضوئيًا كتلك الألوان الزهرية والصفراء والزرقاء التي أخط بها السطور ذات الأثر في الكتب التي أقرأها كان قد مر من فوقها. لم أعرف لماذا كانت نظرتي متفحصة لكني أعرف أنها اتجهت نحو مقعده دون إرادتي.. هل قلت إني سمحت لنفسي؟ لا. لا لم يكن لي صولة ولا جولة على ذاك القرار. كيفما شئتم سمّوا واحكموا على تغييري لأقوالي. أسماه هو "تناقضًا". جلس هناك، من مكان انتظاري لعنده وقعت بيني وبينه طاولة واحدة أو اثنتان أو أكثر.. لا أذكر تمامًا.. كانت عيناي تجول فيه. أتوقف عند شعره الأسود المجعد، رقبته الممشوقة، زيه الأنيق، جسمه المشدود. كان قد أسند كوعيه على الطاولة الوسطية حيث حمل وزر جسده العلوي فبرزت عظام كتفيه عن باقي ظهره. بدا متأهبًا.

على نفس الطاولة اتكأت أنا قبل قليل منتظرة إكماله لحديثه. تعب كتفاي من تلك الاتكاءة فرجعت إلى الخلف لأرمي على ظهر الكرسي اتّكاءة أخرى ثقيلة متعبة.. كلما طال الكلام زاد ثقل تلك الاتكاءة. كلما زاد ثقل الاتكاءة طقطقت عظام ظهري ورقبتي. وكأني حملت الحديث على ظهري فتشنجت فقراته استجابة لثقل الحمل. لم أقاطعه سوى مرات قليلة. دافعت قبل دقائق عن هذا التناقض محاولة شرح أنه لا يعيبني.. هل ستتغير أي من قناعاتي الآن عن التناقض وأهميته بعد مفارقة هذه الطاولة، ربما، لا أعلم! لم ترقه مقاطعتي لحديثه. أراد هو أن يتحدث وأراد لي أن أستمع. في انتظار بعيد أتعبه هو سابقًا كان قد رتب حديثه بمقدمة وأفكارٍ أساسية وخاتمة.. مرّ حديثه أمامي وكأنه احترف التدرب على خطابته في الأشهر الماضية مرارًا وتكرارًا. في مرافعته، استشهد بأقوالي وبأفعاله حتى تثبت حجته. بينما هو يتحدث كنت قد وصلت إلى عدة استنتاجات فلسفية عن الصمت وعن الوقت وعن الحق. بالرغم من سيل الكلمات الدفق الذي أراد الخروج بعزم عبر شفتي أخبرت نفسي بأن تصمت. كان عليّ أن أغرق في انتظاري لإكماله لحديثه عوضًا عن إغراق الطاولة بسيل كلماتي المندفع. كان عليّ أن أصمت.

في انتظاري عند باب حمام السيدات، بدت على صورته البعيدة هو أيضًا ملامح الوهن والانتظار. كان متأهبًا واهنًا.. هل قال إني متناقضة.. هو أيضًا يملؤه التناقض. أقرر أن أقطع ذاك البحث عن اللاشيء. أزيح وجهي وأستند إلى الحائط بكتفي الأيسر لأعطي ناحيته ظهري. تخرج سيدة من الحمام. لا أراها. أدخل حمام السيدات وأتوه به. نعم أصدقائي هذا أمرٌ طبيعي؛ تتوه النساء في حمامات السيدات. لم أعرف لم دخلت.. في هلع لم أعه وجدت نفسي تنظرني في المرآة المعلقة على الحائط المعتم. هلعت أكثر حين رأيت احمرار وجهي وعيني واضحًا للعيان حتى في العتمة. كان قد نَفَر الدم إلى وجهي وعيني فأصبح وجهي وكأنه مبقع ببقع حمراء رقعت مكان كل ندبة أو حبة أو شعرة. رسم تباين ألوان وجهي -وكأنه خريطة جغرافية- تضاريس ما مر عليه وعليّ. أفتح الحنفية.. بارد جدًا ماؤها على عكس وجهي الملتهب.. لا بأس! علّ برد الماء يطفئ قليلًا من ناري. ماء بارد.. ماء مالح.. ماء بارد.. ماء مالح! ما في خواص.. فليكن لوجهي ما يشاء وليعرض للعامة عميق هشاشته!

ألمح انعكاس وجهي على زجاج نافذة الباص التي كان قد أدمعها المطر المتساقط من السماء. اختلطت علي في ذاك الانعكاس صورة وجهي وصورة السماء، أيهما أغيم، أحزن، أغمض.. أيهما ستشرق شمسه أبكر؟! أفكر في الطريق. وأذكر عبارة "أتحملني أم أحملك؟" كناية عن الحديث الذي من المفترض له أن يختصر طول الطريق على مارقيها. حملت نفسي وحملتني هي الأخرى. طالت تلك الأحاديث التي تجاذبنا أطرافها في صعدات وهبطات الطريق. مرت الخمسة وثلاثون دقيقة أسرع من دقائق انتظار الباص الست. بالرغم من صعودي إلى الباص للنزول عند آخر محطاته، لم أشأ للباص أن يتوقف عند أي محطة. أردته أن يأخذني بعيدًا جدًا.. تمنيت لو تحول الباص إلى آلة زمن سحرية تأخذني إلى زمن آخر.. مكان آخر.. لا انتظار فيه ولا محطات وقوف.. مكانٌ بلا زمن أو زمنٌ بلا مكان.

تسألني صديقتي آخر النهار في تبادل رسائل مسائي كان قد أصبح روتينًا، "آية، كيف كان يومك؟". أجيبها، "كان يومًا عاصفًا ماطرًا غائمًا، ألم تنظري إلى السماء من نافذتك اليوم.. أم أنها السماء التي رفعت فوق رأسي فقط هي التي أمطرت اليوم؟". تخبرني: "لا بأس، ستشرق شمسك غدًا. نامي وارتاحي قليلًا!". أصحو في اليوم التالي على صوت المطر يطرق زجاج نافذتي، أدمعها. "لم يكن يومًا مشمسًا أبدًا"، كتبت لصديقتي في المساء. أتوه في الثلاث غرف المكونة لمنزلي تمامًا كما تهت في حمام السيدات. الضوضاء البيضاء التي كنت قد عودت نفسي على سماعها لتساعدني على التركيز في كتابتي كانت قد خدرتني.. أسمع ولا أستجيب. لا ضوضاء بيضاء.. أريد ضجيج الشارع وتحديدًا طنين تلك الإشارة الضوئية الذي لطالما كان قد أرقني. أريد أن تعلو أصوات المحيط على صوت الضوضاء البيضاء الذي خدر النحيب في رأسي فأطاله! 

أريد لحنًا حزينًا.. أريد أن أحزن. يقترح عليَّ تاريخ استماعي على اليوتيوب أغنية وأشغلها: 

يا مسافر وحدك 

يا مسافر وحدك وفايتني 

ليه تبعد عني وتشغلني

 

ودعني من غير ما تسلم وكفاية قلبي أنا مسلم

دي عينيه دموعها دموعها بتتكلم 

يا مسافر وحدك وفايتني 

ليه تبعد عني وتشغلني

 

خايف لا الغربة تحلى لك والبعد يغير أحوالك

خليني دايما دايما على بالك 

يا مسافر وحدك وفايتني 

ليه تبعد عني وتشغلني

 

أتذكر حديثنا على تلك الطاولة عن السفر.

 

هو: قررت السفر إلى وطنٍ آخر.

أنا: وأنا.. ألم تقل لي إني أنا وطنك وولادتك مماتك؟ 

هو: لكن ليست كل الأوطان تقطن. وأنتِ تعبتيني معاكي!

أنا: بس أنت حكيتلي "لو أنتي مطلعة عيني بحبك موت". 

هو: لكني أعطي ولا أَجِد وأعطي ولا أَجِد وأعطي ولا أَجِد. قد مللت وتعبت وأصبت بخيبة الأمل. سأحمل كل ما أعطيت وأرحل. هكذا تهجر الأوطان يا آية!

 

صمت

 

أنا ولكن هذه المرة لنفسي: نعم، هكذا تهجر الأوطان يا آية. حين لا نستطيع رؤية أثر ما نعطي! حين نبحث ولا نجد!