29-أغسطس-2019

تجيء حرائق الأمازون في قلب مسار تاريخي طويل ومعقد (Getty)

نادرًا ما يتم تسليط الضوء على الوجه القبيح للسياسة في قضية شائكة، مثل الحرائق التي بدأت في غابات الأمازون خلال الفترة الماضية، في حوض نهر يعادل في مساحته قارة أستراليا، ضم 400 مليار شجرة تنفث خُمس الأكسجين على الأرض، وتمتص قرونًا من الكربون الخانق، حتى وُصفت بأنها مغسلة كربون الأرض، فضلًا عما تمتصه من أشعة الشمس، وتدور 20 بالمئة من المياه العذبة في العالم عبر أنهارها ونباتاتها وتربتها وهوائها. وتعمل هذه الرطوبة على تغذية وتنظيم أنظمة متعددة في نطاق كوكب الأرض.

تسببت عمليات الإزالة المزمنة في غابات الأمازون، المرعية من قبل السلطات، يقابلها تدهور وتفتت هذه الغابات بمستوى أقل سرعة، في حدوث اضطرابات كبيرة في المناخ الإقليمي والأمطار

انتحار الغابات.. صفحة من الإهمال الإنساني القاتل

في النصف الأخير من القرن الماضي، تم قطع وحرق حوالي خمس هذه الغابة، أو حوالي 300 ألف ميل مربع ، في البرازيل، التي تحتوي حدودها على ثلثي حوض الأمازون، وهي مساحة أكبر من مساحة ولاية تكساس.

اقرأ/ي أيضًا: حرائق غابات الأمازون.. لماذا تبدو الحكومة البرازيلية غير مكترثة؟!

تسببت عمليات الإزالة المزمنة، التي يقابلها تدهور وتفتت هذه الغابات بمستوى أقل سرعة، في حدوث اضطرابات كبيرة في المناخ الإقليمي والأمطار. حذر العلماء من أن فقدان خمس غابات البرازيل المطيرة الأخرى سيؤدي إلى ظهور حلقة التغذية المرتدة المعروفة باسم Dieback حيث تبدأ الغابة في الجفاف، ومن ثم تتجه إلى التآكل نتيجة للأمطار الحمضية أو إصابتها بالطفيليات نتيجة اختلال نظامها الداخلي. ويؤدي ذلك بطبيعة الحال إلى انطلاق كميات هائلة من الكربون الذي كانت تستهلكه هذه الغابات.

إن التصحر في الغابة الضخمة قديم وعمره عقود، لكنه اليوم أصبح مسألة حياة أو موت على حد تعبير أحد السكان الأصليين. ويفيد إيمازون، وهو مركز أبحاث برازيلي بأن عمليات إزالة الغابات في الأشهر الأولى من عام 2019 قفزت بأكثر من 50 بالمئة مقارنة بنفس الفترة من الماضي. وبالطبع تضاعفت هذه النسبة الآن بعد 2500 حريق مشتعل منذ عدة أيام في الغابة الشاسعة.

نصف نسبة التصحر تلك التي كانت تحدث على قدم وساق قبل الحرائق الأخيرة، كان يحدث بطرائق قانونية وغير قانونية في المناطق المحمية، بما في ذلك مئات أراضي السكان الأصليين التي تغطي ربع الأمازون في البرازيل

بولسونارو.. رسول الموت يحمل منجلًا

في نيسان/إبريل الماضي نشرت اللوموند الفرنسية ما يمكن تسميته ببداية إعلان نهاية لكوكب الأرض. كان ذلك على شكل استغاثة بعث بها سكان الشعوب الأصلية للأمازون بعد مائة يوم من انتخاب بولسونارو.

منذ اليوم الأول لتوليه منصبه، هاجم مؤسسة فوناي الوطنية FUNI، التي تضمن حقوق الأرض للشعوب الأصلية في البرازيل، حيث قام بنقل اختصاصها  بترسيم الأراضي إلى وزارة الزراعة التي تنحاز إلى الريفيين من مربي الأبقار ورواد الصناعات الزراعية الذين تبقى مصلحتهم في تجريف الغابة وتحويلها إلى مراعٍ ضخمة لتسمين الأبقار.

في وقت سابق على الحرائق كان السكان الأصليون المحاربون والذين اعتادوا خوض حرب ضد عصابات التجريف حفاظًا على بيئتهم، يوجهون نداءات استغاثة إلى العالم . يقولون : "منذ انتخاب بولسونارو، نعيش أول ثمار نهاية العالم .. "نحن وأوصياء وأطفال الأرض الأم والشعوب الأصلية وحلفاؤنا ونبوءاتنا وحكمتنا ومعرفتنا سمحت لنا أن نرى أن الحياة على الأرض الأم في خطر وأن الوقت قد حان لتحول كبير".

"لقد تم غزو أرضنا ونشعر بالتخلي عنا. نطلب من الحكومة أن تقدر ماضينا وعلاقاتنا العميقة بهذه الأرض. إن إزالة الغابات تتقدم نحونا. يجب ضمان إقليمنا لأطفالنا، وفقًا لحقوقنا في الدستور الفيدرالي. إذا لم تفعل الحكومة ذلك، فسنفعل ذلك بأنفسنا".

في السياق، فإن تحقيقًا طويلًا ومكثفًا نشرته الإنترسبت يجيب على السؤال الأهم في حكاية الأمازون.. هل بولسونارو وحده المسؤل عن حرائق الأمازون المشتعلة اليوم أو أنه جزء من محرك في آلة قتل دائرة منذ وقت طويل؟

واحد من أهالي مدينة أبورينيا، يصف العصابات التي تحمل المناشير لقطع الغابات الثمينة داخل الأمازون بـ"جراد الأرض" الذين أصبح لهم جرأة أكبر بعد انتخاب جير بولسونارو. وأبورينيا هي أكبر مقاطعات البلاد موطن أكبر مساحات الغابات المطيرة في العالم.

روائح الفاشية داخل الغابة!

قام بولسونارو، وهو نقيب سابق بالجيش، بحملة يمكن تسميتها بـ"الحنين إلى الماضي" باتباع سياسات الأرض المحروقة. حيث حدث نموذج الديكتاتورية المناهض للغابات، وتستخدم حكومته نفس اللهجة التي استخدمتها حكومة الجنرالات في الستينات التي ناهضت السكان الأصليين وهضمت حقوقهم في الأرض والحياة.

يستمر بولسونارو في تقليد سياسي يميني متطرف في البرازيل يتفوق على  ديكتاتورية 1964 حيث استخدم مصطلح تدويل قضية الأمازون مثل نظيره السابق في الثلاثينات جيتيليو فارغاس المتعاطف مع الفاشية، الذي دعا إلى مسيرة إلى الغرب من أجل الأمازون، إلا أن الفاشية العسكرية استجابت لندائه بعد ثلاثين عامًا، حيث أحيت الطغمة العسكرية الحاكمة خططًا خمسيةً على الطراز السوفيتي "لإغراق الأمازون بالحضارة".

وقاد مهندسو الجيش طواقم العمل كما عززت إعلانات التلفزيون الحكومية حينذاك برامج الأرض والائتمان لتحفيز الانتقال من السواحل المكتظة إلى داخل الغابات حيث سيقوم المستوطنون ببناء شبكة كثيفة من المزارع والمزارع الصغيرة، كل واحدة متصلة بالموانئ الساحلية وأسواق السلع العالمية بواسطة شبكة طرق سريعة قوية. وسيتعين على سكان الغابة، من السكان الأصليين الذين يعيشون بشكل تقليدي، أن يفسحوا المجال للتكيف والتكامل والاندماج. أو كما قال كاستيلو برانكو، أحد الجنرالات الذين قادوا انقلاب عام 1964: "سوف يستمر احتلال الأمازون كما لو أننا نشن حربًا استراتيجية".

لكن التحديات اللوجستية لتحقيق أحلام العسكر في الأمازون كانت أكبر مما كان يتصور الجنرالات.

الحكم المدني: الحقوق بالدستور والقانون.. ولكن!

في عام 1988، عندما تم تبني دستور جديد بعد ثلاث سنوات من عودة الحكم المدني، كان بالفعل قد تم إحراق أو تدميرأكثر من عُشر الأمازون في البرازيل من قبل المستوطنين والصناع الذين تدعمهم الحكومة، كما تقلصت أعداد السكان الأصليين.

في نهاية الثمانينات وبداية الحقبة الجديدة، انتعشت أحوال السكان المدنيين وتضاعفت أعدادهم قليلًا. ومن الجدير بالذكر أن دستور عام 1988 كان قد خصص 43% من مناطق الأمازون للسكان الأصليين، تلك الأراضي التي كانت قد خُصصت من قبل للنشاط الصناعي وتطهير الأراضي، وتم إنشاء وكالة مراقبة وإنفاذ البيئة IBAMA، وزيادة دعم وكالة FUNI لمساعدة مجتمعات السكان الأصليين على حماية أراضيهم وتطوير صناعات الغابات المستدامة. في الوقت نفسه، شددت بنوك التنمية الدولية الشروط البيئية والاجتماعية على المساعدات والقروض، وقادت المنظمات غير الحكومية وحملات الناشطين المقاطعات الدولية الفعالة لسارقي الأراضي والمعتدين عليها، وبلغت ذروتها في الوقف التاريخي لزراعة فول الصويا عام 2006 الذي نزل كالصاعقة على المزارعين والريفيين على حد تعبير الإنترسبت.

وعلى الرغم من أن عمليات القطع والحرق لم تتوقف مطلقًا، فإن معدل إزالة الغابات لم يتوقف أيضًا. بدأت عمليات إزالة وتجريف الغابات القانونية وغير القانونية في عام 2012، مدفوعة بتوسع قطاع الأعمال الزراعية والقوة السياسية المتنامية لملاك الأراضي في البرازيل في الكونغرس.

دعم الريفيون عان 2016 ما أسماه السكان الأصليون الانقلاب الناعم ضد ديلما روسيف، الرئيسة التي مثلت  يسار الوسط، ووفروا غطاء لخليفتها ميشيل تامر، الذي منح عفوًا رئاسيًا لعصابات تجريف وخطف الأراضي وحاول تخفيف قوانين العبودية في البرازيل.

بولسونارو والتخطيط للكارثة

في اليوم الثاني لانتخابه في الثاني من كانون الثاني/يناير 2019 أي بعد ساعات من انتخابه، نقل بولسونارو جميع صلاحيات التحكم في سياسيات إدارة الغابات إلى وزارة الزراعة التي تديرها تيريزا كريستينا الريفية المعروفة التي تساند زراعة فول الصويا وإنشاء المراعي (حازت وزيرة الزراعة في حكومة  بولسونارو، على لقب "جنية السم" لدفاعها المستميت عن إنهاء القيود المفروضة على أكثر مبيدات الآفات سمية)، كما شمل النقل تخليص جمعية السكان الأصليين FUNAI من دورها العريق في ترسيم أراضي السكان الأصليين، وإضافته إلى حقيبة الوزيرة المساعدة لشؤون الأراضي، لوانا رويز، وهي محامية تمتلك أسرتها أراضِ تتداخل مع أراضي السكان الأصليين في ولاية ماتو جروسو دو سول.

الجدير بالذكر أن جمعية FUNI  تم تجريدها من ثلث تمويلها، كما تم التخلي عن مراكز المراقبة في المناطق شديدة الخطورة في جميع أنحاء الأمازون، وتم تقليص حجم موظفيها والخطط المتعلقة بها مما أدى في كثير من الأحيان إلى ترك موظف واحد فقط للتوسط في النزاعات البرية العنيفة في مناطق نائية من الغابات المتنازع عليها.

كما قام وزير البيئة في حكومة بولسونارو ريكاردو ساليس بخفض عدد الموظفين والتمويل لدى أهم شريك لـ FUNAI  في الحكومة، وهي وكالة مراقبة البيئة وتطبيقها المعروفة باسم IBAMA.

شيكو مينديز.. غاندي الأمازون

عندما تم التهام الأمازون في الجنوب الغربي دونما أدنى حماية في السبعينات، كانت النتيجة أن دافعت الغابة عن نفسها وأسست حركة اجتماعية وسياسية لرفض الخيار المجحف الذي يقتضي وضع التنمية والغابة على كفي ميزان واحد. توحدت على إثر ذلك الشعوب الأصلية وغير الأصلية للغابات، وكان زعيمها جامع المطاط وزعيم النقابة من جنوب "أكري" يدعى شيكو منديز. استطاع منديز تأسيس هذا التحالف الذي تحول إلى شكل رائد من أشكال المقاومة اللاعنيفة.

قام الرجال والنساء والأطفال بتشكيل دروع بشرية حول الأشجار، مما جرأ مغتصبي الأراضي، إخوانهم من الفقراء أمثالهم على قتلهم، وفي حالات أخرى استطاع النشطاء من الأصليين التغلب عليهم واحتجازهم كرهائن، وتحطيم مناشيرهم وجراراتهم. ويذكر تحقيق الإنترسبت كيف شهد أحد الصحفيين منديز، وهو يحاضر رهائنه من سارقي الأراضي عن البيئة والطبيعة والنظرية الماركسية.

ذاعت شهرة منديز في الوقت الذي بدأ فيه العالم الاعتراف بالتحدي الذي يمثله تغير المناخ، وهو تطور تزامن مع انتقال البرازيل إلى الحكم المدني. بسبب هذا التقارب المحظوظ للتاريخ، نجا إرث مينديز واستمر في الدستور والحكومة الجديدين، وعلى الأخص في المحافظة على احتياطي الأمازون الطبيعي من المكسرات والمطاط والتوت وغيرها من الصناعات. وفي عام 2007، عندما أنشأ الرئيس آنذاك لولا دا سيلفا معهدًا لحماية ومراقبة الأراضي داخل وزارة البيئة، أطلق عليه اسم منديز، بصفته زميله النقابي ورفيقه الأثير منذ أوائل الثمانينات.

مصرع غاندي الأمازون!

في 25 كانون الأول/ديسمبر 1988 قُتل منديز على يد مزارعين ريفيين، و لاحقًا شكل اسمه لعنة على حكومة بولسونارو، حيث ظهرت على المدى الطويل رؤيته بصفتها الأكثر فاعلية للاقتصاد والبشرية من مجرد تحويل الأرض إلى القطاع الزراعي.

تؤكد الدراسات أن الثروات البيلوجية للأمازون ممكنة بفضل العناصر الغذائية التي يوفرها التحلل المستمر لنباتاتها الوفيرة، وليس الطبقات الرقيقة للتربة تحت أرضية الغابات التي يسعى المزارعون لتسخيرها لخدمتهم، حيث يحدث تدهور لمعظم تلك المراعي و يتم التخلي عنها في فترة ما بين 10 إلى 15 عامًا، مما يعني أن وجود الصناعات والزراعات المعتادة (بغض النظر عن توسعها) يعتمد على دورة تدمير دائمة: يجب قطع المزيد من الغابات دائمًا للاستمرار.

يقدر يواكيم فرانسيسكو دي كارفالهو، الرئيس السابق لمعهد البرازيل لتنمية الغابات، أن هكتارًا واحدًا من الماشية أو فول الصويا يتراوح ثمنه بين 25 و 250 دولارًا، في حين أن نفس الهكتار من الغابات المدارة بشكل مستدام يمكن أن ينتج ما يصل إلى 850 دولارًا. لكن هذا النهج الأخير يحافظ على ما يمكن تسميته التنوع البيولوجي في منطقة الأمازون وما يسميه عالم النبات والعرق البشري ويد ديفيس "إثنوسفير". كل ذلك لا يعني أن سكان الغابات لا يريدون الاتصال بالعالم الخارجي، بل لقد أثبتوا في أكثر من مناسبة حاجتهم للعالم لمساعدتهم على البقاء وللمحافظة على أنظمتهم الطبيعية والاستفادة منها بالشكل الذي لا يضر الطبيعة الأم.

اقرأ/ي أيضًا: الفاشية تعود بفسادها.. بولسونارو يبدأ ولايته بفضائح كبرى هزت البرازيل

في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، قام وفد من الأمازون بتسليم وثيقة "إعلان بوغوتا" إلى مؤتمر الأمم المتحدة للتنوع البيولوجي الرابع عشر المنعقد في مدينة شرم الشيخ الساحلية المصرية. وقد حددت الخطة، التي وضعتها 400 مجموعة إثنية عبر حوض الأمازون، لإنشاء "ممر مقدس للحياة" من أراضي السكان الأصليين المتجاورة الممتدة من جبال الأنديز إلى المحيط الأطلسي. داخل منطقة الغابات التي تبلغ مساحتها 500 مليون فدان، تجمع الشعوب الأصلية معارف أجدادها وتعرض أساليب بديلة للتنمية وطرق العيش. وصف الإعلان المقترح بأنه "خطوة أولى لضمان وجود جميع أشكال الحياة على الكوكب".

في 25 كانون الأول/ديسمبر 1988 قُتل منديز على يد مزارعين ريفيين، و لاحقًا شكل اسمه لعنة على حكومة بولسونارو، حيث ظهرت على المدى الطويل رؤيته بصفتها الأكثر فاعلية للاقتصاد والبشرية

لكن وجه السياسة القبيح يكون له دائمًا حسابات أخرى في المعادلات كلها، البيئية والاقتصادية والمالية، ويكون آخرها في سلسلة أولوياته البيئة أو الإنسان أو الحقوق.

 

اقرأ/ي أيضًا:

ما هي أسوأ 5 كوارث طبيعية في 2018؟

التغير المناخي.. نجاة الجناة وهلاك الفقراء