31-أغسطس-2019

تمارس حكومة الإنقاذ نفس سياسات النظام السوري (Getty)

مطلع تموز/يوليو 2017، اندلع اقتتال عنيف بين "هيئة تحرير الشام" (تشكّل جبهة فتح الشام، النصرة سابقًا، قوّتها الرئيسية) من جهة، و"حركة أحرار الشام الإسلامية" من جهةٍ ثانية؛ تمخّض عنه انتزاع الطرف الأول الذي يتزّعمه أبو محمد الجولاني السيطرة على معبر باب الهوى الحدودي مع تركيا من قبضة الحركة التي كانت تتّخذه مقرًّا رئيسيًا لقيادتها. أعاد الاقتتال رسم مناطق النفوذ لا بين الهيئة والحركة فقط، وإنّما بين الهيئة وفصائل المعارضة المعتدلة. وجرّد أحرار الشام من اعتباره المنافس الأبرز للهيئة في الشمال.

اعتبر المقرّبون من "هيئة تحرير الشام" أنّ "الإنقاذ" تهدف لتوحيد القرار في المناطق المحرّرة، وتعمل على توحيد المؤسّسات المدنية والخدمية، لكن الواقع يشير إلى أنها تحولت إلى ما يشبه العصابة

انسحاب حركة أحرار الشام الإسلامية من معبر باب الهوى كان دليلًا كافيًا على انهيارها أمام ضربات الهيئة وحلفائها. وانتهاء أول خطوة من مشروع الجولاني للسيطرة على الشمال المحرّر عسكريًا ومدنيًا. وبينما باتت السيطرة العسكرية أمرًا واقعًا، أدرك مبعوث أبو بكر البغدادي إلى سورية أنّه بات بحاجة إلى مؤسّسة مدنية وخدماتية تتجاوز "الإدارة المدنية للخدمات" التابعة لتنظميه، تكون وبالدرجة الأولى، متماشية مع تطلّعاته التوسّعية، وتمهّد له الطريق لتنصيبه حاكمًا فعليًا للشمال المحرّر.

اقرأ/ي أيضًا: مقاتلو تنظيم الدولة وعائلاتهم في سوريا.. تهديد وورقة ضغط

مطلع تشرين الثاني/نوفمبر 2017، أُعلن من معبر باب الهوى عن تشكيل "حكومة الإنقاذ السورية" المنبثقة عمّا يُعرف بـ "الهيئة التأسيسية" المنبثقة بدورها عمّا اصطلح على تسميته وقتها بـ "المؤتمر السوري العام". تشكّلت الحكومة من 11 حقيبة وزارية برئاسة محمد الشيخ الذي أكّد أنّ الهدف من تشكيل الحكومة هو العمل بسرعة للتخفيف من آلام السوريين في الداخل، وامتلاك القرار السياسي، والملّفات الأمنية والمدنية والخدمية من الداخل، والنأي بها عن الأجندات الخارجية وكذا الصراعات الفصائلية أيضًا.

اعتبر المقرّبون من "هيئة تحرير الشام" أنّ "الإنقاذ" تهدف لتوحيد القرار في المناطق المحرّرة، وتعمل على توحيد المؤسّسات المدنية والخدمية التعليمية والشرعية والأمنية. وأنّها أيضًا حكومة مستقلّة، ولا تخضع للمال السياسي بفعل توافر الموارد بشكلٍ يجعل منها حكومة قرار وطني تسعى لترسيخ فكرة الدولة المؤلّفة من مديريات ومؤسّسات رقابية، وخدمات للمواطنين، عدا عن تشكيل جيش يجمع كافة الفصائل العاملة في الشمال. إلّا أنّ ذلك لم يُغيّر، محليًا ودوليًا، من حقيقة أنّ الحكومة ليست أكثر من مجرّد واجهة لـ "هيئة تحرير الشام".

سارع عدد من الوزراء والمسؤولين في "الإنقاذ" لنفي تبعية الحكومة للهيئة. ولكنّ اصطدامها بـ "الحكومة السورية المؤقتة" التابعة للائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة، ومحاربة الهيئة لفصائل المعارضة المعتدلة والسيطرة على محافظة إدلب وكذا ريف حلب الغربي، ودخول الحكومة إلى المناطق التي تنتزعها الهيئة من الفصائل، أكّد أنّ حكومة الإنقاذ ما هي إلّا ذراع أبو محمد الجولاني للسيطرة على المؤسّسات المدنية في الشمال، وتلميع صورته محليًا وعالميًا.

الهيئة والإنقاذ في مواجهة الحكومة المؤقتة والفصائل: تداعيات الصراع

اصطدام حكومة "الإنقاذ" بـ "الحكومة المؤقتة" جاء بعد رفض الأخيرة التعامل مع الأولى باعتبارها على صلة وثيقة بتنظيمات إرهابية. لتردّ الإنقاذ بإمهال الحكومة المؤقّتة 72 ساعة لإغلاق مكاتبها ومغادرة المنطقة بشكلٍ كامل، الأمر الذي أدّى إلى وقف وتشتيت العمل الإداري والمؤسّساتي والخدمي، قبل مغادرة الحكومة المؤقتة لمناطق سيطرة الإنقاذ، وتولّي الأخيرة الملفّات السابقة رسميًا. تزامن خروج الحكومة التابعة للائتلاف مع تزايد ضغط الإنقاذ على المجالس المحلّية للاعتراف بها وقطع العلاقات مع الحكومة الأولى، قبل أن تفرض ذلك أمرًا واقعًا بقوّة سلاح الهيئة.

سيطرة الهيئة عسكريًا على المنطقة قابلتها سيطرة كلّية لحكومة الإنقاذ أيضًا. ومع تولّيها لكلّ الملّفات الإدارية والخدمية، أصدرت قرارًا يمنع المجالس المحلّية من التنسيق مع أي منظمة إنسانية أو إغاثية دون العودة إليها، على أن يكون التعامل مع جهات استخباراتية أجنبية تهمة من يرفض تنفيذ القرار. وأكّد عدد من الناشطين أنّ الهدف من القرار هو الهيمنة على تلك المنظّمات واقتطاع جزء من الدعم الذي تقدّمه لتمويل المؤسّسة العسكرية للهيئة، لا الحكومة نفسها. ومن المجالس المحلية والمنظمات الإغاثية، انتقل سعي "حكومة الجولاني" للهيمنة على المؤسّسات التعليمية، وأهمّها جامعة حلب الحرّة التي مًنع طلّابها من دخولها، ما دفع الجامعة لإغلاق مكاتبها في إدلب ونقلها إلى خارج نطاق نفوذ الإنقاذ.

تزامن منع الطلّاب من دخول الجامعة مع إصدار وزارة التعليم العالي في حكومة الإنقاذ قرارًا يقضي بضمّ المعاهد والكلّيات التابعة للجامعة، وإحالة أعضاء الهيئة التعليمية إلى مجالس تأديبية. قوبل القرار برفض وزارة التعليم العالي في الحكومة المؤقّتة التي ردّت بنقل كافّة كليّاتها إلى مدن ومارع وأعزاز في ريف حلب الشمالي بعد سيطرة الهيئة/الإنقاذ على ريف حلب الغربي. الأمر الذي دفع طلّاب الجامعة للاحتجاج رفضًا لتدخّل الحكومة الجديدة في الشؤون التعليمية. ولأجل احتواء الأزمة، توجّه وفد من الحكومة للقاء الطلّاب الذين أكّدوا رفضهم للبقاء في جامعةٍ تتّبع لهم، مهدّدين بالانسحاب والالتحاق بكلّيات جامعة حلب الحرّة. ردّ أحد أعضاء الوفد بالقول إنّ الحكومة جهّزت لهم أربعة باصات خضراء لنقلهم إلى مناطق نفوذ الحكومة المؤقّتة، في إشارة صريحة وواضحة لعمليات تهجير نظام الأسد لآلاف المدنيين من مناطقهم.

حكومة للإنقاذ أم لجباية الأموال؟

بعد نجاحها بالهيمنة على المؤسّسات التعليمية التابعة للحكومة المؤقّتة، أصدرت حكومة "الإنقاذ" قرارًا بإيقاف عمل ونشاط الجامعات الخاصّة، بحجّة أنّها غير مرخّصة، ولا تضمّ كادرًا تعليميًا ومعدّات تعليمية تؤهّلها للعمل. وهو ما نفته عدّة جامعات مؤكّدة استيفائها للشروط المطلوبة، وأنّ القرار ليس إلّا حلقة جديدة من حلقات سياسة جباية الأموال التي تتبعها هيئة تحرير الشام عبر واجهتها المدنية، أي الحكومة. إذ إنّ عملية الترخيص تكلّف مبلغًا ماليًا يُقدّر بـ 75 ألف دولار أمريكيّ.

لم يتوقّف الأمر عند المؤسّسات التعليمية، وإنّما انتقلت نحو الحياة اليومية، إذ منعت الحكومة سيارات النقل العام من العمل باعتبارها غير مسجّلة في مديرية المرور التابعة لها. وهو ما اعتبره الناس محاولة جديدة لجمع المال، ولكن من جيوب أهل المنطقة هذه المرّة. وطال هذا القرار السيارات التابعة أيضًا للمنظّمات الإنسانية والإغاثية. تلاه قرار بمصادرة أملاك المسيحيين الغائبين في مدينة إدلب. ما دفع الناس للتساؤل عن مصير الأموال التي حصّلتها "الإنقاذ" بعد أن فرضت مؤسّساتها بالدماء والسلاح لتكون منفردةً في المسؤولية عن الممتلكات والمنشآت العامّة والتحصيل الضريبي والمعابر، منها معبر مدينة مورك، والذي افتُتح بديلًا عن معبر قلعة المضيق الذي كان خاضعًا لسيطرة حركة أحرار الشام. ومعبر العيس في ريف حلب الجنوبي، والذي أكّدت مصادر عدّة أنّ قسمًا من عائداته يذهب للأمور العسكرية للهيئة، بينما يظلّ القسم الآخر للحكومة. وهذا عدا عن معبر باب الهوى مع تركيا.

ما الذي أنقذته حكومة الإنقاذ في الشمال المحرّر؟

سقوط الجبهة الوطنية للتحرير (تحالف فصائل الجيش السوري الحر) أمام هيئة تحرير الشام ومن معها من فصائل وتنظيمات سلفية جهادية متشدّدة، واستحواذ الأخيرة على المنطقة ووراثة حكومتها المزعومة لتركة الحكومة المؤقتة، والتابعة للائتلاف والمعترف بها من قبل غالبية الدول المعارضة لنظام لبشار الأسد؛ عاد بالضرّر على المنطقة بأكملها، والسبب تصنيف دول العالم لـ "هيئة تحرير الشام" على أنّها منظّمة إرهابية وعلى ارتباط بالقاعدة؛ بمعنى أنّ مؤسّساتها المدنية والخدمية تدخل بلا شكّ ضمن هذا التصنيف أيضًا، بما في ذلك "حكومة الإنقاذ". وعدا عن أنّ سيطرة الهيئة وذراعها السياسي والمدني على المنطقة أعطى روسيا ذريعة لقصفها وشنّ الحملات العسكرية المتتالية عليها، نتج عن سيطرتها أيضًا توقف عدد كبير جدًا من المنظّمات والجهات المانحة عن دعم المنشآت الصحية والخدمية وكذا الأمنية في محافظة إدلب. منها "منظمة الوكالة الألمانية للتعاون الدولي" التي أوقفت دعمها عن أكثر من 47 منشأة صحّية تابعة لمديرية صحة إدلب خشية أن تصل أموالها إلى يد الجولاني وتنظيمه، الأمر الذي انعكس سلبًا على حال المدنيين والمهجّرين في الشمال المحرّر على حدٍّ سواء.

وتزامنًا مع إعلان عددٍ كبير من الدول والجهات المانحة وقف تمويلها لمشاريع تعليمية وخدمية وإغاثية وأمنية في جميع المدن والمناطق الخاضعة لسيطرة هيئة تحرير الشام وحكومة الإنقاذ، كانت الأخيرة مستمرّة في عملية التضييق على عمل المنظمّات الإغاثية المعنية بمخيمات المهجّرين قسريًا من مختلف المدن السورية، ما دفع هذه المنظّمات أيضًا إلى وقف دعمها للمخيمات المنتشرة بشكلٍ كبير في الشمال، وهو ما أدى إلى حرمان القاطنين فيها من عشرات السلل الغذائية شهريًا.

مع بدء ميليشيات الأسد وحلفائها الروس حملة عسكرية واسعة على ريفي إدلب وحماة، شهدت المناطق المستهدفة موجة نزوح ضخمة باتّجاه المدن والبلدات القريبة من الحدود التركية، إذ بلغ عدد النازحين أكثر من مليون وخلال أربعة أشهر فقط سوّيت فيها مدن بأكملها بالأرض. عوّل البعض على تدخّل حكومة الإنقاذ لا لوقف هجمات الروس والأسد وإنّما لتلبية احتياجات النازحين وتأمين مأوىً بديل عن الأراضي الزراعية وأشجار الزيتون، إلّا إنّ الحكومة لم تظهر، الأمر الذي أثار حفيظة المجتمعات المحلّية التي اعتبرت أنّ الحكومة تغيب عند كلّ استحقاق حقيقي، ووقت حاجة الناس إليها، إذ اقتصرت أمور الإيواء واستقبال النازحين على المنظّمات العاملة في المجالات الإغاثية، دون ظهور لـ "إدارة شؤون المهجرين" التابعة للحكومة. وبالتالي، ليس لحكومة الإنقاذ من اسمها نصيب إطلاقًا. فتسمية كهذه تطلق عادةً على الحكومات التي تشكّل بهدف التعامل مع الأزمات السياسية أو الاقتصادية، لا لتكون حكومة جباية أموال وتلميع فصائل عسكرية دون غيرها.

اقرأ/ي أيضًا: مصير نقاط المراقبة التركية.. هل يكشف صراعًا بين أنقرة وموسكو؟

وبالإضافة إلى كلّ ما سبق، اتّبعت حكومة أبو محمد الجولاني ومن خلفها هيئة تحرير الشام سياسة النظام السوري في إبعاد معارضيها عن مناطقها. إذ تُصدر الحكومة بين وقتٍ وآخر مذكّرات تحذير لمقاتلين وناشطين وإعلاميين تفيد بأنّ عليهم مغادرة إدلب والتوجّه نحو مناطق غصن الزيتون ودرع الفرات. وسبق وأن أصدرت الحكومة مذكّرات مشابهة بحقّ المسؤولين عن جامعة حلب الحرة، علي راجو الحلو، وعبد الله راجي الحلو، ومعهم قائد شرطة مدينة دارة عزة، وعدد من مقاتلي أحرار الشام بعد حلّ الحركة لنفسها في منطقة سهل الغاب.

 اتّبعت حكومة أبو محمد الجولاني ومن خلفها هيئة تحرير الشام سياسة النظام السوري في إبعاد معارضيها عن مناطقها، إذ تُصدر الحكومة بين وقتٍ وآخر مذكّرات تحذير لمقاتلين وناشطين وإعلاميين تفيد بأنّ عليهم مغادرة إدلب

أمّا إنجازات حكومة الإنقاذ، فلعلّ أهمّها هو قرار هيئتها التأسيسية اعتماد علم معدّل عن علم الثورة السورية ليكون راية موحّدة للمناطق المحرّرة، مؤلّفة من أربعة ألوان، الأخضر في الأعلى، واللون الأبيض في الوسط، وفي الأسفل العلم الأسود. وتكتب وسط اللون الأبيض عبارة "لا إله إلّا الله، محمد رسول الله". وهو ما اعتبره عدد من الناشطين استكمالًا لمشروع جبهة النصرة منذ نشأتها في الحرب على الثورة السورية، وتشويه كلّ رموز الثورة وصورتها، بما فيها العلم التي تحاول اليوم تشويهه وفرض راية هجينة بدلًا منه. يُضاف إلى ما سبق فشل الحكومة في معالجة عدد من الملّفات، أهمّها الانفلات الأمني الذي تعيشه المنطقة، وكذا حالات الخطف والفدية وفشلها في تحسين الوضع المعيشي للمدنيين رغم ما تجنيه من موارد ضخمة بفعل الضرائب والسيطرة على المعابر الحدودية.

 

اقرأ/ي أيضًا:

 مصير نقاط المراقبة التركية.. هل يكشف صراعًا بين أنقرة وموسكو؟