10-ديسمبر-2019

عناصر حركة يمينية متطرفة في بلغاريا، ينفذون دورية على الحدود مع تركيا لمنع اللاجئين (NBC)

منتصف شهر تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، أوقفت السلطات البولندية خلية إرهابية كانت تخطط لتنفيذ هجمات تستهدف الأقلية المسلمة بالبلاد، مُصادرةً، أثناء عملية مداهمة مقراتها، كمية من المواد الكيماوية المستخدمة في إعداد المتفجرات، وعددًا من الأسلحة النارية والذخيرة الحية.

لا تخلو أيديولوجيا اليمين المتطرف الأوروبي، من تناقضات مؤسسة، تفسر ادعاءاته الأكثر إثارة للسخرية في العادة

وبحسب وكالة الأمن الداخلية البولاندية، فإن العقل المدبر للخلية، والذي سبق وأن اعتقل في قضية مماثلة وحكم عليه بالسجن 13 عامًا؛ يستلهم أعماله الإجرامية من مانيفستو أندريس بريفيك، الإرهابي النرويجي الذي ارتبط اسمه بهجمات أوسلو 2011.

اقرأ/ي أيضًا: إعادة الاعتبار للغضب في فهم "الإرهاب"

قبلها، في شهر تشرين الأول/أكتوبر، استطاع إرهابي أبيض في مدينة هال الألمانية، تنفيذ هجماته التي استهدفت هذه المرة معبدًا يهوديًا ضم عددًا من المصلين كانوا يحتفلون بعيدهم الديني، قبل أن يوجه مدافع رشاشه في جزء ثاني من العملية لزبائن مطعم تركي، فيصيب منهم عددًا.

ستيفين باليت
ستيفان باليت، منفذ العملية الإرهابية ضد معبد يهودي ومطعم تركي في مدينة هال الألمانية

وعلى شاكلة الحادث الثالث، الذي استهدف مسجد كرايستشيرش بنيوزيلندا في آذار/مارس من ذات السنة، نقل إرهابي هال الألمانية، عمليته مباشرة بالصوت والصورة على منتدى للألعاب الإلكترونية. فيما يبقى القاسم المشترك بين عملية بريفيك وكرايستشيرش هو "المانيفستو".

المانيفستو.. تناقضات أيديولوجيا الإرهاب الابيض

"المانيفستو"، هذا المتن الذي صار الضرورة الشكلية لعمليات الإرهاب الأبيض، من خلاله لا يكتفي الفاعل بتقديم دوافعه لاقتراف الجريمة، بل ويؤسس نظريًا وأيديولوجيًا لجريمته.

يشير إلى ذلك، المفكر السلوفيني سلافوي جيجك، في كتابه "سنة الأحلام الخطيرة" قائلًا: "مانيفستو  صياد الماركسيين هذا (بريفيك)، ليس بالضبط حالة هذيان رجل مجنون، وإنما هو التفسير الواقعي لأزمة أوروبا التي تستخدم كتبرير لتنامي الشعبوية المعادية للمهاجرين. وتعارضاته نفسها هي عرَض للتناقضات الداخلية لأوروبا في هذه الرؤية ".

ومن داخل هذه المفارقة التي يرسمها جيجك: واقع الأزمة الاقتصادية والاجتماعية الأوروبية الداخلية من جهة، ومن جهة أخرى التفسير الأيديولوجي الذي يربطها بالغرباء عن الثقافة الأوروبية (المسلمين، المهاجرين، اليهود) والمفرطين في التسامح معهم (اليسار)؛ يُفسر خطاب اليمين المتطرف الأوروبي، المتحصن وراء اعتقاد مركب بماهية ثقافية أوروبية.

لا يخلو هذا الاعتقاد من تعبير عن تناقضات أساسه المادي، مهما بدت فيه مشوهة، كما هي الحال في مانيفستو بريفيك: عداء يجتمع فيه اليسار الماركسي الراديكالي والتعددية الثقافية الليبرالية والمحافظة الإسلامية مع معارضة تحرر المرأة وتفضيله الدولة العلمانية التي تكفل الحق في الإجهاض، وكرهه اليهود واعتبارهم مشكلةً اجتماعية، وفي نفس الوقت الإشادة بإسرائيل. 

وفي نفس المانيفستو، يذكر بريفيك أن أحد أبطاله هو ماكس مانوس، قائد المقاومة النرويجية ضد النازية. لكنه في نفس الوقت يبدي تعاطفه مع ساجا، المغنية السويدية المؤيدة للنازية.

هذه التناقضات، تفسر ادعاءات اليمين الأكثر إثارة للسخرية في العادة، كما الحال مع منفذ العملية  الإرهابية الأخيرة في فرنسا، المرشح السابق للجبهة الوطنية، كلود سينكي (84 سنة)، والذي استهدف بعمليته مسجد بلدة بايون، في 28 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي.

كلود سينكي
كلود سينكي، منفذ عملية إرهابية ضد إحدى مساجد فرنسا استنادًا إلى مزاعم روج لها حزب ماري لوبان

 وقد أقر سينكي للمحققين بأن عمليته كانت "انتقامًا من المؤامرة الإسلامية بإحراق كاتدرائية نوتردام"! ونظرية "المؤامرة الإسلامية لإحراق نوتردام" ليست مقتصرة على الإرهابي المذكور، بل روجت لها قيادات في حزب ماري لوبان المتطرف، وعبر مواقع تابعة للحزب وأشباهه في أوروبا.

اختراق الكراهية للمؤسسات الأمنية الأوروبية

من داخل تلك المفارقة تظهر الفاعلية التي تنشأ بها تلك الكراهية في حاضنات هي الأكثر ديموقراطية وعلمانية، بل بين المؤسسات الحامية لـ"القيم الأوروبية"، المؤسسات الأمنية والعسكرية الأوروبية، حيث يلعب هذا الوضع الوظيفي الاعتباري لأفرادها تمثلًا عكسيًا، يؤدي إلى تفشي الخطاب اليميني المتطرف بشكل كبير في أوساطها. هذا ما يدق من أجله تقرير سري لوكالة تطبيق القانون الأوروبية (يوروبول) ناقوس الخطر.

في اجتماع لوزراء داخلية الاتحاد الأوروبي، الذي احتضنته لوكسمبورغ في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2019، نوقشت كل هذه التقارير. لم يعتبر المجلس أن "الإرهاب الأبيض" خطر راهن، لكن طرحت على طاولة نقاشه أولوية رسم مشهد كامل لخطر التطرف اليميني في دول الاتحاد وتطوير وسائل الوقاية ومعالجته ومكافحة ترويج المحتوى المتطرف والتعاون في هذا كلّه، وفق ما جاء به محضر الاجتماع.

وفي حين ناقش الاجتماع المذكور تحذيرات اليوروبول، إلا أنه لم يعطها الأهمية الكافية، في مقابل قضايا أخرى كانت مطروحة على نفس جدول أعمال الاجتماع، مثل الهجرة والإرهاب الإسلامي، رغم أن تقرير اليوروبول ذكر صراحةً: "بهدف تدعيم قدراتهم البدنية والعسكرية وقدراتهم على خوض المعارك، تعمد مجموعات اليمين المتطرف إلى تجنيد أفراد من قوات الأمن والجيش الأوروبية، للاستفادة من خبراتهم في هذا المجال".

ليست حالات فردية أبدًا

ولم يكن تقرير اليوروبول الأول في هذا الصدد، فقد سبق وتم التحذير من هذا الاختراق المتطرف لمؤسسات الأمن الأوروبية، ففي التاسع من نيسان/أبريل 2019، نشر موقع ميديابارت الفرنسي تقريرًا حول "تحذيرات الاستعلامات الفرنسية من عدد قوات الأمن الذين لهم ارتباطات مع جماعات يمينية متطرفة"، ذكر فيه أن في فرنسا ثمة أكثر من 50 فردًا في قوات الشرطة والدرك والجيش، يُتابعون بسبب انتمائهم لجماعات يمينية متطرفة. 

وفي تقرير آخر، تكشف مصادر ميديابارت أن عددًا من رجال الأمن والجيش، في الخدمة ومتقاعدين، ومن مختلف الرتب، انتموا أو على الأقل تعاطفوا، مع جماعات عنصرية تفشّت عقب العمليات الإرهابية التي نفذتها عناصر تابعة لتنظيم داعش في 2016. ومن تلك المجموعات، مجموعة "ريمورا" المتطرفة، وأحد عناصرها مدير في الاستخبارات العامة الفرنسية!

وفي مثال آخر، نشر موقع "Réseau libre" اليميني المتطرف، مجموعة من اعترافات ما أسماهم "الوطنيين"، حيث يتوعدون فيها الجالية المسلمة بأعمال إرهابية بلغت حتى "الدعوة إلى اغتيال السفير القطري". من بين هؤلاء المعترفين شخص يشير إلى نفسه بـ"ضابط فرنسي في الخدمة العسكرية". في نفس الوقت تعترف السلطات الفرنسية بأن 350 متطرف يميني على الأقل، يمتلكون أسلحة نارية.

ميكو فيفيلينين
ميكو فيفيلينين، المجند النازي في الجيش البريطاني

وفي تشرين الثاني/نوفمبر 2018 أدين مجند في الجيش البريطاني برتبة عريف، في تهم الانتماء إلى إحدى جماعات النازيين الجدد، ومحاولة تجنيد عناصر الجيش في هذه الجماعة، وحُكم عليه بالسجن ثماني سنوات.

وكان العريف المدعو ميكو فيفيلينين (34 سنة) واحدًا من بين ثمانية أعضاء في خلية ميدلاندز التي فككتها السلطات البريطانية. وبحسب اعترافاته، كان فيفيلينين يحضر لـ"حرب عرقية"، وهو نفس المصطلح الوارد في مانيفستو يريفيك. وكان فيفيلينين يعمل على تنظيم مستعمرة حصرية للبيض في إحدى القرى الويلزية، لتكون قاعدة تنظيم العمليات العسكرية ضد ذوي البشرة السمراء والمسلمين واليهود. 

لم تكن هذه الحادثة معزولة داخل الجيش البريطاني، ففي نيسان/أبريل 2019 سُرب مقطع فيديو من تدريبات مجندين في الجيش على إطلاق النار باتجاه صورةٍ لزعيم حزب العمال وأبرز الوجوه اليسارية في البلاد جيريمي كوربين. من جانبه نفى قائد الفرقة التي ينتمي إليها المجندون علمه بالمقطع، واعدًا بالتحقيق في الأمر.

وفي تحقيق مصور لموقع "Redfish" البريطاني حول أسباب ارتباط التطرف اليميني بعناصر جيش المملكة المتحدة، عرض مقطع استهداف صورة كوربين على جنرال سابق في الجيش، ليعلق عليها: "إنهم مراهقون، وكما تعلم أن هذه الفئة العمرية يصعب ضبطها". وأضاف الجنرال السابق: "كوربين ماركسي، يدعم انفصال إيرلندا ويكره الجيش، وهذا ما ليس فيه شك بالنسبة إلي".

يُقدم الجيش البريطاني نفسه على أنه مؤسسة "لا سياسية"، تقبل التعددية العرقية والثقافية. لكن لا يبدو أن الحال كذلك فعلًا. يورد التحقيق المذكور لـ"Redfish" تعليقًا لعسكري بريطاني سابق، يقول فيه: "من الوارد أن تجد أوصافًا عنصرية تتداول داخل الجيش على أن كوربين عضو في حماس، أو داعم لجبهة تحرير أيرلندا، أو هيبي يحب السلام!".

لكن الأخطر يتضح بمطالعة منتديات قوات الجيش البريطاني، حيث يُنعت جيريمي كوربين بـ"الإرهابي اليساري"، وثمة دعوات يمكن رصدها على هذه المنتديات، لإعدامه شنقًا!

لا يقف الأمر عند هذا الحد، فقبل أشهر رفع جنود من أصول غير أوروبية، قضية على الجيش البريطاني بعد أن وجدوا مخادعهم موشومة بصلبان النازية المعقوفة.

ولا تبدو هذه العنصرية وقائع معزولة داخل مؤسسة الجيش البريطانية، بل يتضح أنها بشكل ما، جزء من عقلية عامة داخل المؤسسة، كما تكشف الفيديوهات التدريبية لعناصر الجيش، حيث يمثل الإرهابيين الجنود من ذوي البشرة السمراء، بينما قوات الأمن تكون كلها من ذوي البشرة البيضاء. وفي واقعة سابقة، وأثناء خدمته في أفغانستان، وثق للأمير هاري، دوق ساسيكس، موقفٌ يعير فيه زميله في السلاح، بألفاظ عنصرية.

يُفسر التحقيق ذلك كله، بـ"الأيديولوجيا العامة التي بتناها الجيش"، والتي تقوم على تمجيد قيم مثل الراية والملكية والغزوات الإمبريالية والأصول العرقية، وهذه هي تحديدًا نقط التقاطع مع أيديولوجيا اليمين المتطرف.

تكشف تقارير، منها تقارير رسمية، تجنيد مجموعات اليمين المتطرف الأوروبية لعناصر أمنية في أجهزة الشرطة والجيش

وتجدر الإشارة إلى أن الجيش البريطاني هو الوحيد أوروبيًا الذي يقبل في الخدمة يافعين ما دون سن الـ18. ومنذ ذلك السن الصغيرة، وعناصره تتلقى ذلك الحشد الأيديولوجي، ما يجعلهم أكثرًا تموقعًا سياسيًا إلى اليمين في جناحه المتطرف، وأكثر قابلية للاعتقاد في طرح بريفيك والانخراط في إرهابه.

 

اقرأ/ي أيضًا:

حصون بروكسل.. هل فعّل الاتحاد الأوروبي حصونه ضد اليمين المتطرف؟

الشعبوية في أوروبا.. تيار يجرف حتى الأحزاب "المعتدلة"