وسام سليمان: ألحان بليغ حمدي رافقتني في فترات حياتي المختلفة
4 يونيو 2025
بعد رحلة مثيرة ومتميزة في عالم الكتابة السينمائية، تعود السيناريست والكاتبة المصرية وسام سليمان إلى عالم الحروف والكلمات، لكن هذه المرة عبر بوابة الأدب. صحيح أن "وسام" عُرفت بفرادة تجربتها وخصوصيتها عبر مجموعة من الأفلام السينمائية والتي لا تزال حاضرة في ذاكرتنا إلى اليوم: "أحلى الأوقات" (2004) – "بنات وسط البلد" (2005) – "في شقة مصر الجديدة" (2007) – "فتاة المصنع" (2014)، إلا أنها تحمل للملحن الكبير بليغ حمدي مكانة خاصة في قلبها. هذه المكانة دفعتها على مدار سنواتٍ إلى الاشتباك مع عالمه وتجربته، لتستخلصها في النهاية عبر سيرة روائية، صدرت مؤخرًا بعنوان "المزيكاتي" عبر دار المرايا في القاهرة. حول هذا العمل وخصوصيته والرحلة التي خاضتها وسام مع بليغ، أجرينا معها في الترا صوت هذا الحوار.

يبدو من سطور العمل أن لديك شغفًا خاصًا ببليغ حمدي دون غيره من الملحنين، حدثينا عن علاقتك بفن بليغ وكيف تطورت هذه العلاقة مع مرور الوقت؟
لدى شغف طبعًا ببليغ حمدي الفنان والإنسان، ولكن شغفي بفنه لا يعني أنني لست شغوفة بفن أساتذته، خاصة محمد القصبجي ومحمود الشريف. فهما أكثر من تأثر بهم بليغ من الناحية الموسيقية. والحقيقة أن بليغ هو من جعلني أقدِّر هؤلاء الفنانين على نحو أكبر، بل إن سيرة بليغ تفتح الباب لاستعادة كل عظماء الموسيقى من الأجيال السابقة أو الجيل الذي عاصره. فـ"محمد القصبجي" جزء مهم في عالم بليغ الموسيقي. وكذلك محمود الشريف الذي قلب حياته رأسًا على عقب، عندما سمعه في سن المراهقة لأول مرة وخصوصًا في أغنيته "البيض القمارى" التي تغنى بها عبد الغنى السيد. أما محمد فوزي، فكان تأثيره الفني والإنساني بالأخص هو الذي شكَّل ملامح بليغ الفنية، وربما قدره أيضًا. ونلاحظ أن الاثنين: فوزي وبليغ، عانا من الظُلم في أواخر سنوات حياتهما. وإن اختلف شكل هذا الظلم والذي يشبه في النهاية خطًا ممدودًا على استقامته من فوزي إلى بليغ. ولذا فنظرتي لبليغ لا تقتصر فقط على كونه ملحنًا عظيمًا، ولكن أيضًا كشخصية إنسانية نادرة، رغم بساطته وعفويته الشديدة. لقد كانوا يقولون عنه إنه غريب الأطوار وإنه هبط علينا من كوكب آخر غير كوكب الأرض. فلم يكن بليغ عبقريًّا فقط، بل إنسانًا بكل ما تعنيه الكلمة من معنى.
أما عن بداية شغفي به، فقد كنت مثل الكثيرين. فألحان بليغ رافقتني في فترات حياتي المختلفة، حتى أصبحت بشكل تلقائي جزءًا لا يتجزأ من ذكرياتي. ولم أكن في حاجة للتفكير في اسم صانعها. وتدريجيًّا، بدأت أربط بين هذه الألحان بل وأخمن بسهولة ملحنها، فبدأت أعرفه من ألحانه. أما الكتابة عنه، فلم أفكر فيها إلا عندما عرض عليَّ أحد المخرجين كتابة فيلم روائي عن حياته. وعلى الرغم من توقف المشروع، إلا أنه كان مجرد بداية للتفكير به، خاصة عندما قرأت مقالًا كتبه شقيقه د. مرسي سعد الدين (رحمه الله) بعنوان: "أخويا بليغ حمدي". وأذكر أنني أعدت قراءته مرات عدة. وشعرت أنني أعرف هذه الأسرة، وأتخيل بيتهم بل وأتوحد مع الجُرح الذي عاشه بليغ في سنواته الأخيرة. ومع ذلك لم يخطر في بالي وقتها أنني سأكتب عنه.
"المزيكاتي" ليس كتابًا توثيقيًّا عن بليغ
صدر العمل تحت مسمى (سيرة روائية) وما نعرفه غالبًا إما سيرة أو رواية بمعناهما المتعارف عليه، فهل يمكن أن تشرحين لنا هذا التصنيف، وهل كنتِ تخططين من البداية أن يخرج العمل ضمن هذا الإطار؟
معك حق. فـ"المزيكاتي" ليس كتابًا توثيقيًّا عن بليغ أو قصة موازية تخيلتها عن حياته. إن بليغ وحياته هما الدراما الحقيقية والمادة الخام التي كان عليَّ أن أعرف كيف أشكلها، أو بمعنى أصح كيف أعيد حكيهالأعيشها معه من جديد، وأستحضر زمنه هو وأصحابه وعالمه الشخصي. وهذا هو الفرق – في رأيي – بين كتابة كتاب توثيقي عن شخصية ما، وبين استعادة سيرتها واستحضار حكايتها من خلال قالب الرواية. في النهاية بليغ وكل الشخصيات، تعاملت معها على أنها شخصيات روائية تتحرك في عالم روائي.
أما عن سبب اختياري لهذا الإطار فهو، لأنني لا أعرف غيره وهو طريقتي الوحيدة لفهم البشر. وذلك عبر الحكي عنهم لأعرفهم أكثر.
يُلاحظ أن العمل يشبه إلى حدٍّ قريب مشاهد السينما التي تم مزجها عن طريق المونتاج، فهل حقًا ممارستك لكتابة السيناريو أفادتك مليًّا في إنجاز هذا النصّ؟
طبعا تأثرت بالسنيما وكتابة السيناريو. والحقيقة أن الرواية هي الفن الأقرب لفن السنيما، واللغة السنيمائية مثل أي لغة؛ يتطلب تعلمها أن تفكر بها وتعيش بها. وبالتدريج تصبح بوعي أو بلا وعي، الطريقة التي تفهم بها العالم.
يبدو لي أن الرواية تحاول طرح سيرة بليغ لكن من خلال قصص حبه وزيجاته على نحو أساسي، فهل يمكن القول إن حياته الفنية كانت في مجملها انعكاسًا لهذه التجارب بشكل أو بآخر؟
بالنسبة لبليغ نعم. فقد كانت الموسيقى هي لغته التي يتواصل بها مع العالم، وألحانه مرآة شفافة لتجاربه الإنسانية والعاطفية، خاصة أنه كان وبشهادة كُتَّاب الأغنية الذين عملوا معه، هو من يبدأ الجملة الأولى في اللحن الذي يحضر مع الكلمات. كما أنه كتب أغنيات كاملة؛ كان يوقعها بتوقيعه المحبب "ابن النيل".
حياة بليغ كانت هي المادة الخام التي كنت أسعى إلى صقلها
- من يطالع الرواية يلاحظ المساحة المعتبرة من التخييل والتي ترافق المعلومات التاريخية المعروفة عن الشخصية. ألم تخشِ من حدوث التباس لدى القارئ بين ما هو متخيَّل وما هو واقعي؟
كما قلت لك سابقًا، حياة بليغ كانت هي المادة الخام التي كنت أسعى إلى صقلها، لأعرف كيف سأحيكها. فالخيال يدخل من اللحظة الأولى وأنت تحاول إعادة تشكيل عالم شخص غادرنا منذ زمن طويل. فلا توجد معرفة بلا خيال، وأقصد هنا الخيال بمعناه الأوسع والأشمل.
كما أنني لم أخشَ من حدوث هذا الالتباس، لأنها رواية وهذا بليغ من خلال عيوني أنا، وتمنيت فقط من القراء أن يشاركونني هذا التصور.

يُقرأ من بين السطور أن السردية المكتوبة تنتصر لتجربة بليغ مع أم كلثوم باعتبارها صاحبة الفضل الأكبر عليه، خلافًا لأغلب المرويات التي تختزل مسيرته أو نجاحاته مع وردة دون غيرها من المطربات. ما تعليقك؟
مقابلته الأولى مع أم كلثوم، كانت كأنه يبدأ عمره كله منذ اللحظة الأولى. لقد لحن لأم كلثوم وهو شاب صغير في العشرينات وكان أصغر ملحن يعمل معها وأضافت ألحانه طعمًا جديدًا لها. وقد كان يعنيني جدًا العلاقة الإنسانية الجميلة بينهما والتي أنتجت حوالي 11 أغنية. أما عن فكرة اختزال بليغ في ألحانه لـ"وردة"، فهو جزء من التشوش والادعاءات المغلوطة التي يتم ترويجها بشكل مجاني. ستجد بليغ – مثلًا – يمثل في حياة معظم المطربين نقلة كبيرة في مشوارهم: محمد رشدي؛ عبد الحليم حافظ؛ شادية وطبعًا وردة.
على الرغم من سعي الرواية جاهدةً لسبر أغوار بليغ سواء الشخصية أو الفنية، فإننا لم نلحظ تطرقًا كافيًّا لتفسير التحولات الكبرى في أعماله الفنية من الشخص الذي بدأ بأعمالٍ رومانسية (تخونوه) أو هامسة (كل شيء راح وانقضى) إلى راقصة (سواح) مثلًا. فهل تتفقين معي؟
لا أسميها تحولات، ولكنه تطور وتمرد على نفسه. بالإضافة إلى تأثير الزمن والأحداث العامة، فأغانيه مع رشدي وعبد الرحمن الأبنودي في الستينيات هي انعكاس للجو العام في تلك الفترة والسؤال عن الهوية المصرية من منطلق "من نحن".
مصادر مختلفة اعتمدت عليها. بالطبع، الأرشيف الصحفي كان مهمًا جدًّا
تظهر شخصية بليغ في الرواية كالشمس المركزية التي تدور حول باقي الشخصيات من أصدقاء وملحنين وشعراء وغيرهم، وهذا بلا شكٍ يتطلب إحاطة واسعة بالمراجع والأرشيف. هل تحدثينا عن المصادر التي استندتِ إليها وما هي المدة التي استغرقتها في إنجاز هذا النصّ؟
مصادر مختلفة اعتمدت عليها. بالطبع، الأرشيف الصحفي كان مهمًا جدًّا، لأن الصحافة في تلك الفترة كانت مهتمة بحياة بليغ، وتصفه بأنه فنان غريب الأطوار. ووصل ذلك إلى أنها نشرت حكايته مع أمنية التي ذهب لطلب يدها في منتصف الليل! ولكن كل مصدر يكمل ويصحح الآخر. هناك أيضًا الأحاديث الصحفية أو الإذاعية مع بليغ. وفي النهاية يتم غربلة كل هذا الكم من المعلومات والروايات، لاستخلاص شيء تراه هو الأقرب للصدق، بناء على قراءتك لشخصية بليغ والمحيطين به. فمعرفة الشخصيات الأخرى والتي بحثت عنها وعن حياتها مثل (كامل الشناوي؛ محمد فوزي؛ عبد الرحيم منصور؛ محمود عوض وغيرهم)، كانت ضرورية. ليس فقط لأنهم شخصيات في الرواية، بل لأن معرفتهم تساعدني في فهم بليغ نفسه.
ومن بين المصادر الهامة التي اعتمدت عليها أيضًا، الفنان أحمد صفاء والذي تربى في بيت بليغ. وعن طريقه، تعرفت إلى الجانب الإنساني في حياة بليغ، حيث دارت بيننا أحداث مطولة لساعاتٍ. كما ساعدني في غربلة وتنقيح وتدقيق العديد من المرويات والقصص التي دارت حول بليغ عقب وفاته، والعجيب أن بعض هذه الحكايات كانت تصدر من بعض الأشخاص المقربين أحاطوا به لأسباب عديدة منها الشخصية أو ضعف الذاكرة أو الالتباس في الأمر. فكان من الضروري العودة إلى شخص موثوق به، للتأكد من مصادر هذه الحكايات ومدى صحتها. وهذا ما وجدته عند أحمد صفاء الذي لم يتأخر عن توضيح أية جزئية أو تصحيح التباس أو واقعة ما.

صدرت عن بليغ أعمال أخرى مثل (موال الشجن) لأيمن الحكيم ورواية (بليغ) لطلال فيصل. فما هو المختلف أو الجديد الذي تضيفه روايتك وألم تخشَ المقارنة بعمل روائي سابق؟
أعتقد لن يكون هناك دافع للمقارنة، لأن كل عمل عن بليغ يحمل رؤية صاحبه الخاصة. وأعتقد أيضًا أن كل عمل يكمل صورة أو وجه ما لبليغ على طريقته.
الصحافة في السنوات الأخيرة من حياة بليغ، تحولت إلى أداة لذبحه وتدميره بشكل متعمد
في أحد الفصول نعرف أن المحيطين ببليغ أرادوا في لحظةٍ صعبةٍ أن يخفوا عنه ما تكتبه الصحف حول الحادثة الشهيرة، في رأيك إلى أي مدى يمكن أن تكون الصحافة حجر عثرة في مسيرة الفنان؟
الصحافة في السنوات الأخيرة من حياة بليغ، تحولت إلى أداة لذبحه وتدميره بشكل متعمد. وهو ما يخفي وراءه سرًا حتما ستكشفه الأيام. قرأت كل ما كُتب عن بليغ في الجرائد واندهشت! فالصحافة التي احتفت بالملحن الشاب العبقري والذي يعتبر أصغر من لحن للست، وبمجرد أن تصدر أغنية من تلحينه يغنيها الشارع المصري كله في اليوم التالي، هي نفسها الصحافة التي استخدمت كل الوسائل اللإنسانية عندما أرادت ذبحه. بل وكانت أداة ضغط على القاضي وهو من أقارب أحد قادة الإخوان مأمون الهضيبي والذي أصدر حكمًا، لم تعرف المحاكم حيثيات أغرب من حيثياته؛ إذ كان عبارة عن إدانة للفن وحياة الفنانين الفاسدة من وجهة نظره. لقد تعرض بليغ لظُلم كبير، وعندما كنت أقرأ الأرشيف الصحفي وما كُتب وقت القضية، كنت أبكى من الغضب وأتساءل: كيف تحمل بليغ كل هذا الظلم؟
قبل أن أختم معكِ، أود ان أسألكِ: عندما يحضر اسم بليغ تحديدًا، فإن حالة من الانقسام تسود المشهد بين من يرى فيه نقطة تحول فارقة في الأغنية العربية أو من يرى فيه بداية الاستسهال وتفريخ الألحان؟ أريد أن أعرف رأيك الشخصي؟
رأيي الشخصي أن الاستسهال في إبداء آراء ونظريات، هو جزء كابوسي من الزمن الذي نعيشه. وهذه من الآراء التي يوزعونها أحيانًا بدوافع مختلفة.
أخيرًا، هل يمكن أن نرى لكِ مستقبلًا سيرة روائية أخرى حول إحدى الشخصيات الفنية المعروفة؟
لن أتخصص أكيد في كتابة السير الروائية. بليغ ببساطة حالة خاصة بالنسبة لي وإذا أردت اعترافًا صادقًا، فـ"بليغ" بالنسبة لي قصة حب بل أهم وأجمل قصة حب عشتها، وحاولت تحقيقها عبر كتابتي، بصرف النظر عن تصنيفات أو مسميات.