27-أبريل-2020

أحمد البحراني/ العراق

حدس

يوم تتعطل الأشياء، وتأتي أشياء أخرى وتتعطل وأهلها يتعطلون. كلّ شيءٍ يتعطل يومًا ما.

يوم كما لو أنه طوفان كبير، يصفعنا على حين غرة، يحطمنا، نصبح رمادًا، تبتلع الحياة ما كتبنا فتمسح بقصائدنا فمها. إنها الحقيقة يُبتلع المرء بابتلاع معرفته. ستتعطل الأشياء، حينها، لا سكنى ولا مأوى لنا، نفر لائذين بالعذر الذي يفر هو الآخر، نسير بلا أعين، نعثر بخطواتنا، خطواتنا التي تضيق ولا تتسع لأقدامنا.

يا له من يوم شاق، يوم لا أعرفه، لديّ شعور كبير بأن نلتقي مرة أخرى، في قبر كبير، يُجمع فيه المرء وذويه ورفقته ومحبيه، وكلّ يلقي بعصاه، أنا مثلًا ألقي بعصايّ فتصبح قصيدة، وأنتَ تُصبح عصاكَ لوحة مخيفة؛ أنت ترسم العالم كما يجب، دون ألوان ورتوش، وأنتِ ستلقين بعصاكِ، فتختارين رجلًا أخر، إنها الخيانة ثانية، هنا وهناك يكون المرء ذاته، يحمل تفاصيله معه، كما يفعل السومريون. ذلك يوم نلتقي بأنفسنا الوجه بالوجه، ولا حاجة لنا بمرآة تحكي ما اصطادت من ملامحنا، ولا تفقه ما ضمّت أرواحنا، لا تعرف شيئًا عن ذواتنا، صاحب المرآة أضاع مرة في الماء وجهه، يوم قذف الأطفال النهر بالحجارة. كان يؤلمه تناثر وجهه، بحث في الرمل كثيرًا كما يفعل صغار المدن اليائسة، وجد المرآة فقال: سأرمم وجهي من جديد. حصل على وجهه لكنه فقد نفسه، كان ينظر كل يوم لوجهه حتى صار يذبل، النظر في المرآة طويلًا يُري المرء كيف يتسرب العمر سريعًا.

صاحب المرآة رأى وجهه فزانه، لكنه لم يرَ ذاته. يومًا ما، لا ننظر في المرآة، تُصادر الأشياء، ترفع المرآة، هناك تتحسس وجهك لترى ما تبقى منه، وأي جزء لم تأكله السنين جيدًا، وأي عضو عسير على الأيام هضمه.

 

موت

أعوام طويلة وهو يرتدي سترة أبيه وبنطاله القديم، وخاتمه العقيق، وساعته، وكانت مسبحته لا تفارق يده، فكلما مرَّ بالقرب من أمه وإخوته الصغار، ضخّم صوته وحرك مسبحته مثلما يفعل أبوه، يرفع صوته عاليًا ويقول: ها أنا قد وصلت..

كان يفعل هذا دونما قصد، دونما قصد كان يقول.

لكنما أهله استرقوا السمع له. سمعوه يردد في حلمه: أمان، أمان ودفء وأمان، هل تشعرون بالأمان، كما السابق؟

- صرت أشبه أبي!

هل يشعر الأهل بالدفء إذا ما صار الأبناء يشبهون الآباء؟!

هل ترى النساء في أبنائهن وجوهًا غيرّ الموت ملامحها؟!

مذ سمعته أمه، وهي تسقي نبتة كانت قد نستها.

 

اقرأ/ي أيضًا:

الهروب مِن الغرفة

معًا في هذا الطريق الطويل