25-فبراير-2016

ياسين عدنان مقدمًا برنامجه مشارف (سعيد كوكاز)

سرعان ما يتبدد ذلك التوجّس الذي يصيبنا عندما نمسك رواية بحجم 460 صفحة، مع رواية "هوت ماروك" (الفنك، 2016) للشاعر والإعلامي المغربي ياسين عدنان، حيث تدخلنا منذ الصفحة الأولى في مناخ من المتعة والإفادة والتشويق.

في "هوت ماروك"، لكل شخصية قرينها الحيواني الذي يعكس طبيعتها وسلوكها ويرافق تقلباتها

صاحب "فرح البنات بالمطر الخفيف"، ليس غريبًا عن واحة السرد، وتأتي روايته الأولى "هوت ماروك"، الصادرة عن "دار الفنك" بالدار البيضاء 2016، بعد ثلاثة عناوين قصصية.

اقرأ/ي أيضًا: دليل المبتدئين في صناعة الدكتاتور

لا نبالغ إذا قلنا إن "هوت ماروك" تحمل ريادة عربية، بابتكار شخصيات إنسانية فريدة، لكل منها قرينها الحيواني الذي يعكس طبيعتها وسلوكها ويرافق تقلباتها. إنها الإنسان وغرائزه معًا. لطالما اهتم الأدب العربي بالحيوان، منذ "كتاب الحيوان" للجاحظ و"كليلة ودمنة" لابن المقفع إلى "حيوانات أيامنا" لمحمد المخزنجي. لكن عدنان يأخذنا في "هوت ماروك" إلى عوالم مختلفة، عبر ذلك القرين الحيواني المتلبِّس لكل شخصية من شخوص روايته. يتركنا نسير مع الآدمية بدلالتها الحيوانية، ويستدعي الحيوانات ليُشرّح من خلالها طبائع البشر، لنجد أنفسنا نتابع حكايات إنسانية عميقة رفقة السرعوف الخامل، والبجعة المتوحشة، والجرذ الحِشَري، والقنفذة الماكرة الذين يشكّلون أسرة رحّال الصغيرة، ثم مع الفيل التقليدي، البقرة اليسارية، والسلوقي المتهافت في الجامعة، وانتهاء بنجمَيْ الصحافة: الحرباء المتقلبة، والنمس المحتال. تحضر هذه الحيوانات - وأخرى غيرها ككلب سيبر أشبال الأطلس النبّاح - على امتداد فصول الرواية كظلال لشخوص الرواية عبر رسم حِرَفِي طريف لتلك الشخصيات الإشكالية المُركَّبة.

فشخصية رحّال العوينة، الرئيسة في الرواية، لا تتردّد منذ البداية في إشهار غرابتها وجبنها وعزلتها. تهرب من خصومها في الواقع، لتجرّهم مرغمين إلى أحلامها. تصفّي حساباتها هناك في المنام، عبر تسديد الركبة للوجه بطريقة خاطفة. تتعزّز الغرابة من خلال إيجاد القرين الحيواني للناس، ومن ثمّ إسقاط سلوكياتهم وأخلاقهم على ذلك الحيوان الكامن داخلهم. حتى هو العوينة يختار قرينه الحيواني دون أن يستثني نفسه من هذه المعادلة. "لم يكن رحّال يفهم لماذا يشبِّهه البعض بالقرد، ولا كيف ينعته آخرون بالجرذ. تُضايِقه هذه الأوصاف. غالبا ما يتلقّاها كشتائم. لكنّه لا يتأثر بها. فهو مقتنعٌ في قرارة نفسه بأن هذا النَّبز المتهافت إنما يعكس جهل من يصدُر عنهم ويفضح ضعف قدرتهم على التمييز. فرحّال يجد نفسه أقرب إلى السنجاب منه إلى أيِّ حيوان آخر. وكلُّ حديث عن القرد والفأر والجرذ - وحتى الضفدع كما نعتته مرّةً جارةٌ عشواء - يفتقد إلى العين اللاقطة التي تعرف كيف تتنقّل بنفاذٍ ما بين ملامح البشر ونظيراتها عند الحيوانات" (ص 19)

ليس هذا التماهي للشخصية مع قرينها الحيواني إلا للقضاء على عزلتها. ولكن لماذا تختار للآخرين مُعادِلهم الحيواني؟ فرحّال يبقي حائرًا في التعامل مع الناس ما لم يكتشف نظائرهم غير الناطقة. كما حدث له مع حسنية بن ميمون اللماحة التي اكتشفَتْ فيه ذلك الشخص الجبان المهزوم ذا الشخصية الانعزالية لتخطّط للزواج منه. القنفذة حسنية عرفت كيف ترمي أشواكها بوجه ذلك الحيوان مروّضةً الإنسان بداخله. لتبقى تلك العلاقة الملتبسة الغامضة بين الزوجين، والتي يسير بها عدنان بتشويق سردي، لا ينتهي إلا بتلك المفاجأة التي تصعق المتلقي في النهاية.

في رواية "هوت ماروك"، تفتضح لعبة الأجهزة الأمنية في استعمال الفضاء الالكتروني للإشاعات والتشهير

وتكمن المفارقة في أن أهم شخصين بالنسبة لرحّال، والذين نكّل بهما طوال الرواية، بقيا بدون ذاك القرين الحيواني الذي يهتدي به إلى سبر أغوار البشر. عماد القطيفة الرجل الوديع والمقاول الناجح وربّ عمل رحّال أيضًا ـ العمل الذي حصل عليه بفضل علاقة زوجته بآل القطيفة ـ بالإضافة إلى وفيق الدرعي، الشاعر الشاب. كلاهما حقّق ذاته، ليشكّلا بالنسبة إلى رحّال مصدر مغصه الرئيس، والذي لا ينتهي قبل أن يفرغ ما بأحشائه عليهما افتراضيًا طبعًا. فرحّال الذي بدأ العمل في مقهى أنترنيت تابع للقطيفة الابن سرعان ما اكتشف هوت ماروك.
"كلّو كوم، و"هوت ماروك" كوم.
Hot Maroc
المغرب الساخن.
هكذا جاء اسم الموقع. 
جريدة إلكترونية تغطّي الأحداث ساعة بساعة. كل أخبار البلد تجدها هناك طرية طازجة: سياسة. مال وأعمال. رياضة. فن. رحلات وأسفار. دين وفتاوى. دوليات. أخبار الأقاليم والجهات. احتجاجات واعتصامات. حريات عامة. جرائم. كواليس السياسة والمجتمع. مقالات رأي. فيديوهات. حوارات ساخنة. سكوبات حصرية. وأيضًا: للثقافة أخبار.
صار رحّال يستهلُّ صباحه بأخبار "هوت ماروك". أول ما يقوم به بعد أن يفتح المحل ويشغّل الأجهزة هو فتح جريدته الإلكترونية العجيبة التي أعادَتْهُ إلى الشأن العام. هو الذي لم يسبق له أن اقتنى جريدة ورقية في حياته" (ص175)

اقرأ/ي أيضًا: سليم البيك.. الجسد مرجعية

يجد السنجاب في العالم الافتراضي ملعبه الأثير. فها هو الجبان الخامل يصبح بطلًا هناك. ينتقي لنفسه أسماء وهمية ويدخل بها العالم الالكتروني. يشن من خلالها حملات التشهير، يسب، يكيل التهم، ويتزعّم غارات القدح والذم والتخوين. أساليب حديثة لتواكب معارك العصر الحديث. ليكرّس بعد كل هذه الخسائر الإنسانية في حملات التشهير تلك، اسمين مستعارين، "أبو قتادة" ذو المرجعية الدينية، و"ولد الشعب" ذو المرجعية الوطنية والخطاب الشعبوي. وهكذا يحيط الظلّ ذاته بحصانة دينية وطنية شعبوية ستلاقي نجاحًا لافتًا لدى عموم القرّاء والمعلّقين الآخرين. "المهم أن ولد الشعب صار نجم الموقع بلا منازع لديه قرّاء تغنيهم تعليقاته على الهامش عن قراءة المتن" (ص 209).

فما إن يقرأ رحّال العوينة، مثلًا، خبر نيل الدرعي لجائزة، حتى تبدأ التعليقات النارية. وينطلق سيل من التهم، ليس أقلها التخوين والعمالة للمخابرات، وهي تهمة سبق أن ألحقها به العوينة أيام الجامعة. "لم يفعل ولد الشعب أكثر من صياغة تعليق بسيط جدًا على جائزة ابن الونّان التي عادت تلك السنة للشاعر وفيق الدرعي فانقلبت الدنيا رأسًا على عقب. الوزير اعتذر عن الحضور. والشاعر المُتوَّجُ قاطَع الحفل. الجهة التي منحته الجائزة أصدرت بيانًا تشتمه فيه" (ص210).

هل الازدواجية هذه لها علاقة بمتلازمة ستوكهولم؟ هل هو الحسد والحقد على النجاح، هو ما ينقلها من العزلة والجبن الواقعي، إلى كل تلك الجرأة من وراء حجاب إلكتروني؟ لا يتردد ياسين عدنان أيضًا في دفعنا للبحث عن صفات الحيوانات بيولوجيًا. فالجرذ من أهم الحيوانات القادرة على شن الحروب على أبناء جنسها. ليفتح لنا بابًا مشرعًا لمزيد من الأسئلة. أليس الإنسان والجرذ هما الحيوانان المفترسان الأكثر نجاحًا حتى الآن؟ لكن رحّال سنجاب وليس جرذا!؟ وهل هو فعلا كذلك؟ هنا علينا أن نصدق عوالم صاحب "من يصدّق الرسائل؟" وندعها تقودنا طائعين نحو متاهات الحكي.

أين المفر أيها الجرذ أو السنجاب من مصيدة المؤسسة الأمنية التي تعرف عنك هوسك بالشتائم لإفراغ أحشائك قبل حتى أن تكتشف ذلك أنت؟ 

 قدرات رحّال التخوينية، ومؤهلاته التشهيرية، ستُستثمَر أمنيًا. يكتشف العوينة أن مسؤول المخابرات ليس سوى رفيقه القديم في اتحاد الطلبة. فالعميد العيادي الذي حقّق معه وجنّده لحسابهم لم يكن إلا المختار بشحمه ولحمه. المختار أحد رموز الفصيل القاعدي اليساري، أيام الحركة الطلابية. تلك الحركة التي أدخلنا عدنان إلى أجوائها، عبر رسم دقيق وطريف لملامح تلك المرحلة. حيث الصراع محتدم بين الفصائل الطلابية، والشعارات تلهب الحناجر، والسلطة تراقب بحذر وحرص شديدين. تتدخل بقوة عندما تستشعر الخطر. فالمظاهرة التي انطلقت للمطالبة بطبابةٍ للطلاب ذات ظهيرة قوبلت بتدخّل أمني عنيف خلّف جيشا من المعطوبين والجرحى.

في "هوت ماروك"، يكشف الكاتب الأساليب المبتكرة لممارسة التحكّم الإعلامي من خلال صحفيين "مستقلّين"

كان درس العميد العيادي الأول لولد الشعب هو الانتقال إلى الاحتراف في التلاعب بعقول جمهور الموقع الإلكتروني وحسن اقتياد القطيع: "فقط علينا اليوم أن نغيّر أسلوبنا. سنمرّ من الهواية إلى الاحتراف" (ص227).

اقرأ/ي أيضًا: مدونة أمبرتو إيكو.. حدود المعرفة وفضاء الخيال

يرصد صاحب "دفتر العابر"، التحولات السياسية والثقافية والإعلامية في البلاد. كما يكشف الأساليب المبتكرة لممارسة التحكّم الإعلامي من خلال صحفيين "مستقلّين" أمثال أنور ميمي رئيس التحرير الجديد لموقع "هوت ماروك" الذي لم يكلف رحّال كثيرا من الجهد لاكتشاف النمس بداخله. جاء ميمي بثورة ثقافية وإعلامية حقيقية. ثورة بضحايا. وتأتي اللغة العربية على رأس تلك الضحايا. تلحقها الصحافة، التي تحوّلت إلى رصد أخبار الفنانين، والخصومات الأدبية متمثلة في معارك على الجوائز والدعوات، صحافة متخصّصة بأخبار النجوم، وبكواليس رجال السياسة وفضائحهم. يعرّي عدنان هنا المؤسسة الثقافية والإعلامية، عبر لغة ذكية تحوّل التراجيديا إلى كوميديا، ليست حيوانية وحسب، بل إلى كوميديا لغوية، كوميديا سوداء، من واقع متردي بكل المقاييس. لنقرأ الخبر وتصويباته اللغوية بسخرية مؤلمة، تعكس تردّي أحوال الثقافة واللغة والصحافة.

"داخل مول شهير بالدار البيضاء، شوهدت إحدى بطلات مسلسل "جنان الزيتونة" وهي تتشاجر مع بائعة في محل للمجوهرات. لم تُراع (حذَفْنا الياء احترامًا لحرف الجزم) الممثلة المذكورة لا حرمة المول ولا حرمة التلفزيون الذي تطل من شاشته على النظارة الكرام. مصادرنا اللي تابعت المشاجرة عن كَتب (لاواه "عن قرأ". الثاء مُعجَمة أيها الغبي...)" (ص263).

تشتد المعارك الوهمية والصانعة للحدث المغربي، بدءًا من الإشاعات والكواليس، حتى الأخبار المُسرَّبة إلى الصحافة عن اجتماعات سرية لنخبة من أبرز سياسيي البلد لإنشاء حزب جديد. ومرورا بالحراك الذي عرفه شارع الداخلة بحيّ المسيرة، الذي يقطن به رحّال ويعمل فيه أيضًا، على خلفية الحملة الانتخابية حيث ستُشهر الأحزاب رموزها الانتخابية الحيوانية في وجه بعضها البعض، لتتحول الحملات الانتخابية إلى معارك بين حيوانات، أو رموز حيوانية، وليس بين مرجعيات إيديولوجية واختيارات سياسية وبرامج حزبية.

بل حتى النقاش الذي يحتدم بين هذه الأحزاب، لا يكون بسبب اختلافات سياسية مباشرة بقدر ما يكون حول موضوعات لا تخلو من طرافة حيوانية. كما هو الشأن حينما اتّهم حزبُ "الناقة" حزبَ "الأخطبوط" بالفساد الانتخابي، لأنه وزّع عربات جديدة على بائعي الحلزون. يفتي فقهاء الناقة بتحريم الحلزون بالأدلة الدامغة، ويحكمون على أكلة الحلزون بالقتل. تحتدم المعركة بين إفتاء هنا وآخر هناك، ويغرق الشارع بالحلزون. بين محرم ومحلل. ينشغل الشعب بالهامش ويبتعد عن المتن. ما هي برامج تلك الأحزاب؟ وما هو تصوّرها لمستقبل البلاد؟  "فقد صار من الواضح أن من سيربح معركة الحلزون بين الحزبين سيكسب الانتخابات في مراكش بلا جدال" (ص430).

رواية ياسين عدنان ترصد مراكش من الداخل، بعيدًا عن مراكش الساحرة التي يعشقها السياح

يصوّر ياسين عدنان هذه التحولات بسردية مشوّقة، ولغة سلسة، محلّاة بسخرية مريرة، تزيد من متعة القراءة. كما يفضح من خلالها الفساد الانتخابي والسياسي والثقافي. هذا الفساد الذي يحتاج إلى ذيل إعلامي يسوّغه. حيث تدخل الصحافة الموجّهة بمعارك ضارية ضدّ كل من يتحرّك. كما ينبري أقطابها مثل نعيم مرزوق (الذي وُصِف كصانع الرأي العام الأول بالمغرب) ورئيس تحريره أنور ميمي في صراعات جانبية ومقالب مثيرة. وتعرف السلطة دائما كيف تستثمر هذه التجاذبات لصالحها.

اقرأ/ي أيضًا: "أولاد الغيتو- اسمي آدم".. سردٌ بلغة النّار

إنها رواية مفاجِئة. رواية مغربية بامتياز. نبحر من خلالها في أعماق المغرب الساخن، نراه عن قرب معاينين التحوّلات التي عاشها البلد منذ التسعينيات حتى اليوم. وليضيف إلى كل قارئ للرواية، عبر سرد مشوّق، تاريخًا لا نقرأه لنحفظه عن ظهر قلب. بل نسير معه سيرًا على الأقدام، عابرين الزمان والمكان، لنصل إلى مغرب اليوم. فهوت ماروك لا تدعنا نخرج منها، إلا بعد الغوص عميقًا في أحشاء المدينة العتيقة، وعلى أطراف مراكش التاريخية البعيدة عن مركز البهرجة السياحية. رواية ترصد مراكش من الداخل بلغة سردية رشيقة ممتعة. نسير بين صفحاتها في العشوائيات والأحياء الجديدة التي بدأت تستقبل جيوش الموظفين في هوامش المدينة. نرافق شخصيات الرواية المهمشة إلى حياتها الهامشية بعيدًا عن مراكش الساحرة التي يعشقها السياح، بعيدًا عن قلب الحمرة في هذه المدينة الساهرة.

"هوت ماروك" كوميديا حيوانية معاصرة، مسرحُها المدينة العربية كما نمت بيننا اليوم بعشوائية وبسوء تخطيط، وأبطالها شخوص عاديون - حتى أكثرهم سوءًا أشخاص عاديون- لهم أشباه بين الناس في كل البلاد العربية.

اقرأ/ي أيضًا:

5 روائيين يجيبون عن سؤال: كيف تكتب الرواية؟

ضياء جبيلي.. مدينة في فم القرش