18-مايو-2016

صورة مقداد خليل

ترويض الصدفة

في نشرة الأخبار بثٌ مباشر:
أبنيةٌ مسنودةٌ بركامها
شوارع مهدّمة النواحي
فَقْدٌ لأبسط أشكال الحياة...
يخفض الناظر طرفه ليستسمح الذكرى:
لا أستطيع، سيدتي، مهما اجتهدت أن أكون جريئًا
كدماركِ...
يبعد عني المكان كيلومترًا أو أقل!
هنا
على جسر صاخبٍ بالظهيرة
ظهيرةٌ في تموز
دخانٌ سميك السواد
يأخذ دور السحاب
يوحي لنهر المدينة الهزيل؛ 
أن امتلئ.. 
كل شيء يمتلئ 
أنا والظهيرة والنهر والغيم والجسر ومن عليه... 
أما الموت 
فكان صورةً صاخبة الملامح 
تتسع للجميع.
حَدْسُ الخائف يسأل كظلٍ 
كي لا يثير الانتباه:
كم أبعد عن المكان
-عن صدفة قذائف تفتته-
حتى صار زمنًا آخر؟
حَدْسُ الخائف يهدهده:
يا أيها الغد انتظرني
ما زلت أحفظ طريق عودتي
من الموت إن أخذني،
"سأعيش لأروي"
كيف ضاعت خرائط الممكن والمستحيل
وصارت حدود البداهة تُرسم في كل لحظةٍ
كأن تكون العودة إلى البيت رحلةً مفتوحة الاحتمالات!

تمارين بسيطة على النجاة

I

عينٌ دقيقةٌ على لحظة حياة 
تكفيها لمسةٌ ناعمةٌ محترفة..
وبعدها
لن تجد في اللغة صوتًا
كالسير على حطام البيت.

قناصٌ على سطحٍ
قائد الطائرة المقاتلة
أو صاحب صدفة التفجير..
طرقاتٌ وعابرٌ 
ما عادا يعرفان بعضهما من أول خطوة!
معالم المكان مهدمةٌ،
وحده الموت يحفظ خريطته الجديدة.
حيٌّ هاربٌ
يُمسِك نَفَسَه
ويُنصت.
لئن أمسكه هنا
ليس حوله سوى الهدم ليُسفح عليه.

دمٌ ناعمٌ لامعٌ 
يُفلت من أصحابه 
على إسفلت شارعٍ مغلق.
أمٌ حائرةٌ بأولادها؛
كيف تبعدهم عن جهة موتها؟
وكيف تُوسِّع ظلها لتخفيهم عن الكاميرا؟
شاعرٌ خلف شباك
خياله قميصٌ خفيفٌ على هذا الطقس!
يتعلم الخوف عاريًا
يَضُجّ باضطراب الإيقاع وتصاعده
بصوت العُزَّلِ مقطعًا بالرصاص..
......

الريح تُخفي وتُظهر 
كالضوء،
كاستعارة متقنة تقترب نحوه...

II 

كفاي يحملان نهديك
يموجان شهوةً 
بينما بلادٌ بكاملها تغيّر عناوين سكانها. 
أرى الشهوة لحظة بزوغها 
- من أول ترددٍ في تنفسك حتى امتداد الآه -
وحيًا قادمًا من بعيدكِ
بينما يرثي شعبٌ زمانه تحت قوس التاريخ.
الموج يعلو ويصطخب بروائحنا
أولُ رذاذكِ زبدُ البحر على أصابعي،
تأخذني مياهكِ
بعيدنا صار قربنا، 
وأصرخ:
هل من أثرٍ هناك في النهاية؟
إن جملةً خُطّت على جدارٍ مثقّبٍ
تُولِّد الخوفَ من تردد المعنى:
"إنه ينظر إليكِ، وسيجدكِ يومًا".

III 

اتركي أصابعكِ النحيلة على أي شيء يحفظ رسمها،
انحناءات الأغطية والوسائد تحت جسدك،
ما تخطّينه على هوامش الأوراق والمناديل،
قبلةً على كتفي قبل أن تمضي...
في الليل متسعٌ لقراءة الأثر
شهادةً أو حدسًا أو بوحًا مرتبكًا
غموضًا شفيفًا...
أغطي به فجاجة اليأس ونشرة الأخبار
وصوت عمق الهاوية.
أرقب بعده معنىً ما لكل هذا العنف،
للحظة انكسار الزمان الصلب،
للّمسة الهلامية على الخيال الأول.
أعتذر بلا ندمٍ حادِ النصل
لصورٍ لم ألتقطها،
لمواعيد لم تنقضِ،
لأسرارٍ منتهية الصلاحية،
للحياة قبل قليل
وهي تُغلق الباب خلفها...
للناس، 
والحكايا الفائضة عن حاجة التاريخ.

في الليل متسعٌ للتمني... 
يمر الوقت الفتيّ أمام امرأةٍ؛
أصغر من عمرها، 
تنحت القسوة ملامحه،
وتضرب الحياة لحظاتِه بالقشعريرة...
ضبابٌ
حدس المرأة في الرجل الكامن أمامها.
امرأةٌ تدخل في الضباب 
تُضيئها معجزةٌ
تُكمل متعتها الناقصة.

في الليل متسعٌ لأقنع نفسي بالنجاة..
أهرب من قاتلي
من انطباعه العاطفي على جثتي،
غضبِه ورائحة سلاحه،
تعبِه ورذاذ عرقِه المالح،
خيال غريزته مفتوح الحدود،
ومن صورة خوفه
يتركها عليّ..
أهرب من ضحيتي
من صورتي وحيدًا مع الموت
أمامها...
زئبقٌ ما أحسه
أقلّبه فيمحي
هناك في الجهة الأخرى معنىً
كلما اكتمل اختفى!
ألف خطوةٍ في الفراغ،
الواحدة بعد الألف
في الفراغ أيضًا
هكذا...
حتى اكتمال الهوس!

في الليل متسعٌ لأكون...
الآن؛
كأن قبله أو بعده
فراغٌ في الزمن!
هنا
في العتمة؛
شاعرٌ وحيد
لا يميّزه عن الليل
إلا حدسه فيه.

مونولوج لخارجَين من دمشق

- سماؤكِ داميةٌ يا صغيرتي!
* ذاك قلبي يا شقي.
- وأرضكِ تميد!
* ذاك قلبي أيضًا.
- الشجر حولكِ متعبٌ،
   وقمركِ حزين!
* ذاك قلبي، ذاك قلبي من جديد...
  ...

* لم أنم أبدًا، وألم حلقي يكبر..
   غيمةٌ تحت رأسي
   غيمةٌ فوق وجهي
   وقلبي يضجّ بالزحام؛
   موتى 
   يخرجون من الصور وركام البيوت 
   من أحاديث الناس
   وعبور الشارع وطابور الخبز
   من الخوف...
   يأتونه كل يومٍ
   شجرًا داميًا يقترب 
   زمنًا يهذي
   على لحنٍ نشازٍ 
   ويهوي.
   هَوْلًا
   تقع اللحظة.
  ...

- أكاد أحلم
   أم أنني أنسى
   ليلًا واسعًا صبورًا كنديم،
   "أن أعود إلى البيت سالمًا
   أن أحتسي قهوة أمي في الصباح"...
   كل شيءٍ شعّ لحظة الانفجار
   صار المكان نجمًا
   ظلّه انعكس على الغيم..
   خبا من بعدها 
   وخبا
   حتى تحسست ثقبًا أسود في ذاكرتي.
   أكاد أحلم 
   أم أنني أنسى
   إحساسًا غامرًا غامضًا
   بالخلق ينبع
   دمًا
   أو هتافًا
   أو سخريةً تُخَطُّ على الهامش،
   الهامش؛ 
   مدنٌ وقرىً وحَوَارٍ
   ملفحةٌ بالغبار 
   كالنبوءة
   يخطئ الغرباء في لفظ أسمائها
   فيضحكني الخطأ
   وأراها لأول مرة
   بلادًا متعبةً تقف بكل ما فيها 
   لتأخذ مع ناسها صورة،
   أصواتًا تنادي على غدٍ واقع في البئر:
   لم يعد الفارق واضحًا بين القاتل والقتيل.
   ...

   أكاد أحلم
   أكاد أحلم
   كلامًا يُفتِّح في الدَّغَلِ دربًا
   يُعطي لما انهدَّ من أعمارنا
   معنىً بعد العبث.

اقرأ/ي أيضًا:

قاموس لنساء المنفى

في السوق