25-مايو-2021

صورة تعبيرية (Getty)

تتضح المفارقة في مستوى ونوعية التغطية الإعلامية التي تقدمها وسائل الإعلام العالمية الكبرى، أي ذات الحصص السوقية والحضور المهيمن مشهديًا، عندما يوضع المثال الخاص بالاعتداءات الإسرائيلية على الصحافة مؤخرًا في قطاع غزة، خصوصًا عند قصف مبنى برج الجلاء الذي ضم مكاتب وكالات صحفية عديدة، مقابل مثال التغطية الإعلامية لقضية الصحفي البيلاروسي رومان بروتاسيفيتش. ففي حين قصفت إسرائيل مكاتبًا صحفية برمتها صمتت العديد من الوسائل الإعلامية عن مثل هذا الاعتداء، أو تم تسويغه سرديًا في خانة "الحق" الإسرائيلي في الدفاع عن النفس، أو الأضرار الجانبية للعمليات الحربية، وبدأت بترويج التبريرات المختلفة والتلاعب بالمصطلحات التي تحمل في طياتها موقفًا سياسيًا منحازًا بشكل جلي. بينما في قضية رومان بروتاسيفيتش تصاعدت تغطية من نوع آخر، لكنها موجهة أيضًا، بشكل أساسي بسبب أن موقف الحكومات الغربية، الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية، معاد لنظام بيلاروسيا. وهكذا، يصبح مستوى التغطية الإعلامية رهن هوية المجرم ومدى قربه وبعده عن مصالح واصطفافات الحكومات الغربية  وإدارات الوسائل الإعلامية فيها، دون أن يعني ذلك أن قضية الصحفي رومان بروتاسيفيتش غير جديرة بهذا المستوى من التغطية.

أفردت الوكالات الإخبارية والصحف الكبرى في الدول الغربية مساحة موسعة جدًا لتغطية قضية الصحفي البيلاروسي رومان بروتاسيفيتش، وسيطرت التوصيفات السياسية على أبرز التقارير التي تناولت هذه القضية الجديرة بالمتابعة  

بخصوص قضية بروتاسيفيتش علقت الأسوشيتيد برس في تقريرها المعنون "زعماء الاتحاد الأوروبي يتفقون على فرض عقوبات على بيلاروسيا بعد تحويل مسار الطائرة"، وأشارت إلى اتفاق الكتلة الأوروبية المكونة من 27 دولة على مجموعة من العقوبات، من بينها حظر استخدام المجال الجوي والمطارات، وسط الغضب من عملية التحويل القسري لمسار طائرة الركاب التي كانت تحلق بين دولتين من دول الاتحاد الأوروبي، وذلك بغية القبض على الصحفي المعارض رومان بروتاسيفيتش، الأمر الذي وصفه زعماء الاتحاد الأوروبي بأنه "اختطاف فظ لطائرة إيرلندية"، حين كانت طائرة شركة راياناير متوجهة من اليونان إلى ليتوانيا، وطالبوا بالإفراج الفوري عن الصحفي المعتقل. كما جاء أيضًا في التقرير "يعد رومان خصمًا رئيسيًا للرئيس البيلاروسي المستبد ألكسندر لوكاشينكو"، المدعوم من موسكو.

اقرأ/ي أيضًا:  إدانات صحفية وحقوقية لفصل صحافية من الأسوشيتد برس بسبب "دعمها للفلسطينيين"

فيما تعتبر هذه الإجراءات الأوروبية، التي لم تحدث فيما خص إصابة وتهديد حياة العديد من الصحفيين بالقصف الإسرائيلي وقصف مكاتب الوكالات الصحفية، إضافة للاعتقالات المستمرة التي تنفذها إسرائيل بحق صحفيين فلسطينيين، مؤشرًا يمكن الأخذ به على حجم المعايير المزدوجة في التعاطي مع القضايا في السياسة والإعلام، خاصة وأن المصطلحات الصادرة عن الكتلة الأوروبية، وكذلك المصطلحات التي صيغ بها تقرير الأسوشيتيد برس (اختطاف، إرهاب دولة، قرصنة، وغيرها من المصطلحات) كانت على قدر القضية الإنسانية والحقوقية للصحفي رامان بروتاسيفيتش، إلا أن ذلك لم يحصل في الحالة الفلسطينية تجاه الوحشية الإسرائيلية. فمثلًا بالرغم من قصف مقرها ضمن عمارة الجلاء في غزة من قبل سلاح الجو الإسرائيلي، إلا أن وكالة أنباء الأسوشيتيد برس قامت بطرد الصحفية الأمريكية إيميلي وايلدر، 22 سنة، على خلفية "تعاطفها مع الفلسطينيين"، أو "دعمها لهم" وفق التعبيرات التي استعملت في تغطية ملف إقالة وايلدر، بعد تعبيرها عن ذلك من خلال منشورات على مواقع التواصل الاجتماعي، الأمر الذي يعكس حجم التجذر السياسي ضمن وسائل الإعلام "الكبرى" وازدواجية معاييرها، خاصة عندما لا يطال أدنى انتقاد أي أحد من الصحفيين الذي يروجون "للحق" الإسرائيلي في ممارسة الجرائم الموصوفة ضد الإنسانية، ومنها ضد العمل الصحفي.

أما وكالة رويترز، فقد أفردت لوحدها أكثر من 6 تقارير صحفية خلال 24 ساعة حول قضية بروتاسيفيتش. وجاء في عنوان تقريرها الأول "بيلاروسيا تتعرض لعقوبات أوروبية فيما اعتبر قرصنة دولة"، وفي التقرير الثاني "بيلاروسيا تجبر طائرة ركاب على الهبوط وتعتقل خصمها الصحفي، مما أثار غضب الولايات المتحدة وأوروبا"، بينما في تقريرها الثالث "دقائق ما قبل الهبوط: اللحظة التي علم فيها المعارض البيلاروسي أن وقته قد انتهى". وعلى هذا المنوال نسجت وكالة رويترز بقية تقاريرها موجهة "الزخم" بمستوى مرتفع لناحية تغطية القضية من زاوية الحكومات الغربية والولايات المتحدة الأمريكية وباستخدام مفردات من الصعب أن تنجو من اختبار الحيادية. بينما في المقارنة مع تغطيتها للعدوان على غزة، جاءت مصطلحات رويترز لتعكس "التكافؤ" في حجم القوة، بالرغم من عدم وجود أي تكافؤ في حجم الدمار والخسائر البشرية والمادية، أو في حجم القوة والترسانة التي تملكها أذرع حماس والجهاد الإسلامي العسكرية في غزة مقارنة بما يملكه الجيش الإسرائيلي، وفي ظل غياب أي ذكر للمسبب الأول لاندلاع المواجهة/العدوان، والمتمثل في تهجير سكان حي الشيخ جراح والاعتداءات الاستيطانية على الحرم القدسي.

من الأمثلة ممكنة الإيراد أيضًا على التمادي في "التمويه" الإعلامي المسيس، طبيعة تغطية صحيفة الواشنطن بوست المملوكة للملياردير جيف بيزوس، إذ قالت فيما يتعلق بجولة المواجهة الأخيرة بين الإسرائيليين والفلسطينيين في تقرير عن اللعبة الإعلامية للجيش الإسرائيلي فيما يتعلق بخبر الحشد للاجتياح البري "على مدى أيام، تقوم حماس، الجماعة المسلحة التي تسيطر على غزة، بإلقاء الصواريخ على إسرائيل، والتي رد الجيش الإسرائيلي عليها بضربات جوية مدمرة على المنطقة المكتظة بالسكان، والتي خلفت عشرات القتلى من المدنيين". ما يمكن استنتاجه من خلال قراءة هذا المقطع، هو أن حماس هي المعتدية وبأن القصف الإسرائيلي جاء كردة فعل فقط لا غير ضمن ما يعتبر حقًا من حقوقها. 

وبالعودة لقضية بروتاسيفيتش، نشرت صحيفة الصن تقريرًا بعنوان "أسير لوكاشينكو. من هو رومان بروتاسيفيتش؟" وقالت الصحيفة في تقريرها بأن رومان يبلغ من العمر 26 عامًا وهو مدون معارض، وأضافت بالقول "لقد أزعج رومان آخر دكتاتور في أوروبا"، وتابعت بالقول "يشغل رومان قناة عبر تيليغرام يتابعها حوالي مليون مشترك، وهي قناة معادية للرئيس البيلاروسي لوكاشينكو، الذي سبق له أن تعرض لخصومه بالخطف والقتل" التغطية التي تستند بدورها إلى حقائق مثبتة، لكنها في نفس الوقت تصعد من لهجة التوجيه السياسي عبر الاصطلاحات التي اعتمدت عليها. بينما جاء تقرير هيئة الإذاعة البريطانية بي بي سي ليعكس حجم التعاطف مع الصحفي رومان بروتاسيفيتش وذويه، إذ عنونت تقريرها بالتالي "أسرة الصحفي البيلاروسي تخشى تعرضه للتعذيب بعد توقيف الطائرة"، وأجرت مقابلة مصورة عبر الهاتف مع والد رومان عبر خلالها عن مخاوفه واتهامه للحكومة البيلاروسية بتعذيب ابنه والضغط عليه. وأضاف التقرير بالقول  "ظهر شريط فيديو لبروتاسيفيتش يبدو أنه تم تسجيله تحت الإكراه" ليعكس أداء الهيئة الممولة حكوميًا في هذا التقرير كمًا معقولًا من التزام معايير العمل الصحفي الإخباري، دون هيمنة الخطاب السياسي عليه أسوة بـ6 تقارير أخرى حول القضية جائت ضمن موجة التغطية مباشرة التحديث التي أطلقتها بي بي سي، أحدها يتحدث عن الخطوات التي يجب على الاتحاد الأوروبي اتخاذها، وكأنه صادر عن هيئة استشارية لا عن هيئة إعلامية .

 

اقرأ/ي أيضًا: 

الاعتداءات الإسرائيلية مستمرة في القدس وحملات الناشطين متواصلة

"غزة تنتصر" يتصدر منصات التواصل الاجتماعي