18-أغسطس-2018

معظم إنتاج الذهب في السودان يتم تهريبه إلى الخارج (رويترز)

لم يكن محمد صالح، الشاب السوداني الذي فقط الأمل في العثور على وظيفة حكومية، يظن أن قدرًا سعيدًا تخبئه له مغامرة صغيرة في منطقة العبيدية، شمال السودان؛ فبعد أن سُدت في وجهه كل أبواب الحياة، انفتح قبالته باب التنقيب عن الذهب، ومضى يضرب في الأرض حينًا، حتى عثر بين الصخور على خلية من الذهب، تغيرت على إثرها حياته بالمرة، وأصبح من أثرياء المدينة بين ليلة وضحاها.

رغم زيادة معدلات إنتاج الذهب في السودان لأكثر من 100 ألف طن، لا تزال الأحوال المعيشية في تدهور ولم يتحسن الاقتصاد

حال محمد صالح هو حال آلاف الأسر السودانية التي اجتاحها هوس التنقيب عن الذهب خلال السنوات القليلة الماضية، وتخلت على أعمالها الأساسية، لتزدهر معهم بهذا الاكتشاف المُذهل مدن ومهن جديدة بالفعل.

اقرأ/ي أيضًا: حروب الأرض في السودان.. مناجم الذهب عنصر جديد في خريطة الصراعات الممتدة

وعلى نحوِ مفاجئ، أصبح الذهب يشكل العنصر الأهم والأكثر بريقاً في الموازنة المالية للحكومة السودانية، وارتفع الإنتاج خلال هذا العام 2018، إلى أكثر من 100 ألف طن، ليحتل السودان بذلك المركز التاسع عالمياً، والثاني أفريقياً في إنتاج المعدن النفيس، وبلغت عدد الشركات العاملة في هذا المجال أكثر من 450 شركة محلية وعالمية. ومع ذلك لم يتحسن الاقتصاد السوداني، وتدهورت الأحوال المعيشية لغالب السودانيين بصورة متسارعة، فما هو السبب؟

اختفاء جبل ذهب سوداني!

ثمة معضلة كما يبدو، حيث ظنت الحكومة أن ارتفاع إنتاج الذهب سوف يعوض فقدان الموارد البترولية بعد انفصال جنوب السودان، لكن سرعان ما خفت ذلك الشعور المتفائل. بالضبط مع احتكار بنك السودان شراء الذهب من المواطنين والشركات بالعملة المحلية، وهو الدافع الأساسي تقريباً الذي جعل غالب التجار يلجاؤون لتهريب الذهب إلى دبي والهند، لجني أرباح أكبر.

أصبح التنقيب عن الذهب ملاذًا لكثير من السودانيين هربًا من وطأة الفقر
أصبح التنقيب عن الذهب ملاذًا لكثير من السودانيين هربًا من وطأة الفقر

والمثير في الأمر أن تهريب الذهب السوداني لم يعد حكراً على السودانيين فقط، وإنما دخلت الصين على خط استنزاف الاقتصاد السوداني، وفوجئت السلطات المحلية بولاية كسلا شرق السودان، باختفاء جبل "سراريت" من الوجود! وتركت الشركة الصينية التي كانت تعمل بالقرب من الجبل، معدات بملايين الدولارات وراءها، ما يعني أن حصلت على كنز أكبر مما هو متخيل. وذكر مواطنون في المنطقة لصحف محلية، أن جبل سراريت "أخذ يتناقص رويداً رويداً إلى أن اختفى تماماً عن الوجود لتختفي معه الشركة أيضاً"!

تعسف البنك المركزي

وتشير تقارير صحفية، إلى أن السودان لم يستهلك بعد سوى 1% من احتياطاته من الذهب والمعادن الأخرى، والتي تقدر وفقاً لوزير التعدين الأسبق، هاشم علي سالم، بنحو 500 طن من الذهب، و1.5 مليار طن من الحديد، ومخزون لنحو 40 معدناً آخر، علاوة على الأحجار الكريمة والنادرة.

وكل ما أنبتت الحكومة السودانية قناة لمنع تهريب الذهب، ركب المهربين في القناة سنانا، فضلاً على فشلها، أي الحكومة، في استقطاب هذا المورد من المصدرين بشكلٍ مرضٍ، فأصبحت عمليات التهريب هي الخيار الذي لا مفر منه، وسهل ذلك بالطبع اتساع حدود السودان مع دول الجوار، بصورة يصعب معها إحكام السيطرة.

وفقًا لنائبة برلمانية سودانية، فإن عمليات تهريب الذهب من قبل النساء، تصل إلى نحو نصف مليار دولار في السنة

وبينما ينظر اتحاد الصاغة إلى أن عمليات تهريب الذهب من السودان للخارج، "عمل إيجابي"، ويساهم في خفض أسعار الدولار بالسوق الموازي، يعتبر مطار الخرطوم أحد أهم منافذ التهريب، لدرجة أن تغيرات شاملة طالت على فريق تأمين المطار أكثر من مرة، أحياناً بشبهة التواطؤ والتقصير، علاوة على ذلك يرى المراقبين أن قرار بنك السودان المركزي احتكار عمليات شراء وتصدير الذهب، على أمل جذب مزيدٍ من السيولة داخل الجهاز المصرفي، والسيطرة على النقد الأجنبي؛ قد فاقم الأزمة بشدة.

من المطار إلى دبي والهند

وفي حزيران/يونيو من العام الجاري أوقفت سلطات مطار مومباي في الهند امرأتين سودانيتين، عُثر بحوزتهما على حوالي 1.39 كيلو جراماً من الذهب، مخبأ في مناطق حساسة. 

اقرأ/ي أيضًا: السودان.. هي هجرة أخرى

وقالت سلطات الجمارك الهندية في بيان صحفي، إن وحدة الجمارك الجوية في مطار مومباي الدولي، أوقفت سيدتين قادمتين من دولة الإمارات، على متن رحلة طيران تابعة لشركة العربية للطيران. وضبطت الجمارك مع الراكبتين عدد 12 قطعة ذهبية، أخفتاها في أجزاء حساسة، ودون مستندات، ما يتناقض مع أحكام قانون الجمارك الهندية. وأشارت تقارير صحفية هندية، إلى أن السلطات في مطار مومباي سبق وأوقفت سبع سودانيين في حوادث منفصلة على طائرات قادمة من دبي، وفي حوزتهم مئات الآلاف من الدولارات.

ورغم تشديد منافذ التهريب بعد عودة الفريق صلاح قوش مديراً لجهاز الأمن والمخابرات السوداني، إلا أن التهريب لم يتوقف أبداً، بل ازداد بصورة لافتة، ما يعني تورط شخصيات من داخل النظام فيه، كما أشارت بعض التقارير الصحفية

وكشف صلاح قوش الشهر الماضي، عن إحباط محاولة تهريب 245 كيلوغرام من الذهب، وأعلن عن تحوطات أمنية لإيقاف هدر هذه الثروة، قائلاً: "أكبر التحديات تهريب وشراء الذهب والتي تعد من أسباب شح السيولة". كما اعترفت الحكومة عبر مدير هيئة الجمارك، اللواء بشير الطاهر، بسهولة عملية التهريب بمطار الخرطوم، إذ قال الطاهر: "المطار بشكله الحالي يساهم بشكل كبير في تهريب الذهب، باعتباره مطاراً تم بناؤه في الأربعينات، ولا يواكب التطور، وتم ضبط كميات كبيرة من الذهب المهرب".

حيل النساء في التهريب

إلى جانب التفريط في هذه الثروة المعدنية، لم تتوقف حيل تهريب الذهب، وأصبح يتم استخدام النساء بصورة أساسية، من خلال ارتداء الذهب كحلى وأساور خاصة، وتأجير فتيات للقيام بذلك، واسترداد الذهب بعد انقضاء مهمة التهريب، أو إخفاءه في مناطق حساسة داخل أجسادهن، يصعب إخضاعها للتفتيش، بل وصل الأمر إلى درجة فتح أجزاء تحت الجلد وإخفاء الذهب فيها ثم خياطتها!

اختفى جبل ذهب في السودان بعد أن ساوته شركة صينية بالارض وهربت!
اختفى جبل ذهب في السودان بعد أن ساوته شركة صينية بالارض وهربت!

وقد دافعت وزارة الداخلية باستماتة عن إجراءتها المثيرة للجدل الخاصة بتفتيش النساء المسافرات عبر مطار الخرطوم، المشتبه في تورطهن بتهريب الذهب. وفجرت عمليات تفتيش وصفت بالمُذلة، تعرضت لها بعض المسافرات عبر المطار، شعوراً بالصدمة، وسط مطالبات قوية للسُلطات المختصة بوقف مثل تلك الإجراءات القاسية، لتبرر وزارة الداخلية السودانية أن عمليات التفتيش تتم عبر نساء يتبعن للشرطة، وفي أماكن معزولة.

وفي المقابل كشفت برلمانية سودانية عن نشاط النساء في تهريب الذهب بصورة كبيرة، وقالت إنه في حال سافرت 40 إمرأة في الشهر، فإنهن يُهربن ذهب بقيمة 36 مليون دولار. وطالبت البرلمانية سهير صلاح، البنك المركزي بتشجيع المعدنيين التقليديين على تخزين الذهب في البنك بدلاً عن الاحتفاظ به، واعتبرت أن العاملين في هذا المجال طموحاتهم محدودة تتمثل في شراء سيارى أو تشييد منزل، بينما يخزنون الذهب تحت الأرض. وأضافت سهير: "تهريب الذهب من قبل النساء، وصل إلى نحو نصف مليار دولار في العام".

لم تنجح السلطات السودانية حتى اليوم في مساعيها لمنع تهريب الذهب الذي ازدادت وتيرته بدرجة كبيرة مؤخرًا

وبالرغم من الاهتمام الظاهر الذي تبديه الحكومة بهذا المعدن وجهودها في إقرار سياسة تحافظ على الذهب كمورد اقتصادي رئيسي، بجانب مساعيها في تنظيم نشاط ممارسة التنقيب، ومنع عمليات التهريب المتزايدة شيئاً فشيئاً؛ إلا أنها حتى اليوم لم تنجح بصورة فاعلة في تلك المهمة، وفقاً للعديد من الخبراء.

 

اقرأ/ي أيضًا:

أزمة الأسعار في السودان .. محاولات لإنقاذ الجنيه وعودة "الحرس القديم"

أزمة الخبز في السودان.. مقاومة بالحيلة لمناورات السلطة