15-يوليو-2018

الشاعر والروائي وليد السابق

منذ ما يزيد عن خمسة عشر عامًا تقريبًا، قرَّرَ وليد السابق مغادرة بلاده، سوريا. سافر حينها إلى كندا ليعيش غربةً جغرافية وثقافية وأخرى لغوية. ومن غربته هذه، أطلَّ على عالمه العربيّ قبل سنتين من الآن بروايته الأولى "أصل العالم" التي أتبعها برواية ثانية جاءت بعنوان "ما بعد الخطيئة الأولى". أزاحت هاتان الروايتان بعضًا من ثقل الغربة من على كاهل كاتبها، وأعادت بشكلٍ أو بآخر وصله بعوالمه الأولى.

استطاع وليد السابق أن يحجز لنفسه مكانًا في الفضاء الروائيّ العربيّ المزدحم أساسًا بأسماء روائية كثيرة

استطاع وليد السابق أن يحجز لنفسه مكانًا في الفضاء الروائيّ العربيّ المزدحم أساسًا بأسماء روائية كثيرة. وهنا، لا بدّ من العودة إلى البدايات والتعرّف إلى بداياته الأدبية. يقول وليد السابق: "كنت في الثالثة عشر من العمر حين قرأت الكتاب الأوّل، وشاءت المصادفة أن يكون الكتاب هو "آلام فرتر" لغوته. سحرني الكتاب رغم أنّني لم أصل إلى قعره وأنا في تلك السِّن، وأعدت قراءته فيما بعد. بعدها، بدأت بقراءة كلّ ما يقع في يدي من كتب، بغضّ النظر عن تصنيفاتها. وفي المرحلة الثانوية، بدأت بتأسيس مكتبتي الشخصية التي جمعت كتبها من كلّ مكان، ولا سيما من باعة الكتب المستعملة في الحلبوني، ومطبوعات هيئة وزارة الثقافة؛ المكتبة التي قرّرت تركها في سوريا لتحرّض ذاكرتي في الغربة بأنّني لا أزال أملك وطنًا في تلك الأرض. وبطبيعة الحال، وككلّ الأشياء في سوريا، طالت الحرب المكتبة وداستها".

اقرأ/ي أيضًا: وليد السابق.. كائنات الرعب اللامرئية

كتب وليد السابق روايته الأولى "أصل العالم" قبل عامين من الآن، أي في منتصف أربعيناته، ويفسّر تأخّر ولادتها بالأنانية التي كانت تدفعه ليملأ وقته بالقراءة بدلًا من الكتابة. "لأنّ الرواية قد تستغرق سنةً على الأقل، وفي هذه السنة، أستطيع قراءة ما يزيد عن 50 كتابًا. ولذلك، قررت أن أقرأ فقط" يوضّح.

لكنّ زيارته برفقة عائلته إلى منارة تقع في ولاية جورجيا الأمريكية، وإدراكه أنّ المنارة غير ملتصقة بشكلٍ كافٍ وأنّ خطر انهيارها وارد، دفعه لتغيير ما كان مُصمِّمًا عليه. يقول وليد السابق: "أعلى المنارة، رأيت كلّ ما قرأته في حياتي يسبح كغمامة في سماء المدينة. حينها، قلت لنفسي: إن عدت حيًّا إلى الأرض ولم تتفتت المنارة وتنهار، سأكتب رواية. وعلى عكس ما توقّعت تمامًا، لم تستغرق روايتي الأولى سوى شهرين فقط. وفي الحقيقة لم أفكّر يومًا إن كانت قد جاءت متأخّرة أم لا، لأنّها ببساطة جاءت حين تمخّضت عنها ذاكرة كانت قد خزّنت الكثير".

يكتب وليد السابق الشعر إلى جوار الرواية، ما يدفعنا لسؤاله إن كان قد بدأ مشواره الأدبيّ بالشّعر، لا سيما وأنّ عددًا كبيرًا من الكتّاب كانوا يولدون آنذاك شعراء. يقول: كانت محاولاتي الأدبية في بداياتها شعرًا، وأذكر أنّني نظّمت في المرحلة الثانوية بعض الشّعر الساذج الذي تطغى فيه القافية على المعنى فتأسره. بعد ذلك، بدأت أتحرر من القافية باتّجاه ما نسمّيه اليوم شعرًا حرًّا". ويضيف وليد السابق: "كنت وما زلت أحبّ الشّعر، لأنّ الشّعر هو حالة وجدانية تهدف إلى توثيق لحظة أو لحظات بعينها. ناهيك عن أنّه، أي الشّعر، يجعل من كاتبه حرًّا، لأنّه أساسًا فسحة من الحرّية". وهل يفضّل وليد السابق الرواية عن الشّعر أم العكس؟ بالنسبة إليه، يقول إنّ المفاضلة بينهما غير ممكنة، لأنّ لكلٍّ من هذين الجنسين سحرهما الخاص.

بين تاريخ صدور روايته الأولى والثانية مدّة زمنية قصيرة، لا تتجاوز السنة والنصف. ولا شكّ أنّ لهذا الأمر سببًا ما، أي هذه الغزارة المفاجأة. قد يخيّل لنا أوّلًا أنّ الأمر جاء كتعويض عن السنوات التي فاتت. ولكنّ لضيفنا رأي آخر، إذ يقول إنّ السبب وراء هذه الغزارة هو أنّ فكرة الروايتين كانت يانعة كـ"حبّة خوخ لا ينقصها سوى القطاف". بالإضافة إلى ما يسمّيه بالإحساس الأزلي بالعجز واللاخلود، وإحساس الإنسان بعمره القصير على هذه الأرض، ما يدفعه بطبيعة الحال إلى محاولته أن يقول الكثير في مدّة زمنية قصيرة.

وليد السابق: أية محاولة للكتابة الآن عمّا حدث ويحدث في سوريا ما هي إلّا محاولة منقوصة

في ظلّ حديثنا هذا، لا يُمكننا تجاهل إقامته منذ سنواتٍ طويلة في كندا. ولأن أوّل ما يتبادر إلى ذهننا هو العزلة الجغرافية التي فرضتها ربّما عليه إقامته هذه. ناهيك عن انشطار الهويّة ولا سيما الهوية الثقافية، سألنا وليد السابق عن الكيفية التي يتعامل بها مع مرجعيته الثقافية الأولى وسط ثقافة مختلفة كلّيًا عن ثقافته. وأيضًا، عما إذا كانت الغربة قد تركت تأثيرًا ما على أعماله الأدبية؟ وإذا كانت الكتابة قد جاءت أساسًا بحدِّ ذاتها كوسيلة لمقاومة الغربة. ليقول لنا: "حاولت في البداية، مُخلصًا، أن أتقرّب من ثقافة المجتمع الجديد، أي الكندي، وإن جزئيًا. قرأت الأدب والتاريخ هنا، ولكنّي سرعان ما اكتشفت الهوة العميقة بيننا. وأعتقد أنّ غربة الإنسان تبدأ حين تصبح الذاكرة البعيدة حاضرة في كلّ مكان. خذ مثلًا غربة اللغة، والقيم واختلافها وأخيرًا غربة الذاكرة. وأستطيع القول صادقًا إنّني بعيد تمامًا عن الحركة الثقافية في كندا. أمّا فيما يتعلّق بتأثير الغربة على مشروعي الأدبيّ، فلقد تركت أثرًا لا تخطئه العين في أعمالي، وأعتقد أنّه، أي الأثر، تُرجم في رواية "أصل العالم" الذي كان بطلها يوسف مغتربًا في مدينة لا تمنحه شيئًا غير الخراب والحزن".

اقرأ/ي أيضًا: وليد السابق.. النفس البشرية تسير إلى خرابها

كتب وليد السابق روايتين تناولتا موضوع غربة الإنسان عن السلطة، ودارت أحداثهما في فضاء مشبع بالرعب والقهر، أضفى على الشخصيات في كلتا الروايتين مصائر قاسية ومفجعة. يفسّر وليد السابق الأسباب التي دفعته لاختيار هذه المواضيع في حديثه معنا بقوله إنّ الأمر يعود بالدرجة الأولى لكونه ولد في بيئة شرقية عانت كثيرًا من قهر السلطة. ويؤكّد أنّ اختار هذا الموضوع كفضاء انطلق منه في بناء عمارته الروائية بناءً على إيمانه بأنّ الإنسان يستحقّ أن يُعفى من العذاب، ويكون حرًّا حريةً كاملة ومطلقة ونهائية.

يعوّل صاحب "ما بعد الخطيئة الأولى" على الصدفة في بناء عمارته السردية، ذلك أنّ الصدفة في رأيه كفيلةً بأنّ تُغيِّر الحياة والتاريخ معًا. يقول: "قادتني الصدفة إلى كتابة روايتي الأولى، فلو لم أصعد إلى المنارة في ذلك اليوم، لكنت قد تابعت حياتي قارئًا لا أديبًا. ولأنّ الصدفة تحرّك الحياة، وانطلاقًا من الإيمان بهذا الأمر، بنيت روايتي الثانية على الصدفة أيضًا".

من يقرأ روايتيّ وليد السابق، يجد أنّ هناك، في كلتا الروايتين، شخصية ممسكة بمصائر البشر والحياة برّمتها، وتسير الأخيرة وفقًا لها. وهي في رواية "أصل العالم" تُدعى الجنرال. أمَا في "ما بعد الخطيئة الأولى" فكانت "الرجل الكبير". وعن تكرار هذه الشخصية لجهة القوة والقدرة على إعادة صياغة مصائر البشر، يقول محدّثنا: "ظهر "الجنرال" في رواية "أصل العالم" مرّتين فقط. وفي هاتين المرّتين كان يظهر في أحلام يوسف. أمّا "الرجل الكبير" فظهر كثيرًا في "ما بعد الخطيئة الأولى". والفارق بين الشخصيتين هو أن الجنرال أوجدناه حين شخّصنا المشخّص، المشخّص القوي الذي جاء بعد تقسيم العمل في العشير الأوّل حين تمايزت الأفراد بعد أن كانوا متساوين في كل شيء. أمّا الرجل الكبير، فكان رد فعلنا الساذج على مقولة الكون "كم أنتم ضعفاء". أي أنّ الجنرال في كّل مكان، وإن كانت صورته متغيّرة، فهي تبدأ بربّ الأسرة لينتهي في السماء البعيدة. أما الرجل الكبير، فهو الحاضر الغائب".

تتقاطع رواية وليد السابق الأولى مع روايته الثانية في عدّة أمور، لا سيما أن الاثنتين تدور أحداثهنّ في مجتمعات تعيش حالة من الخراب الذي يحاصر أفرادها، وغالبًا ما يكون حصارًا تفرضه السلطة ذاتها على الشعب. كان سؤالنا هنا إن كانت هذه المجتمعات جاءت في الروايتين كإشارة واضحة وصريحة ربّما للمجتمعات العربية عمومًا، والمجتمع السوريّ خصوصًا، لا سيما في السنوات الأخيرة؟ وعن هذا الأمر يقول: "لقد أسقطت الزمان والمكان نفسه في كلتا الروايتين. والسرد الذي يضيء مسيرة المقهور في رواية "أصل العالم"، يضيء حيواتٍ كثيرة، ويستنطق في حكايته ما يصلح ليكون حكاية لجميع المقهورين. كذلك الأمر في "ما بعد الخطيئة الأولى"، حيث تسرد حكاية جابر التي يتداخل فيها الحلم مع الواقع حكايات أخرى كثيرة".

يٌضيف محدّثنا قائلاً: "باستثناء بعض الإشارات لا يمكن التكهن بالمكان، ولا الزمان أيضًا. ففي "أصل العالم" كانت الشاشة التلفزيونية الكبيرة في القصر إشارة لزمن ليس بعيد. وفي "ما بعد الخطيئة الأولى" كان تعذيب جابر واقتلاع أظافره إشارة لمجتمعات بعينها. ولكن، أليس القهر واحدًا في كلّ مكان؟ ألا تصلح رواية "أصل العالم" لكلّ زمانٍ ومكان؟ ربّما تطورت ثنائية السلطة – الشعب في أصل العالم، لقد بات الشعب يذهب بكامل إرادته إلى نهايته بعد ان كانت السلطة من تسوقهُ في أزمنة مضت".

وليد السابق: لا نملك بعد الأدوات اللازمة لنكتب عمّا حدث في سوريا، لأنّنا لم نرى بعد الصورة بشكلها الكامل

لا يبدو وليد السابق منشغلًا في توثيق الخراب السوريّ في أعماله الروائية، وحين سألناه عن السبب، وإن كان للأمر علاقة بالغربة التي يعيشها أم لا؟ أجاب: "مع احترامي وكامل تقديري لكلّ ما كُتب ويكتب عن الحرب في سوريا، أرى أنّ أية محاولة للكتابة الآن عمّا حدث ويحدث ما هي إلّا محاولة منقوصة". يوضّح: "لا نملك بعد الأدوات اللازمة لنكتب عمّا حدث في سوريا، لأنّنا لم نرى بعد الصورة بشكلها الكامل. وربّما بعد عقدين أو ربّما أكثر، قد يأتي جيل جديد من الكتّاب ويكتب عمّا حدث في سوريا بطريقة توضّح الصورة أكثر، وتكشف الحقائق بصورتها الكاملة".

اقرأ/ي أيضًا: أصل العالم.. رجل قتلته امرأة نصف عارية

في نهاية حوارنا معه، قال وليد السابق إنّه يعمل على روايته الثالثة التي يتوقّع أن تصدر بعد عام من الآن. وعن موضوع الرواية يقول: "موضوع الرواية شائك جدًا، ولا أعرف إن كانت ستمرّ من بين أيدي الرقيب، وترى النور في أمكنة ما زالت فيها الكثير من الخطوط الحمراء التي لا يجب تجاوزها. وأيضًا، أفكّر جدّيًا في جمع قصائدي في ديوان قد يصدر عن دار الآداب".

 

اقرأ/ي أيضًا:

رواية "المُحجّبة" لجهاد بزّي.. حياة لا تحدث

أزهر جرجيس: ماذا يريد الغريب؟