19-يناير-2025
طفل يحمل علم الثورة في دمشق

طفل سوري يحمل علم الثورة في دمشق (مصطفى ديب)

بعد نجاح الثورة في إسقاط النظام السوري، وهروب الرئيس المخلوع بشار الأسد، خارج البلاد، تَبيّن أن شعار الأسد الذي رفعه بعد انطلاق الثورة سنة 2011، والذي يقول: "الأسد أو نحرق البلد"، لم يكن مجرد شعارٍ، بل كان منهجًا للعمل اتبعه النظام من أجل تقسيم البلاد وإدخالها في نزاعات طائفية وعرقية دموية ستندلع مباشرة إن هو اضطر إلى التنحي أو جرى خلعه. ومن هنا وَجَدت الإدارة السياسية الجديدة في دمشق نفسها وسط تحديات كبيرة، ليس أقلها توحيد البلاد ومنع تقسيمها. ومن التحديات الخارجية ما يشكله الاحتلال الإسرائيلي للأراضي السورية، وتمدده في أراضٍ جديدة فور سقوط نظام الأسد، من خطورةٍ على البلاد ووحدتها. كما تبرز التحديات الداخلية التي لا تقل خطورة عن الخارجية، ومنها موضوع مناطق شرق وشمال شرق الفرات التي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية، والتي تطرح شروطها على السلطة الجديدة في دمشق من أجل إعادة انضوائها تحت سلطتها. كما تبرز المخاطر التي يشكلها تعاطي المجتمع الدولي مع سوريا كمجموعة مكونات طائفية بدلًا من التعاطي معها كدولة.

وإذا كانت سوريا قد تجاوزت بعض الأخطار التي كانت تهدد بتقسيمها، خصوصًا منها لحلحة معضلة مناطق شرق وشمال شرق الفرات، إلا أن الاحتلال الإسرائيلي للأراضي السورية والمخططات الإسرائيلية المبيتة حول مستقبل سوريا تبقى الخطر الأكبر البارز حاليًا. وهنا تحضر خطورة ومدلولات احتلال القوات الإسرائيلية كامل جبل الشيخ ووصولها إلى مشارف دمشق، بعد احتلال مناطق في ريف القنيطرة وريف دمشق. وإذا كانت الضربات العسكرية الإسرائيلية غير المسبوقة على عدد كبير من المواقع العسكرية السورية غير كافية للإسرائيليين لإضعاف سورية، تظهر خطورة ما نقلته صحيفة "إسرائيل هيوم"، قبل أيام عن اجتماع وزراي صغير ترأسه وزير الدفاع الإسرائيلي، خُصِّصَ لدراسة مبادرةٍ تقدم بها مسؤولون أمنيون وسياسيون يوم سقط النظام السوري وتهدف لتقسيم سوريا إلى كانتونات صغيرة من أجل حماية الجماعات الطائفية والعرقية، كما ادعت المبادرة.

تكمن خطورة تعاطي المجتمع الدولي مع سوريا على اعتبار أنها مجموعة طوائف وملل، وتركيز هذا الخطاب على سردية الأقليات والأكثرية

 

ومع خطورة المبادرة أو المشروع الإسرائيلي، تأتي خطورة تعاطي المجتمع الدولي، وخصوصًا دول الغرب، ومفهومهم للدولة السورية، وهو التعاطي مع سوريا على أنها مجموعة طوائف وملل، وتركيز الخطاب الغربي على سردية الأقليات والأكثرية، بدلًا من التركيز على الدولة السورية والمجتمع السوري والشعب السوري المتنوع الانتماء الطائفي والمذهبي. هذا التنوع الذي يساهم في غنى المجتمع السوري ويقود إلى التعاطي الديمقراطي مع هذا المجتمع وحقوق المواطنين، بدلًا من سردية حقوق الطوائف والملل التي تقود إلى زيادة الشروخ المجتمعية وربما النزاعات الطائفية.

أما التحديات الداخلية، وخطورة بقاء بعض المناطق خارج سيطرة الإدارة في دمشق، ومنها على سبيل المثال مسألة سيطرة قوات سوريا الديمقراطية (قسد) على مناطق شرق وشمال شرق الفرات، فقد جرى حلحلة معضلتها بعد سماح قسد لإدارة العمليات العسكرية ببسط سيطرتها على مدينة دير الزور، بعد أيامٍ من تحرير سوريا، كذلك رفع علم الثورة الذي اعتمده الثوار علمًا للبلاد على مؤسسات قسد، في بادرة حسن نية تجاه دمشق، لكن يبقى الاتفاق على مصير تلك المناطق معلقًا.

غير أن الأجواء توحي بإمكانية التوصل إلى حل قريب، بعد النيات الطيبة التي ظهرت في إثر اللقاء بين قائد قوات سوريا الديمقراطية، مظلوم عبدي، وقائد الإدارة السورية الجديدة، أحمد الشرع، في 30 ديسمبر/ كانون الأول الماضي، والاتفاق على مبدأ "وحدة وسلامة الأراضي السورية ورفض أي مشروعات تهدد وحدة البلاد"، وفق تصريح لعبدي نقلته وكالة الصحافة الفرنسية، في 8 يناير/ كانون الثاني الجاري. أما الشروط التي تضعها قسد من أجل إعادة توحيد جميع أراضي البلاد تحت سلطة دمشق، فتبدو شروط جميع السوريين لا شروطها وحدها، ومنها شرط تقاسم الثروات وتوزيعها على أبناء الشعب السوري في جميع محافظات البلاد بشكل عادل، بعدما حرمهم نظام الأسد الفاسد من الاستفادة منها على مدى عقود من النهب لصالح عائلته ورموز سلطته. ومن هنا تأتي أهمية اعتماد السلطة الجديدة التنمية االمستدامة لجميع مناطق البلاد، ما يؤدي إلى إعادة سكان الأرياف الذين هجروا مناطقهم إلى المدن الكبيرة، وإعادة إحياء المناطق التي كانت تشكل سلة غذاء سوريا.

وإذا ما جرى حل المشكلات مع قسد والاتفاق على بسط السلطة الجديدة سيادتها على مناطق شرق الفرات، يبقى التحدي الداخلي والمتمثل ببعض الشروخ التي يمكن أن تؤثر على مسار إعادة توحيد سوريا بسبب القلاقل التي يمكن أن تنشأ إذا ما سُمح لعوامل خارجية أن تؤججها. وفي هذا السياق، ثمة معركة بسيف ذي حدين تدار على منصات التواصل الاجتماعي بين السوريين حول مسألة الأقليات والطائفية والتخوفات المبطنة والظاهرة التي يعبر عنها كثيرون، وهي تخوفات تَبيَّن أن أياديًا خارجية بدأت تعمل على إبرازها وتعزيزها من أجل إحداث بلبلة بين السوريين والتشويش على السلطة الجديدة في جهدها المتواصل في إدارة البلاد وسكانها على النحو الذي يحقق لهم الخدمات الأساسية ويوفر الأمان للجميع. أما حدها الإيجابي فيكمن في أنها تسمح لكثيرين الخوض في طبيعة الطائفية لتقريب وجهات نظر السوريين حول بعضهم، وتجاوز المحظورات التي وضعها النظام المخلوع لمنع النقاش فيها وذلك لإبقائها مسيطرة على لا وعي السوريين للتفريق فيما بينهم. أما الحد السلبي فهو أن يطل بعض المغرضين برؤوسهم عبر وسائل التواصل الاجتماعي من أجز تعزيز الانقسامات النفسية والتطرف في طرح موضوع الطائفية لإحداث صدامات، وبالتالي نقلها من مستوى النقاش الفكري، إلى مستوى الصراع الفعلي.

غير أن التخوفات والمخاطر تتلاشى إذا ما اجمعت القوى الرئيسية في المجتمع السوري على كيان الدولة، وتوافقت على التشاركية في الحكم وعلى تبادل السلطة سلميًا من خلال الانتخابات لمنع ازدياد الشروخ الطائفية والاثنية والخصومات الحزبية في المجتمع، وإعلاء شأن المسؤولية الوطنية لدى التعاطي مع تلك الشروخ والخصومات، وهي الشروخ التي تعمل القوى الخارجية على تعزيزها من أجل إبرازها وجعل حلها الشغل الشاغل، والمسألة الرئيسية المصيرية التي تقع على عاتق أي سلطة، بدلًا من تركيزها على بناء الدولة ومؤسساتها. وتتلاشى أيضًا مع حصول توافق اجتماعي حول قيم الديموقراطية، وأهمها مسألة الحقوق والحريات المدنية العامة، وضمان أن يلحظها الدستور وتحميها القوانين لكي تبقى مصانة مهما جرى من تداول للسلطة وأيا كانت الخلفية الإيديولوجية لمن سيصل إلى الحكم عبر الانتخابات الدورية. كما تبرز أهمية فصل القوى الاجتماعية وأبناء الشعب بين كيان الدولة ونظام الحكم، وهو الذي يضمن ولاء الناس للدولة، بغض النظر عن ولائهم لنظام الحكم، ما يجعل العمل من أجل بناء الدولة طريق أي حزب أو قوة اجتماعية لكسب تأييد أبناء الشعب، وهو المبدأ الذي حرمت منه البلاد طوال سني حكم البعث ونظام الأسدين.