30-يوليو-2019

الدولة في لبنان بالنسبة للطائفة "شر لا بد منه" (The Daily Beast)

هناك العديد من المقولات التي تحاول تفسير الواقع اللبناني لناحية استمراريته وعدم نجرافه نحو الإنهيار الكامل، إلا أنها تبقى عاجزة عن توصيف الصيغة اللبنانية لشدة تعقيدها.

الدولة اللبنانية هابطة لكنها لا تهبط كليًا، وقائمة لكنها لا تقوم كليًا، إنها تتأرجح في منطقة العناية الفائقة، أو ربما الموت السريري

ومن هذه المقولات تشبيه لبنان بأنه بلد "أليس في بلاد العجائب"، الداخل فيه مفقود والخارج منه مولود. يقول زياد الرحباني: "قوم فوت نام وصير حلام إنو بلدنا صارت بلد. هاي بلد لأ مش بلد، هاي قرطة عالم مجموعين".

اقرأ/ي أيضًا: لبنان الوحيد.. لبنان العنيد

وهناك أيضًا مقولة: "في لبنان لا يوجد لبنانيون"، حيث تشير إلى أن اللبنانيين إنما يعطون أولوية إما لطوائفهم وإما لدول خارجية، أو لمصالحهم الخاصة على حساب المصلحة الوطنية اللبنانية العامة المتمثلة في الدولة اللبنانية.

تقول إحدى السيدات التي عاشت في لبنان قرابة 10 سنوات: "لبنان بلد كل شي فيه راكب، وكل شي فيه مش راكب"، وأما صديقي الصيني بانجي، فيقول: "في لبنان أدفع ثمن خدمة بسعر فرنسا، وأتلقى خدمة كما في أفريقيا".

الدولة هابطة لكنها لا تهبط كليًا، والدولة قائمة لكنها لا تقوم كليًا، إنها تتأرجح في منطقة العناية الفائقة، أو ربما الموت السريري. الدولة تعيش في حالة "بين بين"، في الوسط "إجر لقدام إجر لورا"، وهكذا تراوح مكانها.

لا يتفق اللبنانيون على حدودهم الجغرافية، فهل تلال كفرشوبا لبنانية أم سورية؟! لا يتفق اللبنانيون على عدو واحد، أو من هو العدو! لا يتفق اللبنانيون على من هو الصديق. 

في لبنان عدو عدوي صديقي، وصديق صديقي عدوي. لا يتفق اللبنانيون على هوية لبنان ولا على علاقاته الخارجية وارتباطه بالقضايا في المنطقة، فهل لبنان رأس حربة في مواجهة الاستعمار والإرهاب، أم لبنان بلد يجب أن ينأى بنفسه ليستقر ويستمر؟ 

لا يتفق اللبنانيون حول دور لبنان في المنطقة فيما يخص القضية الفلسطينية، كما لا يتفقون حول شكل المقاومة. لا يتفق اللبنانيون حول شكل الدولة التي يريدونها ويطمحون إليها؛ يعارضون الطائفية، لكنهم محكومون بها ولا يحيدون عنها. ولا يتفق اللبنانيون كذلك حول إجراء مسح سكاني، فلا يعرف عدد شعب البلد، وليس هناك أي إحصاء منذ عام 1932.

يمشي البلد بغرائبية خيالية، يمشي لعدة سنوات "بلا رأس"، أي بدون رئيس جمهورية. يمشي البلد بدون حكومة لأشهر، ويمشي البلد مع التمديد للمجلس النيابي وبدون إجراء انتخابات نيابية لمدة ثماني سنوات. يمشي البلد بدون موازنة مالية لأكثر من ثماني سنوات.

يمشي البلد في ظل صراعات مسلحة كما في السابع من أيار/مايو 2008. يمشي البلد في ظل حرب تموز/يوليو 2006. لبنان بلد يمشي "وكله على الله"، فكيف يسير الناس حياتهم وأمورهم؟!

يعيش اللبناني ضمن طائفته التي صنعت مؤسساتها التربوية والصحية والأمنية والاقتصادية والخدماتية الخاصة. في لبنان كل طائفة دولة قائمة بذاتها، ويمكن للطائفة أن تستمر في خدمة أفرادها بمعزل عن الدولة ومرافقها وخدماتها.

الطائفة في لبنان ليست تعبيرًا عن المذهب أو الدين، إنها خليط أوسع وأشمل من الفكرة الدينية، إنها تمثل جماعة عصبية تربطهم علاقات اقتصادية وثقافية واجتماعية تخولهم العيش والانعزال كجزيرة بعيدًا عن محيطهم. يمكن للطائفة في لبنان أن تعيش وتستمر وتؤمن مصالح أفرادها، سواءً كانت الدولة قوية أم ضعيفة، حاضرة أم غائبة. في لبنان هناك دول طائفية.

المعادلة الطائفية تُختصر كالتالي: كلما أصبحت الدولة أقوى، كلما ضعفت إمكانات الطائفة، وكلما كانت الدولة أضعف كلما كانت الطائفة أقوى. لكن الشرط الجوهري، ألا تصل الدولة إلى الانهيار.

الطوائف تهدف إلى تسخير الدولة لمصالحها، لكنها تخشى انهيار المنظومة كلها، لأنها تضر بها، لذا تستمر الطوائف بحقن الدولة بالمهدئات لتستقر وتقف على حافة الهاوية. يعرف السياسيون ذلك ويقولون في سرهم: "نريدك أيتها الدولة لكن نريدك على مقاسنا". الطائفة تبغض الدولة، لكن الدولة بالنسبة للطائفة "شر لا بد منه".

في لبنان حوادث بالمئات ولم يعرف اللبنانيون يومًا خواتيم حادثة واحدة. يتم تمييع الحوادث وسرعان ما تختفي لتظهر حوادث جديدة لكن دون أن يصدر عن الدولة اللبنانية رأي حاسم وأخير في المسألة.

لا يتم إنهاء ملف واحد في لبنان في أي وزارة؛ تصل الحكومة في كل ملف إلى منتصف الطريق وتشل قدراتها. يمكن للحكومة تأمين الكهرباء، لكن مع تقنين ثماني ساعات يوميًا، ويمكن للحكومة تأمين المياه لكنها ستقطع لأسابيع، وتبدأ التحقيقات في قضايا جنائية وقضايا فساد، لكنها تصل إلى حائط مسدود فلا يعرف اللبنانيون أي تفسير لما جرى.

وهكذا يتلقى اللبنانيون أنصاف الخدمات باستمرار؛ فمن الصعب إيجاد خدمة كاملة في لبنان تقدمها الدولة اللبنانية، ومن الصعب إيجاد ملف وصل إلى خواتيم سعيدة.

تهدف الطوائف لتسخير الدولة، مع خشيتها من انهيارها تمامًا، لذا تستمر في حقنها بالمهدئات لتستقر على حافة الهاوية

معظم الملفات في لبنان تبقى معلقة حتى إشعار أخر، بمعنى: "لبنان كل شي فيه زابط، وكل شي فيه مش زابط". لكن إلى متى يمكن أن تستمر حالة "الهشك بشك" هذه دون أن تصطدم الجماعات الطائفية فيما بينها وينهار هذا الـ"لبنان"؟!

 

اقرأ/ي أيضًا:

لبنان الضعيف.. لبنان القوي

لمَ علينا الرحيل من لبنان؟