24-مارس-2025
الأمهات السوريات

(Getty) أم تقضي وقتها مع أطفالها في مدينة أعزاز بريف حلب

على الرغم من أميّتها، كانت هي معلّمتي الأولى. فما علّمتني إياه في سنواتي الأولى من أساسيات في الحياة، يكاد يفوق كلّ ما تعلّمته في المدارس والجامعة فيما بعد!

كيف ينبغي لي أن أتعامل مع نفسي؛ كيف أحافظ على نظافتي، كيف آكل وأشرب، كيف ومتى أتكلّم وأضحك. كيف أهتمّ بأشيائي؛ كتبي، دفاتري، أقلامي، وثيابي، كيف أبقيها مرتبة وأنيقة؟ "ليس مهمًا إن كان بنطالك قديمًا، أو حتى مُرقّعًا، المهم أن يكون نظيفًا وأنيقًا، وألا تخجل من ارتدائه"، هكذا كانت توصيني بكثير من الأنفة والكبرياء. 

لا تُعاملْ الآخرين إلا كما ترغب أن يعاملوك؛ احترم من هو أكبر منك. وكنْ متواضعًا مهما علا شأنك. لا تَسْتَهِن بأحد. اهتم بدروسك وعلمك، وإياك والحمق والسفاهة والفجور.

ما هي أولوياتك، ما الشيء الجوهري الذي يجب أن تركّز عليه؟ كيف على المرء أن يتدبّر أموره ويدير شؤونه على نحو لا يحتاج فيه إلى الآخرين؟ (كم سأتذكر هذه النصائح، وكم ستساعدني على تدبر أموري بعد أن دخلت، مثل آلاف آخرين من أبناء جيلي، إلى المعتقل؟).

في ظروف الفقر التي كنا نعيشها، أخذتُ عنها أول درس في الاقتصاد والإدارة الرشيدة؛ "عندما يكون دخلك في اليوم ليرة، فعليك أن لا تنفق أكثر منها، بل يُستحسن أن تدخّر منها إن أمكنك".

يخرج والدي إلى الشغل صباحًا، قد يجد عملًا ويعود بليرات قليلة، وقد لا يجد ويعود فارغ اليدين، تكون هي محتاطةً للأمر؛ مؤونة البيت ينبغي أن تكفي لمثل هذه الحالات الطارئة على مدار العام بأكمله. 

أه يا أمّي كم أفتقدك. وكم أحتاج لأن أتصل بك عندما أشعر بالتعب والضعف. عندما كنت أسمع صوتك وكلماتك التي تحمل أوجاع عمرك وأعمارنا كلها، كان يتضاءل تعبي أمامها حتى يبدو هينًا، ويتبدد ضعفي أمام إرادتك وصلابتك، وأشعر أن ما أمتلكه من إرادة وقوة يكاد لا يعادل شيئًا مما تملكينه، فأخجل من نفسي وأطالبها بمزيد من الصبر والتحمل لأرتاح.

كثيرة هي الخيبات والعذابات التي سببتها لك يا أمي، هل ينفع أن أعتذر عنها؟ هل يمكنني أن أنساك وأنت تتوكئين على عكازك في الطريق إلى زيارتنا، أخي سميح وأنا، في ذلك "المنتجع" الجبلي البارد "صيدنايا"!

هل ينفع، أو بالأحرى هل يصلح، أن أقول لك، أنك كنت محظوظة يا أمي، صحيح أن كلًا منا أمضى خمس عشرة سنة ونيف في السجن، لكنه كان متاحًا لك في أغلب هذه السنوات أن تزورينا على الأقل. "اضحكي بعبك يا أمي". صحيح أنك كنت تغالبين أوجاعك وألم مفاصلك وتقطعين الطرقات الطويلة لتزورينا في تدمر والمزة، قبل أن يحطّ رحالنا في السجن "السويسري" (كما كان يُمنّننا مديره) لكنك كنت تزورينا وتطمئني علينا بين آونة وأخرى، على أية حال.

ماذا لو كان حظك مثل الآلاف من تلك الأمهات الأخريات اللواتي لم يتمكنّ من رؤية أولادهن أبدًا؟ 

ماذا لو كان حظك مثل هاتيك الأمهات اللواتي "تشنشطن" طويلًا، ودفعن الغالي والرخيص مما يملكن، بل وذللن أنفسهن لرؤية هذا الضابط أو المسؤول أو ذاك، على أمل الحصول على خبر واحد فقط عن أبنائهن أو إخوتهن أو أزواجهن؟ 

هل يزعجك ويؤلم روحك يا أمي أن أخبرك أن الأغلبية الساحقة من هاتيك الأمهات "قطعن الرجاء" ولم يحصلن على أي خبر يُسكت أوجاعهن ويُفرح قلوبهن. وكثيرات منهن فقدن أرواحهن ومُتْنَ بغصة وحسرة الانتظارات المديدة، أو بقين على أملٍ شحيح بأن يجيء، يومًا ما، من يحمل لهن خبرًا ما (أيّ خبر) بشأن مفقوديهن. والأعجب والأغرب من كل ذلك يا أمي أن عشرات الألوف منهن لم يحصلن على هذا الخبر بعد، حتى بعد فرار الطاغية وتحطيم جبروته وأقفال سجونه وأبوابها؟

ألم تكوني محظوظة إذن يا أمي؟ 

ألم تكوني محظوظة يا أمي أنك لم تكوني مثل أم أيمن، تلك التي جاء المسلحون المدججون بالحقد والكراهية، وشهوة الثأر والانتقام، وقتلوا أبناءها ونكلوا بجثثهم أمام ناظريها؟ بل وأبقوا تلك الجثث مرمية على قارعة الطريق أيامًا عدة، وهي تحرسها بكل عنفوان ورباطة جأش، بعد أن منعوها من دفنها؟ بل ولقد عبثوا معها بطيش الكلام ومنكره، بكل خسّة ودناءة؟

احمدي ربك في عليائك إذن يا أماه. ولكن قبل أن تقنطي كليًا، سأخبرك عن تلك الأم الرائعة من حوران، التي اعتقلت وفقدت زوجها وأبنائها بعد ثورة 2011، وأضحت تسمى خنساء حوران. لقد هللت لسقوط الطاغية وفراره، ثم أوصت جميع أبناء البلد؛ مسؤولين وغير مسؤولين، أن تكون سوريا وديعة وأمانة في أعناق الجميع، (سوريا وداعتكن)، كما قالت. 

ادعي لنا يا أمي، أن نكون جميعًا، أن يكون جميع أبناء هذا البلد، أهلا لحمل الأمانة والدفاع عنها، على أكمل وجه وعلى خير ما يكون.

وردة جورية إلى روحك أمي.. وباقات ورد إلى أم أيمن وحسناء الحريري، وإلى كلّ الأمهات اللواتي يُشبهونكن ومن طينتكن، أنتنّ النسغ الحيّ في هذا الخراب العميم.

لأمثالكنّ ترفع القبعات وتنحني الهامات.