تتزايد تحذيرات العاملين في قطاع الإغاثة الإنسانية من تفاقم أزمة سوء التغذية في السودان بعد تعليق المساعدات الأميركية، مما أدى إلى وفاة أطفال جوعًا في أحياء محاصرة من الخرطوم. وفي الوقت الذي أُغلقت مئات المطابخ المجتمعية التي كانت تمثل مصدر الغذاء الوحيد لآلاف الأسر، فإن المخاوف تتزايد من انتشار المجاعة بين ملايين السودانيين في ظل انهيار مؤسسات الإغاثة، وعجز المنظمات الدولية عن سد الفجوة المتزايدة في نقص التمويل.
12 طفلًا قضوا بسبب سوء التغذية
في أحد أحياء الخرطوم المحاصرة، قضى عبدو، الرضيع ذو الـ18 شهرًا، بعد أن فشلت والدته في إنقاذه من الجوع. كانت أضلاعه بارزة من جسده النحيل والمتهالك، هكذا ظهر الطفل الرضيع حين وضعه الطبيب على بطانية مزينة برسم دببة، وقد أغمض عينيه إلى الأبد.
لكن عبدو لم يكن الطفل الوحيد، إنما واحد من 12 طفلًا قضوا بسبب سوء التغذية بعد أسابيع من قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب بتجميد المساعدات الخارجية التي كانت تمولها الوكالة الأميركية للتنمية الدولية، وفقًا لشهادات ميدانية جمعتها صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية.
تتزايد تحذيرات العاملين في قطاع الإغاثة الإنسانية من تفاقم أزمة سوء التغذية في السودان بعد تعليق المساعدات الممولة من الوكالة الأميركية للتنمية الدولية مهددة حياة الملايين
المطابخ المجتمعية، التي كانت تموّلها الوكالة الأميركية، مثل المطبخ القريب من منزل عبدو، أغلقت أبوابها بعد انقطاع التمويل. وكانت هذه المطابخ تشكّل شريان الحياة لعشرات الآلاف من السودانيين المحاصرين بالنيران. تصف عاملة الإغاثة في حي الجريف غرب الخرطوم، دعاء طارق، قائلة: "كان الأمر كارثيًا".
انهيار إنساني وسط حرب لا ترحم
تتزامن هذه الكارثة الإنسانية مع تصاعد الحرب السودانية، التي تدخل عامها الثالث، وقد وصفتها منظمات الإغاثة بأنها "أسوأ أزمة إنسانية يشهدها العالم منذ عقود". حيثُ تتفشى المجاعة، ويأكل البعض أوراق الشجر والعشب للبقاء. في دارفور وحدها، شُرّد 400 ألف شخص وقُتل المئات خلال أسبوع واحد بعد اجتياح قوات الدعم السريع لأكبر مخيم للنازحين، بحسب الأمم المتحدة.
وكانت الولايات المتحدة قد قدمت مساعدات بقيمة تُقدّر بـ430 مليون دولار كمساعدات طارئة للسودان في عام 2024، ما ساعد 4.4 ملايين شخص. لكن بعد قرار ترامب في كانون الثاني/يناير المتمثل بتفكيك الوكالة الأميركية، توقف تدفق الأموال، وتم تسريح الموظفين، ما شلّ بالكامل سلسلة المساعدات. من أصل نحو 10 آلاف موظف، لم يتبقَ سوى 15، وفق تقارير إغاثية، كما تقول "نيويورك تايمز".
في حي الجريف غرب الخرطوم، تقول طارق إن السكان صاروا يتجولون بين الأنقاض بحثًا عن الطعام، حيث أُغلق 300 مطبخ تديره "غرف الاستجابة الطارئة" خلال أيام. إذ كانت هذه الشبكة التطوعية تملأ فراغ غياب المنظمات الدولية في مناطق النزاع. تقول طارق: "الناس كانوا يتشاركون ما يملكونه. لكن كثيرين عادوا إلى منازلهم خاليي الوفاض".
🔴 وصفتها #الأمم_المتحدة بأنها "أسوأ كارثة إنسانية في العالم اليوم".. حرب #السودان تدخل عامها الثالث دون بصيص أمل يلوح في الأفق. pic.twitter.com/GK8Ics9vCe
— Ultra Sawt ألترا صوت (@UltraSawt) April 15, 2025
وفقًا للصحيفة الأميركية، يعاني أكثر من 600 ألف سوداني من المجاعة، فيما يواجه ثمانية ملايين سوداني خطر الانزلاق إليها. وتشير المنظمات الدولية إلى أن معدلات سوء التغذية الحاد لدى الأطفال في الخرطوم تبلغ عشرة أضعاف المعدلات الطارئة.
عار يلاحق الدول التي تزعم الإنسانية
تؤكد العاملة الإنسانية والمستشارة السابقة في منظمة دولية، نهلة حسن، في حديثها لـ"الترا سودان"، أنه على الرغم التصريحات الأممية، إلا أن "نسبة الاستجابة لم تتجاوز 30% لكل عام من العامين الماضيين"، مشيرةً إلى أن "هذا عار يلاحق الدول التي تزعم الإنسانية".
وأضافت العاملة الإنسانية مشددة على أنه "إذا لم تتحرك القوى المناهضة للحرب خلال هذا العام من المتوقع أن يتسع الصراع المسلح في مناطق أكثر هشاشة تفرز موجة جديدة من النزوح"، مرجحة أن "ترتفع نسبة المجاعة إلى أربعة ملايين شخص جديد يسجلون على قوائم النزوح والجوع".
وقال منسق الطوارئ في برنامج الأغذية العالمي لأزمة السودان، شون هيوز، إن نحو 25 مليون شخص، أي نصف السكان، يواجهون جوعًا شديدًا، فيما يعاني ما يقرب من خمسة ملايين طفل وأُم من سوء التغذية الحاد.
وأضاف محذرًا من أن "عشرات الآلاف من الأشخاص في السودان سيموتون خلال العام الثالث من الحرب، ما لم يتمكن برنامج الأغذية العالمي وغيره من الوكالات من الوصول إلى المحتاجين والحصول على الموارد اللازمة لهم".
"هذه أحلك ساعة يمر بها السودان"
بينما أعلنت إدارة ترامب أن "المساعدات المنقذة للحياة مستثناة من التجميد"، إلا أن الواقع يروي عكس ذلك. يشير جهاد صلاح الدين، المنسق المالي لغرف الاستجابة، إلى أن نحو نصف المطابخ الـ746 في العاصمة ما تزال مغلقة. أما الأمم المتحدة، فلا تزال تواجه عجزًا بمليارات الدولارات في خطتها للاستجابة. يقول رئيس المجلس النرويجي للاجئين يان إيغلاند: "هذه أحلك ساعة يمر بها السودان"، واصفًا خفض التمويل الأميركي بأنه "فشل أخلاقي"، بحسب "نيويورك تايمز.
منظمة "أنقذوا الأطفال" أعلنت عن وفاة 5 أطفال على الأقل في جنوب السودان بعد إصابتهم بالكوليرا، أثناء محاولتهم السير للوصول إلى أقرب مركز صحي.
اقرأ المزيد: https://t.co/wzQKahDEKA pic.twitter.com/BRJv39bY3V
— Ultra Sawt ألترا صوت (@UltraSawt) April 9, 2025
يشير تقرير "نيويورك تايمز" إلى أنه في زيارة ميدانية للصحفيين في آذار/مارس، ظهرت ملامح الجوع على وجوه السكان. الطفلة فاطمة بهلاوي (20 شهرًا) كانت تصرخ بذراعين نحيلتين في حضن والدتها. تقول خديجة موسى إن تعليق المساعدات جاء في توقيت بالغ السوء، بالتزامن مع تقدم الجيش وقصف الدعم السريع للحي، ما أدى إلى تدمير الجسر الحيوي الذي يربط المنطقة بمصادر الغذاء. أضافت موسى: "كانت أيامًا مروعة"
ومثل بهلاوي، على الضفة الأخرى من النيل، كان الطفل بابكر خالد (شهران) يلهث من ضيق التنفس، وأنبوب يخرج من أنفه، بينما تعتذر والدته، النحيلة أيضًا، عن عدم قدرتها على إرضاعه، بحسب "نيويورك تايمز".
وجبة واحدة لا تكفي
رغم الخطر، لا تزال "غرف الاستجابة الطارئة" تواصل العمل. وقد قُتل عشرات المتطوعين منذ بداية الحرب، بينهم 45 في الخرطوم وحدها. بعضهم قُصف، وآخرون أُعدموا أو ضُربوا حتى الموت. يروي جهاد صلاح الدين، الذي نجا من الاعتقال والضرب، كيف قتلت قوات الدعم السريع متطوعًا أمام عينيه، يقول باكيًا: "اتهموه بالعمل لصالح الاستخبارات العسكرية".
📌 يشير تقرير لموقع "إن بي سي نيوز" الأميركي إلى أن أكثر من 30 مليون شخص في #السودان بحاجة إلى مساعدات إنسانية.
📌 باتت مطابخ الطعام التي توفر الغذاء والدواء وغيرها من الإمدادات الأساسية معرضة للتوقف بشكل نهائي بعد تجميد الإدارة الأميركية لأنشطة وكالة التنمية الدولية.
📌 بحسب… pic.twitter.com/Em1HMomwun
— Ultra Sawt ألترا صوت (@UltraSawt) February 13, 2025
وفقًا للصحيفة الأميركية، كانت دعاء طارق حاملًا في شهرها الرابع عند اندلاع الحرب، اختارت البقاء حين أُلغيت رحلت زوجها من أسطنبول بعد قصف المطار. وبدلًا من الفرار أو النزوح، أسست مطابخ رغم النهب والقصف وولادتها لطفلها. كما كانت شاهدة على إطلاق النار على زميل لها أمام عينيها، بينما كانت ترضع طفلها الرضيع.
حاليًا، وبعد حصولها على تبرعات من أوروبا والجاليات السودانية في الخارج، تمكنت من إعادة فتح ثمانية مطابخ، لكن طاقتها التشغيلية محدودة. تقول موضحة: "هذه وجبتهم الوحيدة في اليوم"، وأضافت "لكنها لا تكفي".
تختتم "نيويورك تايمز" تقريرها بشهادة البائع المتجول الذي تحول إلى متطوع موسى سليم. يروي في هذه الشهادة كيف أُصيب في ظهره جراء غارة للدعم السريع، وأيضًا كيف اقتحم مقاتلون من الدعم السريع منزل ابنته وحاولوا اغتصابها. يقول: "لقد كانت سنوات لا تُصدق"، مضيفًا "كنت سأهرب معهم.. لكن الفرار يحتاج إلى مال. من أين لي به؟"، في إشارة إلى هروب نحو ثمانية ملايين سوداني من الخرطوم.