17-نوفمبر-2017

الكاتب السوري وليدي السابق

في روايته الثانيّة، الموسومة بـ"ما بعد الخطيئة الأولى" (دار الآداب، بيروت 2017) يمزج الكاتب السوري وليد السابق الواقع والخيال، وهو خيال يصلُ أحيانًا إلى حدود اللاواقعيّة، مشكِّلًا عوالم موازيّة وأخرى واقعيّة يصعب التمييز بينهما، مقدِّمًا حكايةً مليئةً بالدلالات والإشارات المكثّفة، والتي تروي بدورها حكاية طالب جامعيّ تعكِسُ حياتهُ أزماتٍ وهمومًا إنسانيّة عامّة، متمثِّلةً في العنف ودوره في تشويه النفس البشريّة وإعادة صياغتها، بشكلٍ يجعلها قابلةً لإعادة الصياغة مجدَّدًا.

تقدم رواية "ما بعد الخطيئة الأولى" نماذج للعنف الذي تمارسه السلطات ضد الفرد

يقدّم وليد السابق في الرواية نماذج عدّة لذلك العنف الذي يكون غالبًا غير مُباشر، ولكنّ أبرزها يكمنُ في العنف الذي تُمارسهُ السلطات، ورجالها الممسكين بمصائر الآخرين.

اقرأ/ي أيضًا: بسمة الخطيب.. الحكاية بوصفها شراكة مع الأسلاف

يحاولُ أيضًا وليد السابق من خلال الرواية التأكيد على أنّ الانسان غالبًا غيّر مُخيّر في تقرير مصيره، أو هندسة الشكل الذي من المُمكن أن تقوم عليه حياته الشخصيّة، إذ إنّ الأمر غالبًا ما يكونُ رهن الصدفة وما تولِّدهُ من أحداث ومتغيّرات تُجبر الانسان على سلوك الطريق الذي تضعهُ لهُ الصُدف، لا الطريق الذي يختاره بنفسهِ، والأمر ينطبقُ أيضًا على شكل حياتهِ وما هو متعلِّقٌ بها، إذ أنّ الأمر عادةً ما يحدث دون إرادة المرء، ودون أدنى درجات المُقاومة أيضًا.

تبدأ الرواية من اللحظة التي يشعرُ فيها جابر أنّهُ وحيد داخل قاعة الامتحان، ليتّطوّر ذلك الشعور لاحقًا ويكتشف إثره أنّهُ وحيد داخل الجامعة فعلًا، وبعد ذلك في المدينة كلّها، والتي اختفى منها، كما يقول لـ"ألترا صوت"، كلّ ما يدلُّ على وجود حياة داخلها، ما يدفعهُ للقول أثناء السير في شوارع المدينة باكيًا: "أنا كلّ شيء في المدينة الآن: القانون والضمير والجسد والخطيئة".

جابر في الرواية طالبٌ جامعيّ يُطردُ من السكن المُخصّص للطلبة، الأمر الذي يحوِّلهُ فيما بعد إلى شخصيّة مُهمّشة وغير مرئيّة داخل الجامعة، إذ أنّ عمليّة الطرد وما رافقها من أحداث ساهمت في قلب حياته وجعله أكثر ميلًا للصمت والعزلة والشعور المُستمرّ باللاوجود، بالإضافة إلى ما تعرّض لهُ لاحقًا من ظلم وقهر من السلطة ورجالها.

يدخلُ جابر في حلم يتداخل ويمتزج مع واقعه، مما يجعل أمر التمييز بين الواقع والحلم أمرًا صعبًا بالنسبة لهُ وللقارئ معًا، ليعيش بعد ذلك ثلاث حيواتٍ مُختلفة، بعد أن يُقاد من قبل رجال بملابس سوداء لمقابلة "الرجل الكبير" الذي يعرض على جابر تغيير أصغر التفاصيل في حياته، والتي من شأنها تغيير حياته كلّيًا، شارحًا لهُ الشكل الذي من الممكن أن تقوم عليه حياته بعد ذلك.

ما بعد الخطيئة الأولى

شخصيّة "الرجل الكبير" في رواية "ما بعد الخطيئة الأولى" غامضة وغير واضحة المعالم والتفاصيل. ويبدو أنّ الأمر كان مقصودًا من قبل الروائيّ، محاولًا بذلك إشراك القارئ في نصِّه، إذ يترك لهُ فرصة تفسير تلك الشخصيّة كما يراها في خياله. لكنّ الشخصيّة مٌشابهة لشخصيّة "الأخ الأكبر" في رواية "1984" للروائي البريطانيّ جورج أورويل، حيث إنّها، في الرواية، تمثّل ما يشبه سلطة السماء، والمُتحكِّمة في مصائر الآخرين. كما أنّها المسؤولة عن التغيّرات الثلاثة في حياة جابر بعد أن غيّرت بعض التفاصيل، حيث يموت ابنه ويُطرد من عمله قبل أن تتخلّى عنه زوجته فيما بعد. الأمر الذي يغيّر من حياته للمرّة الثالثة، ويجعل منه، بعد امتلاكه للسلطة والقوّة، شخصًا متوحِّشًا وقاسي القلب.

مصير الانسان كبندول الساعة الذي يكون في وضع الشاقول متوازنًا توازنًا وهميًّا، دفعة صغيرة كفيلة بجعله يهتز

حول الرواية يقول وليد السابق لنا: "الرسالة التي أريد إيصالها للقرّاء هي أنّ مصير الانسان غيّر مستقر، تمامًا كبندول الساعة الذي يكون في وضع الشاقول متوازنًا توازنًا وهميًّا، ولكنّ دفعةً صغيرة جدًا كفيلة بجعله يهتز".

اقرأ/ي أيضًا: رواية "بينوكيو".. فانتازيا إيطالية

جدير بالذكر أنّ وليد السابق روائيّ وشاعر سوري مقيم في كندا منذ سنة 2001. وقد صدرت روايته الأولى "أصل العالم" العام الفائت.


مقطع من الرواية

نحن نعلم السبب الذي دفع جابراً إلى أن يجعل زوج الطبيبة وغداً، وحقيراً. نعرفه حين تغوصُ قليلاً تحت السطح: حين نغوص في أوحال النفس البشرية. جابر أيضاً يعرفه لكنه يكذب على نفسه مدعياً الجهل. لتستمر الحياة. فقط لتستمر الحياة.

لو أنه جعل حياة الطبيبة مثالية، وسعيدة، لأحس بالهوة العميقة التي تفصله عن الآخر. لأحس بخساراته، وانكساراته، في مواجهة نجاحات الآخر. بكلمة أخرى، لأحس بقانون الاصطفاء الطبيعي الظالم، حياً في أحزانهَ.

جابر يدافعُ عن نفسه. شيء في لا وعيه يدفعه ليجعل حياة الطبيبة جحيمًا مُطلقًا. حتى وإن كانت الحقيقة مختلفة تماماً، فهذا ليس مهمًا. المهم هو ما نفكّر فيه، ونقنِعُ أنفسنا بهِ، نتبنّاه كدين أو عقيدة. وللمفارقة، يصبحُ الخيال حقيقة ووجودًا، ويصبحُ واقعًا كليًا، تمامًا كما الأحلام، تُخلَقُ الأحداث والمشاعر والأشخاص فجأة، وتغدو في أحلامنا حياة. تطفو من العقل الباطن بقوانين ما زلنا - أسفًا – نجهلها، وتعبثُ بنا، كما يعبثُ طفل برمل الشاطئ.

 

اقرأ/ي أيضًا:

أليف شفق تكتب رواية ستُنشر بعد 100 عام في "مكتبة المستقبل"

رواية "أثر على أثر".. تقلبات روسيا المعاصرة