"وداد النملة يلّي عم تحفر بالصخر".. حكاية امرأة تنتزع الذاكرة من غياهب النسيان
22 يونيو 2025
في قلب بيروت، في مبنى "بيت بيروت" تحديدًا؛ الّذي كان في الأصل مبنىً سكنيًّا يُعرف بـِ"مبنى بركات" والّذي يُعدّ من أبرز الشّواهد الحيّة على الحرب الأهليّة اللّبنانيّة وتحوّلاتها العمرانيّة والاجتماعيّة، عُرضت مسرحيّة "وداد النّملة يلّي عم تحفر بالصّخر". عرضٌ مسرحيٌّ يواكب افتتاح معرض "احكيلي"، والمنظَّم بمناسبة مرور خمسين عامًا على اندلاع الحرب الأهليّة اللّبنانية كنداء صادق لأرشفة الذّاكرة الجماعيّة.
بإخراج "لينا أبيض"، وبأداء مميّز لكلّ من "كريستين شويري" و"إبراهيم خليل"، تأخذنا المسرحيّة إلى وجع تجربة "وداد حلواني"، السّيّدة الّتي خُطف زوجها خلال الحرب، فتحوّلت من زوجةٍ تبحث عن مصير شريك حياتها، إلى أيقونة نضالٍ تطالب بكشف مصير آلاف المفقودين في لبنان.
المرأة الّتي رفضت الصّمت
منذ اللّحظة الأولى، يتجلى في العرض سؤال وجوديّ مؤلم: ماذا تفعل امرأةٌ عندما يُخطف زوجها دون أن يتبقّى له أيّ أثر؟ كيف يُبنى معنى الحياة بعد تلك اللّحظة الّتي يتوقّف فيها الزّمن ويتحوّل الشّوق إلى انتظارٍ بلا نهاية؟ ومتى يتحوّل الفقد من ألم شخصيّ إلى قضيّة عامّة، من جرحٍ فرديّ إلى نداء جماعيّ للعدالة؟
امرأةٌ اختارت ألّا تمضي في درب الحداد الصّامت، بل أن تكتب تاريخًا موازيًا بذاكرتها وصوتها وحضورها المستمرّ في قلب المشهد العامّ
تُجسّد كريستين شويري شخصية "وداد حلواني"، ليس كضحية من ضحايا الحرب، بل كمناضلة عنيدة في وجه الصّمت والنّسيان. امرأةٌ اختارت ألّا تمضي في درب الحداد الصّامت، بل أن تكتب تاريخًا موازيًا بذاكرتها وصوتها وحضورها المستمرّ في قلب المشهد العامّ، من اللّقاءات إلى قاعات البرلمان، من مقابلات الإعلام إلى رسائل الأمّهات والزّوجات، ومن لافتات الاعتصام إلى أوراق الأرشيف.
تُعيد "شويري" رسم وداد بصوتها ولغتها الجسديّة، فتُخرجها من النّمطيّة، وتُظهرها كامرأة تواجه المؤسّسات الصمّاء، امرأة تُطالب دون كلل بكشف مصير الآلاف من المخطوفين والمخفيّين قسرًا خلال الحرب الأهليّة اللّبنانيّة، وتُحافظ في الوقت نفسه على التّوازن الدّقيق بين الغضب والأمل، بين الحزن والإصرار.
الأداء يلامس القلب ويشعل الأسئلة: كيف استطاعت هذه المرأة أن ترفع صوتها وسط صمت رسميّ طويل الأمد؟ كيف قاومت محاولات التهميش والتجاهل والتشكيك؟ وكيف حوّلت قضية المخطوفين من ملف منسيٍّ في أدراج الدّولة إلى أحد أهمّ رموز المساءلة والعدالة في لبنان؟
تُصبح وداد، كما تقدّمها المسرحيّة، أيقونةً للمثابرة الأخلاقيّة ولحيويّة الذّاكرة وللإصرار. إنّها شهادة على أنّ التّاريخ لا يُكتب فقط في كتب المؤرّخين، بل أيضًا في أجساد النّساء اللّواتي مَشَيْنَ عشرات السّنين خلف صور الأحبّة المفقودين، في وجوه الأمّهات المعلّقة بين الحنين والأمل، وفي صدى صوت امرأةٍ رفضت أن تُدفن الحقيقةُ مع الغائبين.
عندما تتحوّل القصّة من شخصيّة إلى عامّة
ما يميّز المسرحيّة هو المزج البارع بين الحكاية الشّخصيّة لوداد، والحكاية الجماعيّة لعائلات المفقودين، هذا الانتقال السّلس من الألم الفرديّ إلى الفقد الجماعيّ. تبدأ القصة من لحظةٍ إنسانيّةٍ حميمة: امرأة تفقد زوجها فجأة، هذه الخصوصيّة لا تبقى محصورة في دائرة الحزن الشّخصيّ، بل تنفتح تدريجيًّا على أفقٍ أوسع، لتصبح قصّة مئات العائلات، وآلاف الغائبين، وبلد بأسره لم يتصالح مع ماضيه بعد.
يتحوّل صوتها إلى مرآةٍ لأصوات نساءٍ كثيراتٍ حملن صور أحبّتهن في الشّوارع ووقفن في وجه النّسيان وطالبن عامًا بعد عام بالحقيقة والعدالة
المسرحيّة تتعامل مع "وداد" كبوّابة نحو فهم صدمة وطنيّة جماعيّة. يتحوّل صوتها إلى مرآةٍ لأصوات نساءٍ كثيراتٍ حملن صور أحبّتهن في الشّوارع ووقفن في وجه النّسيان وطالبن عامًا بعد عام بالحقيقة والعدالة. هذه الأصوات الّتي لطالما تمّ تجاهلها في السّرد الرّسمي، تجد في العرض مساحةً للظّهور، لتذكّرَ الجمهور بأن ما جرى ليس مجرّد فصل منسيّ من كتاب التّاريخ، بل جرح مفتوح لم يُعالج بعد.
إنّ قوّة المسرحيّة تكمن في أنّها لا تكتفي بعرض المأساة فحسب،ٍ بل تدفع المتلقّي للتّفكير في مسؤوليّة المجتمع والدّولة وفي صلة الحاضر بالماضي. في هذا السّياق، لا تعود قصّة وداد مجرّد شهادة شخصيّة، بل تتحوّل إلى فعل سياسيّ وصرخة ذاكرة وحقًّا جماعيًّا لا يسقط بالتّقادم.
العنوان كمجاز للذّاكرة
العنوان: "وداد النّملة يلّي عم تحفر بالصّخر" ليست مجرّد استعارة، بل تلخيص دقيق لمسيرة "وداد حلواني" ولفعل المقاومة الهادئة والعنيدة الّذي تخوضه منذ عقود، النّملة الصّغيرة ظاهريًّا، الّتي لا تتوقّف عن العمل، عن التّكرار والإصرار.
في هذا السّياق، لا يعود العنوان مجازًا للمرأة المناضلة فحسب، بل يصبح مجازًا لفعل الذّاكرة الجماعيّة: تحفر وداد ومعها أهالي المخطوفين أخاديد عميقة في صخرة النّسيان اللّبناني، محاولةً أن تُبقي الأسماء حيّة، والصّور واضحة، والأسئلة معلّقة.
فعل "الحفر" في المسرحيّة لا يُقرأ فقط كاستعارة نضاليّة، بل أيضًا كفعل أرشيف
إنّ فعل "الحفر" في المسرحيّة لا يُقرأ فقط كاستعارة نضاليّة، بل أيضًا كفعل أرشيف، فـ"وداد" هي أرشيفٌ حيّ، امرأة تحوّلت إلى ذاكرة تحمل في دفاترها وقلبها أسماء وصور ومواعيد وتواريخ، توثّق وتُصرّ وتدوّن كي لا يُطوى الملفّ في غياهب الزّمن. إنّها تحوّل الألم إلى وثيقة، والمأساة إلى مادّة أرشيفيّة تُقاوم النّسيان.
وبذلك، يتجاوز العنوان وظيفته الجماليّة ليصبح مفتاحًا لفهم الجوهر العميق للمسرحيّة: "مقاومة النّسيان بكلّ الوسائل المُمكنة".
بصمة إخراجيّة في خدمة الحقيقة
يصعب الحديث عن هذا العمل المسرحيّ دون التوقّف عند لمسة "لينا أبيض"، المخرجة الّتي جعلت من المسرح فضاءً للمساءلة، ومن الخشبة منبرًا لمقاومة النّسيان. عبر سنوات، كرّست أبيض جزءًا كبيرًا من تجربتها لطرح قضايا الحرب والذاّكرة، ليس بوصفها أحداثًا من الماضي، بل كجراحٍ مفتوحة في الزّمن الحاضر. وفي هذا العمل، يبرز إخراجها كتركيبة ذكيّة وحميمة في آنٍ واحد، تتقشّف في الشّكل لتُضيء على الجوهر.
المشهد المسرحيّ هنا شبهُ خالٍ من التعقيد البصريّ: إنارة خافتة، مؤثّرات صوتيّة مدروسة، ومساحة عرض تكاد تكون عارية. لكنّ هذا التخفّف من الزّينة لا يُقلّل من قوّة العرض، بل يزيده كثافة. فببساطة العناصر، تُوجّه أبيض البصر والسّمع والقلب نحو الكلمة والجسد، نحو تلك اللّحظة الدّقيقة الّتي يصبح فيها الصّمت موقفًا والحضور فعلًا سياسيًّا.
تستحضر أبيض في هذا العمل الوثائق والهتافات وتقدّمها ككائنات حيّة تُخاطب الجمهور وتُحرّك فيه الذّاكرة والمشاعر
تستحضر أبيض في هذا العمل الوثائق والهتافات وتقدّمها ككائنات حيّة تُخاطب الجمهور وتُحرّك فيه الذّاكرة والمشاعر. يتنقّل العرض بين مشهد وآخر كمن يفتح أدراجًا منسيّة. فالقضيّة المطروحة لا تخصّ الأمس فقط، بل تسكن كلّ لحظة حاضرة تمرّ دون مساءلة.
بهذا، تُقدّم "أبيض" إخراجًا يُجسّد التزامًا أخلاقيًّا بقدر ما هو فنيّ، يجعل من المسرح مساحةً للمواجهة لا للعرض، ومن الجمهور شريكًا في التفكير لا مجرد متلقٍّ.
المسرح كمنصّة للذّاكرة والعدالة المؤجّلة
في وطنٍ لم يعرف العدالة الانتقاليّة يومًا، يتحوّل المسرح إلى مساحة للبوح، ومكانٍ بديل للأرشفة والمساءلة. هكذا جاء عرض "وداد النّملة يلّي عم تحفر بالصّخر" ليكون أكثر من عمل فنيّ؛ إنه فعل مقاومة ثقافيّة في مواجهة الصمت المؤسّساتيّ. لم يروِ قصّة فرديّة فقط بل جسّد فشل الدّولة في تحمل مسؤوليتها وخذلان المجتمع وإصرار الضّحايا على النّجاة.
"بيت بيروت" بدا في ذلك العرض، كأنّه تحوّل إلى فضاءٍ مضادٍّ للطّمس، حيّزٍ يقاوم الزّمن بالصّورة والحكاية
"بيت بيروت" بدا في ذلك العرض، كأنّه تحوّل إلى فضاءٍ مضادٍّ للطّمس، حيّزٍ يقاوم الزّمن بالصّورة والحكاية. لكنّ العرض لم ينتهِ بإطفاء الأضواء، بل تلته حلقة نقاش حيويّة جمعت المخرجة لينا أبيض، والمناضلة وداد حلواني، والمنظّمين والممثلين. وسط جمهورٍ من المهتمّين بالشّأن الحقوقيّ وقضايا الذّاكرة. النّقاش بتلقائيّته وعمقه فتح الباب أمام مشاركة الحاضرين ولعلّ أقوى لحظاته كانت عندما دعت "وداد" الحاضرين للانخراط في هذا النّضال الطّويل، للمطالبة بتطبيق القانون، ومواجهة الإنكار الرّسميّ بالصّوت.
حين تصبح الذّاكرة فعل مقاومة
في بلدٍ اعتاد طيّ الصّفحات بدل قراءتها، وتلميع الواجهة بدل مواجهة الجرح، تأتي مثل هذه الأعمال المسرحيّة ليس كمجرّد عرض مسرحيّ، بل كفعل مقاومة. صرخةٌ خرجت إلى العلن لتُذكّرنا بأنّ الحرب لم تنتهِ فعلاً لأنّ ضحاياها ما زالوا مفقودين، وأصواتُهم عالقةٌ في ذاكرة منفيّة. تفتح المسرحيّة بابًا على الغياب لا لتغلقه، بل لتبقيه مفتوحًا بوجه الصّمت العامّ.
تفتح المسرحيّة بابًا على الغياب لا لتغلقه، بل لتبقيه مفتوحًا بوجه الصّمت العامّ
في بلدٍ يُفرط في الخطابة ويفتقر إلى الاعتراف، يظلّ المسرح أحدَ الأماكن القليلة الّتي تُقال فيها الحقيقة دون تزييف. وهنا، تخرج وداد حلواني من كونها شخصيّة مسرحيّة لتغدو رمزًا حيًّا لتشقّ طريقًا نحو الذّاكرة.
هكذا، لا تعود الذاكرة ترفًا وخيارًا بل ضرورةً ومسؤوليّة. وفنّ كهذا، لا يقدّم أجوبة، بل يزرع أسئلةً تليق بحجم الفقد، ويحثّنا على عدم النّسيان.