18-مايو-2018

وهيبة باعلي

حاولت مرّاتٍ عديدةً أن أكتب عن تجربة الممثّلة المسرحية الجزائرية وهيبة باعلي (1986)، لكنّني ظللت أؤجّل الأمر منذ اكتشفتها عام 2012 لسبب يتعلّق بتحيّن استجماع المزاج اللّازم للكتابة عن هذا النّوع من المواهب النّادرة. وما أن بلغني رحيل سيّدة المسرح الجزائريّ صونيا حتّى هرعت إلى جهازي لأفعل ذلك. هل أردت أن أعزّي نفسي بالقول إنّ صونيا ستستمرّ في وهيبة؟

كان لقاء وهيبة باعلي بالمخرج عزّوز عبد القادر عام 2005، والذي ستؤدّي معظم الأدوار الرّئيسيّة في عروضه لاحقًا، نقطة تحوّل في حياتها

لم أقصد أن حضورهما متشابه فوق الرّكح، فأظلم كلتيهما، بل قصدت أنّ السّياقات الأولى التي ظهرت فيها صونيا في الجزائر العاصمة مطلع سبعينات القرن العشرين، من حيث كونُها كانت تتطلّب جرأةً وشجاعةً خاصّتين، شبيهة بسياقات ظهور وهيبة باعلي، بعد أربعين عامًا في مدينة تمنراست، 1700 كيلومتر إلى الجنوب من الجزائر العاصمة، حيث يصعب ظهور ممثّل مسرحيّ ناهيك عن ممثّلة. ليس من زاوية النّظرة الاجتماعية إلى ممارسة المرأة للتّمثيل فقط، بل من زاوية الإمكانيات المتاحة لذلك أيضًا، بما فيها وجود مقرّ يؤمن بالمسرح ويأوي عاشقيه.

اقرأ/ي أيضًا: حمزة جاب الله.. حين تنقذ السينوغرافيا المسرح

كان لقاء وهيبة باعلي بالمخرج عزّوز عبد القادر عام 2005، والذي ستؤدّي معظم الأدوار الرّئيسيّة في عروضه لاحقًا، نقطة تحوّل في حياتها. إذ لمس بحسّه الفنّي روحها الفنّية، فعرض عليها أن تلتحق بفرقته في دار الشّباب، واضعًا إياها في مواجهة شعورين لم تسلم منهما إلا نخبة قليلة جدًّا من الفنّانات الجزائريات، منذ ثلاثينات القرن العشرين، هما الرّغبة في إثبات الذّات والتّعبير عنها من خلال لفنّ، والخوف من ردّة فعل الأسرة. لكنّ وهيبة انحازت لرغبتها على حساب خوفها، وأخفت عن أهلها أنّها ستمثّل في عرض "نخلة الأجداد".

غير أنّ إخفاء أمر كهذا لن يدوم إلى الأبد، حيث تمّ اكتشاف تلبّسها بالتّمثيل، "كان إحساسًا صعبًا ذاك الذّي ينتابك، وأنت تُمثّل متمنّيًا ألا يعرفك أحد. ففي الوقت الذي كان زملائي فيه يحلمون بالأضواء كنت أتمنّى أن أبقى في العتمة، وهذا دليل على أنّني جئت إلى التّمثيل لأعبّر عن ذاتي لا للبحث عن شهرة. ممّا جنّبني لاحقًا التّهافت على الفرص، وبرمج حضوري على الزّهد والنّزاهة والانتقاء، وهي قيم ما فقدها الفنّان إلا فقد مصداقيته".

وهيبة باعلي

هنا، كان على وهيبة باعلي أن تبذل جهدين في الوقت نفسِه، أن تطوّر قدراتها ومعارفها المسرحية، ذلك أنّها فهمت كون المسرح عناقًا بين الموهبة والمعرفة، وأن تقنع أسرتها بخيارها، الذي لا ينتفي مع كونها "شريفةً سليلة شريف"، وهو مصطلح له سلطته في النّسيج الطوارقيّ الصّحراويّ، "لمست أسرتي صدقي فصدّقتني. وباتت ترفض تغيّباتي عن التّدريبات، فتتّصل بالمخرج لتشكوني عنده. إنّ صدق الفنّان وانسجامه مع طموحه أقوى من البروق والرّعود والزّلازل والبراكين".

دفع هذا الصّدق بمحدّثة "الترا صوت" إلى أن تتماهى مع دور المجنونة في مسرحية "هجروا المكان" عام 2007 لعبد الهادي دحدوح، حيث كانت تبكي بحرارة في فترة التّدريبات، لخوفها من أن تكون مدّعية في فنّ المسرح، فلا تستطيع أن توصل صورة المجنون إلى النّاس، "هم ظلموه تاريخيًّا بنفي الحكمة عنه، ولا ينبغي أن أظلمه أنا أيضًا بتمثيل بارد ومحدود ومبتذل ونمطي". تضيف: "لقد نسيت واقعي وانخرطت في واقع المجنونة، حتّى باتت عبارة "لاباس؟" أكثر ما أسمع في محيطي".

 في عام 2008، في عزّ إدارة الفنّان امحمّد بن قطّاف لـ"المسرح الوطنيّ الجزائريّ"، رأى ضيوف "المهرجان الوطنيّ للمسرح المحترف" فتاةً سمراءَ ترفل في حيائها وزيّها الطّوارقيّ المتشبّع بالرّوح الأفريقية. وقد كان معظمهم، إلى ذلك الحين، لا يسمعون بمسرح في الجنوب أو لا يتوقّعونه أو لا يؤمنون به أصلًا، إذ لم تضف حكومات الاستقلال مسرحًا واحدًا على ما تركته فرنسا من مسارحَ في الشّمال، فتوزّع نظرتَهم إليها الفضولُ والاستخفاف، حتى إذا اعتلت الرّكحَ باتت النّظرة محكومةً بالإعجاب والانبهار وحدهما.    

لا يدري الثّنائي وهيبة باعلي وعزّوز عبد القادر أيّهما صنيعة الآخر. فكلّ واحد منهما قدّم للثّاني ما كان محتاجًا إليه، في بيئة معزولة مسرحيًّا، ولطالما نُظر إليها في الدّاخل والخارج على أنّها فضاء سياحيّ غنيّ بالفلكلور وسحر الصّحراء. هي وفّرت له ممثّلةً شغوفة ومتلهفة لتلقّي معارفَ ومفاهيمَ ومغامراتٍ جديدةً، فيطبّق عليها/ معها جنونه المسرحي، وهو قدّم لها مخرجًا عارفًا بنقاط قوّتها، فيصمّم العرض ليستوعب جموحها. من هنا تجاوز عزّوز ووهيبة مقام "من أفاد من؟" إلى مقام "لنرافقْ بعضنا".

لا يسمعان بورشة تكوينية إلا قصداها، وما دُعيا للمشاركة في مهرجان في الدّاخل أو الخارج إلا أجابا الدّعوة. هنا علينا التّذكير بأنّ أقرب مسرح إليهما في مدينة تمنراست يبعد بـ1200 كيلومتر، غير أنّهما كرّسا انطباعًا داخل المشهد المسرحي الجزائري مفاده أنّهما لا يحضران بغير الجديد ولا يعودان بغير تتويج.

افتكّت وهيبة جائزة أفضل ممثّلة في "أيّام الفرجة المسرحية" لمدينة ورقلة، و"المهرجان الوطني لمسرح الطفل" لمدينة خنشلة، و"المهرجان الوطني للمسرح المحترف"، و"المهرجان الوطني للمسرح الأمازيغيّ"، و"أيّام المونودراما" في مدينة الأغواط، و"مهرجان المسرح النّسوي" في مدينة عنّابة، و"أيام المونودراما" في مدينة أدرار، و"مهرجان النّخلة الذّهبية المغاربي" في المدينة نفسها، ومهرجان "البقعة الدولي للمسرح" في السّودان، و"المهرجان الدّولي للمسرح" باقليم سيدي قاسم في المغرب، و"الأيام المغاربية للمسرح التجريبي" لمدينة سطيف، وجائزة رئيس الجمهورية لأحسن ممثلة.

تملك وهيبة باعلي قدرةً خاصّةً على أن تلفت الانتباه إليها في العروض الجماعية، من غير أن يؤدي ذلك إلى الإخلال بتوازن الأدوار

تملك وهيبة باعلي قدرةً خاصّةً على أن تلفت الانتباه إليها في العروض الجماعية، من غير أن تقع في السّيطرة السّلبية المؤدّية إلى الإخلال بتوازن الأدوار داخل العرض، ويصبح حضورها الفردي فوق الرّكح كاسحًا، بحيث تتحوّل إلى جمع من الممثّلين والممثّلات دفعةً واحدةً. ظهر ذلك في منودرام "ريق الشّيطان"، الذي افتكّ أكثر من جائزة وازنة منها جائزة "الحبارى الذّهبية" في "الأيّام الوطنيّة الثّانية للمونودراما" في مدينة الأغواط، ومنودرام "نوّارة"، الذي توّج بجائزة "وسام الواحات" في مدينة ورقلة.

اقرأ/ي أيضًا: أحمد رزّاق.. في هموم المسرح الجزائري

يقول النّاشط المسرحي محي الدّين بن محمّد، الذي رافق بدايات محدّثتنا في مدينة تمنراست إنّ ما يُميّز وهيبة باعلي كونُها تفرض عليك خصوصيتها في التّمثيل، "فهي تضيف للدّور المسنود إليها، إلى درجة أنّه يصعب تعويضها بغيرها، مهما كانت موهبة الممثّلة البديلة قويّة". يختم محدّث "الترا صوت": "كأنّ روح الصّحراء الجزائريّة أرادت أن تتجسّد في ممثّلة مسرحية، فكانت وهيبة باعلي".  

 

اقرأ/ي أيضًا:

محمد أمين رفاس.. مناضل شاب لأجل المسرح

عبد الله بهلول.. أن تمارس المسرح وتدرسه