12-يناير-2023
الياس زيات ٦٩

لوحة لـ الياس زيات/ سوريا

دخلت مديحة إلى الحمام في الساعة السادسة صباحًا، فتحت صنبورَ الماء على درجة حرارة 42، واستلقت في الحوض.

ما إن غمر الماء جسمها حتى شعر الأخطبوط الذي في داخلها بالاسترخاء قليلًا، بدأ يسحب وعلى التوالي مجسه الأول من منطقة الجذر أسفل عمودها الفقري، ومجسه الثاني من فوق رحمها، والثالث من أعلى بطنها، والرابع من فوق حنجرتها والخامس من جبينها والسادس من أعلى رأسها.

في كل يومٍ وفي كل صباحٍ تجعله المياه الدافئة في لينٍ وخدر، فيضطر إلى سحب ذراعين اثنين من فوق قلبها لوقتٍ ضئيل.

في السابعة والنصف صباحًا كانت مديحة تجري بسرعة في الشارع الخلفي للحديقة العامة عسى أن يطهَّر الهواء البارد شاكراتها السبع.

ظهرت نتائج فحوصات قلبها في أغسطس، قال لها الطبيب: "كلشي طبيعي، عالغالب هي مسألة أعصاب". الآلام والتشنجات التي أصابت مديحة في قلبها وذراعها اليسرى مجرد نوبات هلع.

أخبرتها مدربة الحياة التي تدفع لها نقودًا ليست بقليلة: "الماضي والمستقبل مو أعدائك، خدي قرارك وقفي خلفه، قولي بدي التغيير قوليها بصوت عالي".

ومديحة تركض لتُشتت شبكة أفكارها، التي ما إن تنفرط حتى تنعقد مرة أخرى.

مساءً، تنتظر خلف المقود خروج ابنها آدم من درس البيانو، تشعر بثقل في رأسها، تسنده إلى وسادة السيارة وترخي عينيها، تصغي إلى شهيقها وزفيرها، توجه أنفاسها إلى القلب، يتحفز للحديث، فتشغَّل الراديو عاليًا.   

سمعت وينفري في إحدى مقابلاتها تقول: "كما يعاملك الرجل في المرة الأولى، سيعاملك طوال حياتك".

في لقائهما الأول لم يعجبها لؤي إطلاقًا، كان ضمن فريق الوزارة في برنامج خاص لتطوير بعض الأقسام الحكومية، بدا خلال الاجتماع لاذعًا ومتغطرسًا، ومديحة بصفتها مساعدة المدير العام في المركز الأوروبي، اضطرت إلى حضور الاجتماعات وورشات العمل لإعداد التقارير اللازمة، في الأثناء جذبتها نحوه قوة مغناطيسية هائلة ما استطاعت الفكاك منها لسنوات. 

تقلّب أوراق العمل بين يديها وتقلّب أرشيف الذاكرة، من الذي في أصفى حالات ذهنها همس في أذنها قبل زواجهما حتى تتراجع؟ فأغلقت عليه النوافذ والأبواب.

أيشي القلب بالقلب؟ من هو الملك ومن هو المستشار.. القلب أم العقل؟

تختلط عليها أدوار القلب والعقل، ترتدي حذاءها الرياضي. تركض تحت المطر الناعم، تتسارع ضربات قلبها، تتذكر كلمات راما "لكْ كلهم ولادين كلب"، ثم عبارة سوسن على الواتساب "ما بقى في رجال بهالوقت، في إي.." تضحك وسرعان ما تعبس مجددًا أمام الدرب المتعرج الذي تراءى طويلًا.

في كل سرداب مظلم شمعة يكفي أن تعثر على عود الثقاب.

ومديحة عثرت على لوحة جدارية للؤي تتوسط أحد جدران السرداب، كانت تعلم في قرارة نفسها ما الذي يجب فعله، فبدأت بكشط الرسم بكل الأدوات التي عثرت عليها.

العملية في منتهى الصعوبة إذ تحتاج إلى مزايا ثلاث: قوتها وصبرها وشجاعتها. تنزل إلى السرداب يوميًا وتكشط الصورة، رمت أدواتها مرارًا، التقطتها تكرارًا، سالت الدماء من جروحها في خطوط رفيعة فوق اللوحة وإلى الأسفل، تراجعت وتابعت، والسؤال هو هو.. ماذا يوجد خلف صورة النرجسي لؤي؟

بمرور الوقت اختفت صورة لؤي وتكشفت المفاجأة عن نفسها. برزت الخطوط وتوضحت الملامح، بانَ وجه والدتها يُومِئ إليها بغطرسة ولهجة لاذعة "ليش إنت مديحة مين رح يحبك؟".

تتعرى الأشجار بفتنة، تخشخش الأوراق تحت الأقدام على طول الطريق المذّهب، يزلزل الهواء البارد رئتيها.

تلتقط مديحة أنفاسها، تضع يدها على ساق الصفصافة العملاقة والمثيرة للإعجاب، تغمض عينيها وتأخذ شهيقًا عميقًا:

أنا الجذر، أنا الساق والنسغ والورق المتساقط بخفة، أنا النمل الأحمر يدب على اللحاء الخشن، أنا الدوري الصغير على الغصن، أنا الريش الناعم والأغنية، أنا صدى الأغنية ورجع الصدى.

أنتِ يا أُمُنا دعي كل خلية من خلاياي تتمرَّى بنورك.

أنتِ يا أمُنا دعي النور منك وإلي، ومني إليكِ.

تدُّب العزيمة في عصير جسمها، تنظر إلى جوّالها، بعد ساعة من الآن ستذهب لرسم وشم أفعى على ظهرها.