19-يناير-2020

إجناسيو إيتوريا/ الأوروغواي

تُتيح لك نافذة غرفتك، إذا كنتَ محظوظًا، فرصة تعوّيض ما فاتك من زيارات للسينما، فكلاهما نافذة على عالم آخر، السينما والنافذة، وما قد يحدث خلف كل منهما قد يُسلي وحدتك ويمنحك شعورًا بأن هناك من يسمح لك بمشاهدة حياته والتعلم منها أو التمتع بها فحسب. أما نوعية الأفلام التي يمكن رؤيتها أمام نافذة غرفتك فتتنوع بحسب مستوى نظافتك الشخصية، فإذا كنتَ ممن يحبون الأفلام القديمة فكل ما عليكَ فعله هو عدم غسل زجاج النافذة وإهمال آثار المطر لأطول فترة ممكنة، ليتراكم الغبار بشكل خفيف فوق مسار كل قطرة لامست الزجاج مما يُضفي على الشخوص والأحداث لمحة كلاسيكية، كأنْ يكون كل شيء في الخارج قد اُستحضِرَ للحياة من عقود قديمة.

المثير للاهتمام هو أن بعض النوافذ تسمحُ لك بالمشاهدة والاستماع في نفس الوقت، كالنوافذ التي عشتُ خلفها عندما كنتُ طفلًا صغيرًا، أما الآن ولأنّ للبرد اليد الغالبة هنا، فإن النوافذ تكاد تكون في معظم الأوقات معزولة بشكل جيد، لا تسمح بدخول صقيع أو صوت، تمامًا كشبابيك القطارات الحديثة، التي تعرض خلال رحلتك مَشاهد سريعةً من برامج وثائقية عن المدن وطبيعتها، إلا أنكَ مُجبر على تخمين الأصوات التي تحدث خلف الزجاج في الخارج.

يتأثر ما يحدثُ في مجال رؤيتك بما يحدثُ خارج نطاق رؤيتك، وعليكَ أن تُخمن وتحاول تفسير السيناريو الواقع أمامك:

لربما ينبح الكلب أمامك على الغراب المختفي عن عينيك والواقف على سطح بيتك، لربما على الطائرة التي تحوم فوقك دون أن تسمع هديرها أو ترى أثر الدخان الذي تتركه خلفها!

قد تكذبُ عليك نوافذك الجديدة أحيانًا وتوهمك بهدوء الجو في الخارج، لكنك حالما تترك نافذتك السينمائية وتخرج من البيت إلى مجال نظر مختلف غير معزول بالزجاج عن البرد والصوت، تتفاجأ بأنّ الرياح كانت قد سيطرت على المشهد منذ وقت طويل وبأنّ حظك لم يخدمك هذه المرة لانعدام الأشجار على مرمى نظرك من غرفتك، التي تعلن عادة بحركة أوراقها وتمايلها ظروفًا عاصفة محتملة.

إذا كانت النوافذ الشفافة البريئة قادرة على مثل هذا الخداع، تخيلْ إذا ما يمكن أن تفعله الأبواب الخشبية السميكة وما يمكن أن تُخفيه خلف خشبها الناشف! الأبواب والنوافذ تشترك فيما تُخفيه وما تُظهره لنا، فالنوافذ إذا تأملتها اكتشفتَ بأنها أبوابٌ بعيون سحرية كبيرة جدًا.

تحميكَ النوافذ والأبواب من البرد والمفاجآت طالما أبقيتها مغلقة، إلا أنك لا تستطيع إقفالها لفترة طويلة، سوف تحتاج أن تُدخل هواء جديدًا إلى الغرفة، فيُقرر الهواء لحظتها تبعًا لمزاجه الدخول معلنًا عن وصوله بصفير أو أزيز مثير للانتباه أو التسلل بهدوء دون أن يثير فيك أي شبهة أو ارتياب. وعلى عكس الهواء الذي يتقلب في هبوبه، يواظب الاكتئاب على القدوم دائمًا دون إعلان مسبق أو إنذار يتيح لك التحضير لملاقاته واستقباله وفقًا لأصول الضيافة.

تستيقظ صباحًا لتجد اكتئابك مستندًا على جدار غرفتك، يحدق بك بعيون نصف مفتوحة، دون أن يقول لك أين كان في الفترة الماضية، كلمات قليلة جدًا ولكنها كافية لتغيير جوّ الغرفة، فتفتح النوافذ والأبواب ليتغير المناخ في الغرفة ولكن الهواء هو الوحيد الذي يتأرجح خروجًا ودخولًا، من وإلى الغرفة، ويبقى الاكتئاب، يأخذ مكانه على الصوفا ويفرد يديه الطويلتين على امتداد مسند الظهر البني وكأنه ينتظر أن تُقبّل خواتمه اللامعة طاعة أو اعتذارًا عن تأخرك في سداد مال استدنته منه. يرمقكَ بنظرات حادة كأن تكون قد خنته في فترة غيابه بكثرة الابتسامات التي اقترفتها في حياتك اليومية، في السينما أو خلف نوافذك السينمائية.

هل يعرف اكتئابكَ اكتئابَ مالك البيت الذي تسكنه بالأجرة، وبناء على قرابة دم محتملة بينهما يحصل على امتياز الدخول والخروج إلى المبنى ومن ثم إلى بيتك ليفاجئك كل مرة بعد غياب!

تغسل وجهك وتحاول تجاهله، إلا أنّ رائحة القهوة تصلك وأنت في الحمّام. لقد اعتبر الاكتئاب بأن البيت بيته، وفتح علبة القهوة السورية التي تحتفظ بها للمناسبات المميزة وصنع أربعة فناجين من القهوة، ثلاثة له وواحد لك، بدون سكر على غير ما تحب، وكأنه يحاول أن يزيد من حضوره حضورًا مرًّا لا تستطيع أن تتجاهله وإن حاولت.

 

بينما تتجرع قهوتك المرّة تتصل بأحد الأصدقاء ليُعيركَ وقته فتتبادلان أحاديث مختلفة تُغنيك عن الجلوس مع اكتئابك وتعفيك من شرب قهوته المرّة، وينجحُ الموضوع بالفعل، فبعد قليل من الضحكات المتفجرة بينك وبين صديقك تتجول عيونكَ في الغرفة فلا ترى أحدًا بجانب صديقك أمامك. مما يشعرك بالراحة الشديدة. لا بد وأن الاكتئاب قد امتلأ بالغيظ لتجاهلكَ له وتسللَ بهدوء مختفيًا من حياتك، ولكنك تعرف في قرارة نفسك بأنه سيفاجئك من جديد من دون علمك وبدون أي تحضيرات تُهيّئك للتعامل مع وجوده الثقيل.

يقرر صديقك المغادرة وتركك بعد هذه الجلسة اللطيفة التي استطعتم تجهيزها بعفوية، فتوصله إلى الباب ممتنًا أيضًا ومرتاحًا بأنك تخلصت من ضيف ثقيل من خلال دعوة ضيف خفيف الظل لمجالستك. لكنك ستتفاجأ بعد إغلاق الباب خلف صديقك وعودتك إلى غرفتك بأن الاكتئاب قد عاد مرة أخرى، على الصوفا بنفس النظرات الحادة، فتجلس أمامه من جديد محاولًا تخمين إذا ما كان قد خرج فعلًا لوهلة من بيتك أو إذا ما كان قد اختبأ تحت السرير متربصًا لحظة الظهور المناسبة.

تتقلب ليلًا في سريرك، محاولًا النوم، ولكنك لا تعرف إذا ما كان الغد سيكون بسوء اليوم، شعورٌ بفقدان السيطرة على روتينك اليومي قبالة هذا الاكتئاب الهادئ كانسكاب وتمدد العسل الثقيل على ذراعك والمؤلم كمحاولتك لنزعه والتخلص منه.

تتقلب ليلًا في سريرك، دون أن تتمكن من النوم فعلًا، تعرف بأنك مجبر على فعل شيء ما ولا شك.

تنتظر وتنتظر حتى تسمع صوت شخير اكتئابك على الصوفا معلنًا بدء استقراره ونيته في إقامة طويلة، فتنهض وتستبدل زوج حذائه المطاطي الناعم بزوج من القباقيب، تملأ سطحها الداخلي بمادة لاصقة قوية، كتلك التي تستخدمها في مصيدة الجرذان وتثبتهما بسرعة على قدميه، بينما يغرق في شخيره وفي نومه العميق، ثم تحمله برفق كأنه كومة من الريش وتضعه على عتبة البيت في الخارج وتقفل بابك وتعود إلى النوم بارتياح.

تنظر في اليوم التالي من خلال زجاج نافذتك إلى ما يحدث في الخارج، مشاهدٌ سينمائية كثيرة تحدث بين فترة وأخرى، بينما تشرب قهوتك المحلاة بالحليب المكثف. لا تعرف إذا ما كانت المرأة في الشقة المقابلة تتحدثُ مع نفسها أو إذا ما كانت تتحدث مع شخص جالس خارج مجال رؤيتك، ولا تعرف إذا ما كانت الرياح تضرب جدران الإسمنت أمامك بقوة أو تداعبها بنعومة، إلا أنكَ متأكد من أنّ الكلب ينبح هذه المرة على اكتئابك الذي يركض كالمجنون محاولًا الهرب من صوت حذائه الخشبي الجديد الذي أصبح كافيًا لإعلان قدومه وتجنبه، دون الاضطرار للتلفت حولك في كل لحظة خوفًا من أن يُباغتك من الخلف.

 

اقرأ/ي أيضًا:

موريس شاباز: الموت كالندى الطازج

ماناش باتاشارجي.. التاريخ كابوس الذاكرة