16-يناير-2025
ناس في الشمس/إدوارد هوبر

ناس في الشمس لـ إدوارد هوبر

ما أن يفتح أحدنا فمه ليقول رأيًا في الدولة أو المجتمع، حتى يبادر أحدهم ليلقمك حجرًا، منطلقًا من مبدأ الخصوصية الذي يُعتبر تجربة فريدة في العالم، يقف المرء حائرًا أمام هذا الطرح.
الخصوصية حق من حقوق الإنسان، فردًا وجماعة، وعندما يناطحك أحدهم بموضوع الخصوصية فجأةً، تشعر بالوهن في الإجابة، وتحتاج إلى وقت للتفكر والتدبر. هكذا تُستخدم حجة الخصوصية في التطبيقات المعيشية للفرد والجماعة الوطنية.

لقد صار العالم في مكان آخر وزمان آخر، متحديًا خصوصيتنا البليدة والمديدة، في تنافس أساسه المعرفة بكل فروعها

هكذا هي الخصوصية: كلمة/حجة يشهرها كل من لا يعرف عنها شيئًا، إنها خصوصية وحسب. يخجل مطلقها من إعلانها، ويمارسها في محلياته وكأنها قانون في الطبيعة البشرية يُسلّم به العامة ممن لم يتعرضوا لأي ثقافة حقوقية. تُستخدم كمدخل للاستبداد، بحيث يُمكّن الأفراد من ممارسة حياة منقوصة الحقوق، منقوصة الكرامة، إجلالًا لخصوصية مفترضة لم ينتجوها وإنما أمليت عليهم بحكم أعراف وتقاليد وفلكلور يُسمى بالمجاز تراثًا، حتى أضحت الخصوصية الحصن الحصين لدكتاتوريات من صنف خاص ليس لها تعريف في القاموس السياسي العالمي.

لدرجة أنها انكفأت عن تعريف الدكتاتورية إلى صيغة "المستبد العادل"، وهي صيغة خاطئة في المعايير الفكرية، إذ لا يوجد مستبد عادل في التجربة المعرفية العالمية بالمطلق، لأن المستبد لا يعتمد التسالم والمساواة أساسًا لتغلبه، والغلبة هي صفاقة تعاند المعرفة وتعاكسها. كل هذا اعتمادًا على الخصوصية التي تحكم بأن هذا الشعب لا تليق به الديمقراطية، ولا الحرية، ولا الدولة المتعاقدة مع أعضاء المجتمع.

إذًا، ما هي الخصوصية التي نتمتع بها نحن أبناء هذه السكانيات العربية، ومنها السورية، في ظل التغييرات الطازجة، مقارنةً بالخصوصيات التي تبجح بها النظام السابق؟ هل هي النفاق والتملق لكل نظام أو محتكر للقوة والسجون والإعدامات؟ أم هي خصوصية التلطي وراء الشعارات القديمة؟ أم الالتزام بالثوابت المقدسة التي تجاوزها العالم منذ زمن بعيد؟

لقد صار العالم في مكان آخر وزمان آخر، متحديًا خصوصيتنا البليدة والمديدة، في تنافس أساسه المعرفة بكل فروعها. نحن في ذيل قائمة المحتاجين للمساعدة، لأن خصوصيتنا تمنعنا من إعلان حاجتنا للآخر أو التشبه به.

نركب نفس السيارات، ونستقل ذات الطائرات، ونأخذ نفس الأدوية، ونستخدم ذات الأدوات الجراحية، ونأكل نفس البيتزا والهامبرغر، وذات البيبسي، ونقرأ ديستويفسكي، وموليير، وغارسيا ماركيز، وسلمان رشدي، وموراكامي، ونتعلم منهم، ونشاهد كوبولا وسكورسيزي وريدلي سكوت. نستخدم نفس مناهج التأريخ والأنثروبولوجيا والطب والصيدلة، ومن ثم نقول إن لنا خصوصيتنا. أي خصوصية هذه ونحن أول من أنتج القمح منذ سومر، لكننا ننتظره الآن من روسيا وأوكرانيا وأميركا؟ أين هي تلك الخصوصية في إنتاجاتنا؟ أين هي الرسالة المعرفية الخصوصية التي يمكن أن نرسلها للعالم دون أن يضحك منا؟

لقد استُثمرت مفردة الخصوصية في أقبح صورها، بحيث لا ينطبق علينا وجه واحد من أوجه التشابه الإنساني. الدولة التي اخترعها العالم لا تسمح خصوصيتنا باعتمادها، والمجتمع الذي أرسى العالم أركانه على قاعدة المواطنة لا يتناسب مع خصوصيتنا.

خصوصيتنا غير مقتنعة بالمساواة ولا تحبذها، وعلى العالم كله الاعتراف بخصوصيتنا "الفاخرة"، التي تنتج المسالخ البشرية، ما يعبر عن فرادتها وإيجابيتها! وعلى العالم الاعتراف بفضائلها، قبل أن ينتهي صحيحها إلى التفكك والفناء.

نستخدم نفس مناهج التأريخ والأنثروبولوجيا والطب والصيدلة، ومن ثم نقول إن لنا خصوصيتنا

الحضارة، إذا كانت حضارة فعلًا، هي تكاملية وليست تمايزية، إلا بالإنتاج الإبداعي غير المسبوق. اليوم نعرف ألمانيا بالمرسيدس ولوفتهانزا، وفرنسا بالبهجة والثقافة، وهولندا بالزهور ومشتقات الحليب، وحتى بنغلاديش نعرفها بالجوت ومشتقاته. أما بلادنا فنعرفها بمعتقلاتها وقوانينها المخجلة، فهي الإنتاج الوحيد الذي يعبر عن خصوصيتنا.

الخصوصية في هذا الزمان وهم مشروع للقتلة وأصحاب الأيديولوجيات المريضة. الخصوصية تظهر إجبارياً في الإنتاج الذي تنافس وتقايض به، كي يكون لك مكانة، وليس مجرد مكان تدافع عن السيادة عليه.