18-أكتوبر-2015

جلال سبهر/ إيران

عندما كنتُ صغيرة كنتُ لا أحبُّ سؤالَ الآخرين لي: "من أين أنتِ؟" كان السؤال يّربكني ويحيّرني. ماذا يريدُ سائلي أن يعرف؟ أين وُلِدتُ؟ أين وُلِدَ أبي؟ الخانة؟ رقم الهوية؟ أين أعيش؟ بماذا أدين؟ لم أكن أفهم بالضبط ما المطلوب من السؤال. كنت أعزو حيرتي وارتباكي لانتماءاتي الكثيرة فعليًّا. وهي انتماءاتٌ أحبّها كلّها ولكلٍّ منها حيّزٌ خاصٌّ في قلبي، وفضلٌ واضحٌ على ذاكرتي وشخصيتي وأهوائي.

فأبي وُلِدَ حيثُ أرادَ الفرنسيونَ لجدّي أن يكون. عاش هناك وكَبُرَ ثم بنى وشارك وأنجزَ وأحبَّ و تعلَّق و... وانتمى. لكنّه في الحقيقة بحريُّ الأصلِ والهوى. 
وأمّي من قريةٍ صغيرةٍ خضراء اللون والقلب. ورِثنا منها بعضَ الطباع والكثير من الذكريات. عاشت أمي في مدينة أبي الأولى ثم الثانية. أمّا ولادتها فلم تكن لا في قريتها ولا في أيّ من المدينتين. أُمّي وُلِدت على الطريق بين انتماءين.
جدّتي لأبي من تلك البقعة السّليبة. عائليًّا، لا نتحدّثُ في الأمر كثيرًا. لكنّه – ولدى الجيل الأصغر تحديدًا- يشغلُ بالنا وأمنياتنا وأحاديثنا الضمنيّة من وقت لآخر.
جدّتي لأمي ريفيةٌ أيضًا. لم أَزُرْ قريتها يومًا رغمَ تجوالي الكثير في الوسط. لكني سمعتُ عنها وعن ناسها وتضاريسها وملامح الماضي فيها ما يكفي لأن تنغرسَ عندي كجذرٍ عميقٍ أيضًا. 

وهكذا...
وتطولُ قائمةُ انتماءاتي المكانية لكنها بالطبع لا تشكّلُ وحدها خارطةً دقيقةً لمسقطِ قلبي.
فأنا –بإهمالِ أواصرِ الدمّ – أنتمي إلى مدنٍ وقرىً وأماكنَ كثيرة.
أنتمي إلى أحرف الاسم لتلك المدينة التي اخترتُها حقلًا لتجاربي وسقطاتي، أرضًا لاستقلالي وملعبًا لأحلامي. واعتقدتُ لشدّة الحب أن إقامتي فيها ستكون نهائية. فما كانت إلّا مرحليّة.
أنتمي إلى موسيقى تلك المدن الحدودية وأغنياتها العاطفية الجريئة. أنتمي إلى اللهجة الثقيلة فيها وفي جاراتها السمراوات.
أنتمي إلى سهرةٍ صيفيةٍ عفويةٍ على سطحِ مسكنٍ صغير في قريةٍ لم يسمع باسمها إلّا أهلُها وبعضُ مجاوريهم.
أنتمي إلى الحنّة المنقوشة على يد جدةٍ جنوبيةٍ أنجبت من الأبناء والأحفاد واحدًا وثلاثين ناجحًا. وهي لا تعرفُ في الكتابة الخمسةَ من الخمسين.
أنتمي إلى ابتسامات أصدقائي في صور طفولتهم. وأنا لم أعرفهم إلا كبارًا. فأحببتهم وأحببتُ مُدُنَهم وأهاليهم حتى قبل أن أزورهم. وأحيانًا دون أن أزورهم قطّ.
أنتمي إلى ثوب المولوي وهو يدورُ ويدورُ ليغطي بناقوسه الأبيض سوادَ العالم وليوحّدَ بيديه المرفوعتين كلّ الكائنات.
أنتمي إلى أزقةٍ وشوارعَ وشموع وضحكاتٍ
أنتمي إلى أدراجٍ وأبراجٍ وشواطئَ ودموع
أنتمي إلى غيمةٍ
إلى نكتةٍ
إلى رائحةِ طبخةِ جيراننا تملأُ، عند الرجوع، مدخل البناء
أنتمي إلى كأسٍ في يدِ من استدانَ ليسهر آخر سهرة مع صديقه المهاجر
أنتمي إلى حَلَقٍ في أُذني عروس
أنتمي إلى مصباحٍ دراسيّ
وفي صباحِ يومٍ باردٍ، أمامَ شبّاك الخبز
أنتمي إلى قصص حبٍّ وكتبٍ ورسائلَ لا أعرف أصحابها ولا عناوينهم
أنتمي إلى حقٍّ ممنوع
أنا أنتمي وأنتمي وأنتمي ...
فعن أي انتماءٍ يستفسرُ سائلي؟ وكيفَ أختصرُ له الأمر؟

أما اليوم... وبعدَ أن حلَّ ما حلَّ بمدني وقُرايَ وذكرياتي وكل انتماءاتي لا زال السؤال يربكني ويحيّرني. لكنّ ما اختلفَ هو أسبابي، وما ضاعَ منّي هو جوابي. اليوم.. أقف أمام انتماءاتي وقد صارت معلولةَ القلب ومبتورةَ اليدين، أحافظُ على مسافةِ العقلِ والانعتاق بيننا، فلا هي تفتحُ ذراعيها لتحضنني، ولا أنا أرمي بنفسي عندها.

نقفُ حائرتَين .. والضّيقُ بالضّيقِ مشفوع.