31-أغسطس-2017

الكاتب الراحل مهند يونس

قبل أشهر، كنتُ مشاركًا في أمسية شعرية نظّمتها "مجلة 28" في غزة، ضمن فعاليات أمسيات الشتاء في "بيت الصحافة". التقيت مهند يونس عقب الأمسية مع عدد من كتاب غزة الشباب والمهتمين. في مول "الأندلسية" كان هذا اللقاء الأخير بمهند الصديق الذي تعرفت عليه ككاتب.

كان لقاءً طويلًا ومتشعبًا ومُحاطًا بالعديد من القضايا والهواجس، تفاصيل كثيرة وحوارات متعددة، والذي أذكره منها جيدًا هو أنني سألت مهند يونس كيف يقضي وقته؟ قال لي إنه يعمل في صيدلية. وقال إنه ضَجِر جدًا من ساعات العمل الطويلة، ثم فاجأني، وهو يشير إلى يده، بأنه حاول الانتحار أثناء فترة عمله بقطع شرايينه. أخبرني ذلك وهو يبتسم بمنتهى الهدوء.

آثار الجروح التي خلفتها محاولة الانتحار موجودة على يده، أذكر أنني تحدثت معه حينها، أن كيف من الممكن لك فعل ذلك؟ كان نقاشًا من طرف واحد. مهند  يونس كان هادئًا وأكثر اتزانًا وكل الظاهر لم يكن يشير إلى أنني أمام شخص يحاول الانتحار، أذكر أنه أيضًا أجهض محاولات النقاش بسرعة وبهدوء وبلامبالاة. انتهى اللقاء وأنا أعيش حالة من الخوف والدهشة والعجز.

أذكر يومها أن حالةً عارمةً من الإحباط والضمور أصابتني في طريقي إلى المنزل بعد نهاية اليوم، وكانت كل محاولات التكذيب والرفض غير مجدية أمام هدوء مهند.

لا أستطيع فهم الحالة التي كان يعيشها مهند يونس تحديدًا؟ لا أستطيع فهم ما كان يريد قوله أو فعله، ربما تكون حالة الانتصار على بشاعة القمع الأبوي الذي كان يعاني منه لسنوات، أو ربما هي حالة الانتصار على سطوة واقع الظلم السائد في قطاع غزة منذ سنوات أيضًا، أو ربما هي رغبة الخلاص، الرغبة الجامحة نحو المكوث عند نقطة توقف وسط هذا السيلان الوجودي المائع اللامتناهي.

هل أراد مهند يونس الفكاك من هذه الحبال، حيث يضع الصيادون شباكهم في كل سماء وكل أرض، بين كل سماء وكل أرض، فيما نحن نتعثر ونقع، ثم ننهض لتعثرٍ ووقوعٍ جديد؟

إنها لحظة الحقيقة الخالدة حيث تعلو الجدوى كشهادة إعفاءٍ وراحة أبدية، ولحظة الانتصار للنفس التي تعبت وأرهقها مسير الوجود وألقى بها الضالون في غياب الجب، أراد مهند يونس أن يرى الانهيار ببطء فيما يعلو هو مجردًا ومنسيًا وخاليًا من سطوة مسرح العبث الطويل. 

أراد النجاة من كل من هو كائن وما يجب أن يكون، لرغبة العدم والزوال فتح الأبواب مشرعةً وللانهيار العظيم أراد أن يكون نسيًا ليكون حضوراً دائمًا.

أريد أن أقول إنني تعرفت على صديق هادئ وكاتب جيد، وأن أوقاتًا جيدة كان من الممكن أن تجمعنا معًا، تخلص منها مهند يونس ورحل بهدوء وبلا أي مبالاة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

اعترافات أو هلاوس

باريس، عمّان، دمشق: عن حتمل وطمّليه