في قلب المأساة الإنسانية في غزة، برز اسم الصحفي الفلسطيني وائل الدحدوح، ليس فقط كإعلامي بارز يغطي الأحداث الدامية في قطاع غزة، بل كرمز للصمود أمام استهداف الصحفيين الفلسطينيين بشكل ممنهج. في حرب كانت الأكثر دموية على الصحفيين،
تشير مجلة "دير شبيغل"، في تحقيقها أن الدحدوح كان أحد أبرز الضحايا، حيث فقد نصف عائلته في غارة إسرائيلية، ومع ذلك، عاد إلى عمله على الفور، ليواصل نقل الحقيقة وسط الخراب والدمار.
إسرائيل تقتل الصحفيين عمدًا، لأنها تريد السيطرة على السرد الإعلامي ومنع العالم من رؤية الحقيقة
في ليلة 25 تشرين الأول/أكتوبر 2023، كان وائل الدحدوح، يقف فوق سطح مبنى في المدينة، ينقل تطورات الأحداث على الهواء مباشرة، عندما دوَّت صفارات الإنذار في الخلفية.
في الاستوديو في الدوحة، طلب المذيع من الدحدوح تحليله لاستراتيجية إسرائيل العسكرية، لكن وائل ظل صامتًا لعدة ثوانٍ، قبل أن يُسمع صوتٌ في الخلفية يقول: "الفتاة في المستشفى".
بعد لحظات، اختفى وائل الدحدوح عن الشاشة، لكن العالم كان على وشك أن يشاهده في مشهد آخر أكثر مأساوية.
وصل الدحدوح إلى مستشفى الأقصى ليجد جثث عائلته، زوجته آمنة، ابنه محمود، البالغ من العمر 16 عامًا، ابنته شام، البالغة من العمر 7 أعوام، وحفيده آدم، البالغ من العمر 18 شهرًا، بعد أن دمر قصفٌ إسرائيلي المنزل الذي نزحوا إليه في مخيم النصيرات.
ينتمي وائل الدحدوح وزملاؤه إلى صحافة إنسانية وفاعلة وكان سينضمّ إليه ابنه لو كتبت له الحياة، إلى هذا النموذج الصحفي الملحميّ، الذي تكون فيه الصحافة سلاحًا لحماية حقيقة عزيزة جدًا تمسّ مصير الصحفي وأقرب الناس إليه.
اقرأ مقال @mszeidan عبر ألترا صوت: https://t.co/RRMEW229be pic.twitter.com/iZIz4n1yzZ
— Ultra Sawt ألترا صوت (@UltraSawt) October 27, 2023
وقف الدحدوح وسط الحشود، احتضن جسد حفيده الرضيع، ثم توجه إلى جثة ابنه محمود، وضع يده على وجهه الملطخ بالدماء وقال بصوت مرتجف: "إنهم ينتقمون من أطفالنا.. لكن لا بأس، إن لله وإنا إليه راجعون".
من الجنازة إلى الكاميرا.. الصحفي الذي لا يمكن إسقاطه
بعد أقل من 24 ساعة على فقدانه لعائلته، عاد الدحدوح إلى الشاشة، واقفًا على سطح مكتب الجزيرة، مرتديًا سترته الواقية وخوذته، في مشهد غير مسبوق يعكس عزيمته التي لا تُكسر.
قال بصوت ثابت: "أشكر كل من تضامن معي، وأقدر دعواتكم.. لكني أرى أنه من واجبي أن أعود للعمل أمام الكاميرا، رغم الألم والجراح". مؤكدًا أن مهمته لم تنتهِ، وأنه سيواصل توثيق الجرائم في غزة. رسالته كانت واضحة: "لن نسقط، سنواصل توثيق هذه الحرب".
لم يكن المشاهدون فقط من تأثروا بقوة موقفه، بل حتى زملاؤه في الإعلام العربي والدولي أشادوا بما أظهره من صلابة أسطورية في مواجهة الفقدان والمأساة. أصبح الدحدوح يُلقب بـ"جبل غزة"، تعبيرًا عن صلابته وصبره الذي لا ينكسر.
كتب أحد الصحفيين العرب: "وائل صبور لدرجة أن الصبر نفسه قد استنفد أمامه". لكن هذه لم تكن نهاية الألم بالنسبة له.
"خرج الصحفي #وائل_الدحدوح من #غزة بعد معاناةٍ وفقدان، من أجل علاج يده المصابة. ومع أنّ هدف الخروج واضح ومعلن، تكاثرت الأقاويل وتناقضت من الاتهام والتشكيك إلى التعاطف والتضامن".
اقرأ مقال @raedwahash:https://t.co/bBq2VSf8aN pic.twitter.com/0YPuvXCiZ4
— Ultra Sawt ألترا صوت (@UltraSawt) January 18, 2024
حرب على الصحفيين.. استشهاد ابنه الثاني حمزة
لم يكن الدحدوح يدرك أن حرب الاحتلال ضده لم تنتهِ. بعد شهرين من فقدان زوجته وأطفاله، تعرض وائل الدحدوح لضربة أخرى قاسية. في 7 كانون الثاني/يناير 2024، كان ابنه حمزة، البالغ من العمر 27 عامًا ويعمل مراسلًا لقناة الجزيرة، في مهمة تغطية برفح في جنوب القطاع، حين استهدفته طائرة إسرائيلية مسيّرة أثناء عودته من التصوير.
زعم جيش الاحتلال الإسرائيلي أن حمزة يتحكم بطائرة مسيّرة شكلت تهديدًا للجنود الإسرائيليين، لكن تحقيقًا استقصائيًا أجرته كل من مجلة "دير شبيغل" وصحيفة "واشنطن بوست" ومجموعة "Forbidden Stories"، أظهر أن الجيش الإسرائيلي تعمد استهداف الصحفيين. الطائرة التي زُعم أن حمزة كان يتحكم بها كانت على الأرض قبل 15 دقيقة من الغارة. ولم يكن تستخدم لتصوير مواقع إسرائيلية، بل كانت تصور ما يجري على الأرض.
كان الهدف الوحيد من عملية القتل هو إسكات صوت صحفي آخر يكشف الجرائم التي ترتكب في قطاع غزة.
مرة أخرى، شاهد العالم وائل الدحدوح يودّع أحد أبنائه في المستشفى، بينما كانت ابنته الصغيرة تقول له: "بابا، لم يبقَ لنا أحدٌ سواك".
عداء إسرائيل للإعلام الفلسطيني
وفقًا لمنظمة مراسلون بلا حدود، قُتل أكثر من 150 صحفيًا فلسطينيًا منذ بداية الحرب، مما يجعل العدوان على غزة أكثر الحروب دمويةً ضد الصحفيين في العصر الحديث.
علق وائل الدحدوح على هذه السياسة في المقابلة مع "دير شبيغل"، قائلًا: "عملنا كصحفيين هو التحدث إلى الجميع. لا نعمل في فراغ. نحن نغطي الأحداث من غزة، حيث تسيطر حماس، ومن الطبيعي أن نقابل مسؤوليها كما يفعل أي صحفي أجنبي. الهدف الحقيقي لهذه الادعاءات هو تبرير استهدافنا وقتلنا، وأضاف: "إسرائيل تقتل الصحفيين عمدًا، لأنها تريد السيطرة على السرد الإعلامي ومنع العالم من رؤية الحقيقة".
استشهاد الصحفي #حمزة_الدحدوح، نجل #وائل_الدحدوح مراسل الجزيرة، لينضم إلى شقيقه وشقيقته ووالدته. pic.twitter.com/QH4FqVGea8
— Ultra Sawt ألترا صوت (@UltraSawt) January 7, 2024
"الإعلام الحر مستهدف.. لكننا سنواصل"
بالنسبة لوائل الدحدوح، فإن العمل الصحفي في غزة ليس مجرد مهنة، بل واجب وطني وإنساني. وعلى الرغم من الضغوط، يؤكد أن الصحفيين الفلسطينيين هم المصدر الرئيسي لنقل الحقيقة، في ظل منع إسرائيل للصحفيين الأجانب من دخول القطاع منذ اندلاع الحرب في 7 أكتوبر 2023.
تكشف المجلة الألمانية أنه، لدعم المعلومات التي تم جمعها من الميدان، قامت بمقارنة البيانات من ثلاث منظمات مختلفة معنية بحرية الصحافة: لجنة حماية الصحفيين، والمراسلون العرب للصحافة الاستقصائية (ARIJ)، ونقابة الصحفيين الفلسطينيين (PJS)، كما قامت بمراجعة حالات التدمير الكلي أو الجزئي للمباني والمكاتب التي تم توثيقها بوضوح على أنها جزء من البنية التحتية للصحافة.
ووفقًا للإحصائيات، فقد قُتل ما لا يقل عن 40 صحفيًا وعاملًا إعلاميًا فلسطينيًا أثناء وجودهم في منازلهم، كما لقي 40 صحفيًا وإعلاميًا آخرون مصرعهم أثناء عملهم في وسائل إعلام تصفها إسرائيل بأنها تابعة لحماس.
وتم تحديد مقتل ما لا يقل عن 18 صحفيًا يُعتقد أنهم استُهدفوا بواسطة طائرات مسيّرة، بالإضافة إلى ستة مبانٍ إعلامية دُمّرت جزئيًا أو كليًا. كما توصل التحليل إلى أن ما لا يقل عن 14 صحفيًا كانوا يرتدون سترات صحفية في اللحظة التي قُتلوا فيها، أُصيبوا، أو استُهدفوا بشكل مباشر.
لا مبالاة غربية
في مقابلته مع "دير شبيغل"، انتقد الدحدوح ازدواجية المعايير الغربية في التعامل مع الصحفيين الفلسطينيين، قائلًا: "العالم ينظر إلينا على أننا مجرد أرقام، لا كصحفيين يحملون رسالة. نحن نوثق جرائم الحرب، ولهذا يُراد لنا أن نصمت".
قضى وائل الدحدوح أربعة أشهر في تلقي العلاج في برلين. يقول إنه وجد صعوبة في التحدث بصراحة في بلد اتخذ موقفًا واضحًا جدًا في هذه الحرب.
ويضيف: "ألمانيا عمياء ترى بعين واحدة، وأصمّة تسمع بأذن واحدة. لقد أكدت هذه الحرب حقائق مؤلمة: كثير من الناس هنا غير مكترثين بمعاناة شعبنا. أين التضامن مع الصحفيين؟ مع زملائي؟ إن عدم مبالاة الكثيرين تقتلنا نحن الفلسطينيين تمامًا كما تفعل صواريخ إسرائيل".
ومع ذلك، لا يزال مصممًا على الحديث إلى وسيلة إعلامية ألمانية، قائلاً: "أنا شاهد حي. إذا لم يستمع إليّ الناس، فلمن سيسمعون؟"، تقول "دير شبيغل".
#وائل_الدحدوح مع ابنته في وداع جثمان نجله الصحفي حمزة، الذي ارتقى برفقة الشهيد الصحفي #مصطفى_ثريا اليوم. pic.twitter.com/xwqwm307YF
— Ultra Sawt ألترا صوت (@UltraSawt) January 7, 2024
الرضا
رغم فقدانه لأحبته، يرفض الدحدوح الاستسلام للحزن. عندما سئل عن سر صموده، أجاب بكلمة واحدة: "الرضا"، وهو مفهوم إسلامي يشير إلى التسليم بقضاء الله والصبر على المصائب.
ويوضح لمحاورته: "الغرب قد لا يفهم ديني، لكنه يساعدني على التحمل وعدم الجنون من كل هذا الألم. الإسلام الذي أؤمن به هو دين الأمل، دين الحب، نحن بشر نحب الحياة، نحب الضحك، نحب أطفالنا. عندما كان يصاب أحد أبنائي بالحمى، كنت أسهر الليل قلقًا عليه. احتفلنا بزفاف ابني حمزة لأيام، واليوم أفتقده".
من السجن إلى الصحافة
لم يكن الصحفي الفلسطيني يتخيل يومًا أن يُصبح شاهدًا على مقتل أبنائه. في صغره، كان يحلم بأن يصبح طبيبًا، وحصل بالفعل على منحة لدراسة الطب في العراق، لكنه اعتُقل في السجون الإسرائيلية خلال الانتفاضة الأولى عام 1987، وأمضى سبع سنوات خلف القضبان قبل أن يتجه لدراسة الصحافة في غزة.
يقول الدحدوح: "في العمر الذي يصبح فيه الصبي رجلًا، كنت وحيدًا في السجن. كنت طفلًا يحاول النجاة". اليوم، يحمل ابنه الأصغر يحيى، الذي يبلغ 13 عامًا، ملامح والده. يجلس بجواره في منزله في الدوحة ويسأله بصوت واثق: "بابا، أنا أشبهك أكثر من أي شخص آخر، صحيح؟".
يبتسم وائل ويمسح على شعره الأسود، الذي عاد للنمو بعد الإصابة الخطيرة التي تعرض لها ليلة 25 تشرين الأول/أكتوبر 2023.
أكد رئيس اتحاد الصحفيين الفلسطينيين في حديث لوكالة #الأناضول، أنّ الجيش الإسرائيلي يستهدف الصحفيين "عمدًا" لمنع توثيقهم للانتهاكات التي يقوم بها.
تابع التفاصيل: https://t.co/c5jacAEdhj pic.twitter.com/sLHUI6uiIl
— Ultra Sawt ألترا صوت (@UltraSawt) January 10, 2024
الإقامة في الدوحة.. والحنين إلى غزة
بعد إصابته في غارة إسرائيلية على مدينة خانيونس في كانون الثاني/ديسمبر 2023، نُقل الدحدوح لتلقي العلاج في برلين، قبل أن يستقر في العاصمة القطرية الدوحة.
يعيش اليوم في منزل مع ما تبقى من أسرته، حيث يحيط به أبناؤه الخمسة: بيسان، وسندس، وخلود، وبتول، ويحيى.
في منزله، تحتل لوحة رسمها أحد الفلسطينيين في قطر مكانًا بارزًا، تُظهر طفلًا يحتضنه مع كلمة "معلش"، الكلمة التي تمتم بها عند فقدان أسرته في تشرين الأول/أكتوبر 2023.
وعندما وصله خبر اتفاق وقف إطلاق النار في منتصف كانون الثاني/يناير الماضي، لم يتمالك نفسه وبكى، يقول: "أرى التقارير التي يرسلها زملائي. لقد وثّقنا المجازر معًا، عانينا الجوع والبرد معًا، والآن أنا بعيد جدًا. إنه أمر صعب. أقاربي مشتتون في جميع أنحاء قطاع غزة. لا أستطيع الوصول إليهم، تمامًا كما لا يمكنني الوصول إلى المقابر الجماعية التي تضم أحبائي".
ما بعد المأساة.. هل يعود الدحدوح إلى غزة؟
لا يزال وائل الدحدوح يخضع للعلاج من الإصابة التي تعرض لها، ورغم أمانه النسبي، إلا أنه يعاني من الكوابيس وقلة النوم، ويكشف للمجلة الألمانية أنه يرفض تناول أدوية النوم حتى لا يعتمد عليها.
لكن قلبه لا يزال في غزة. عندما سُئل إن كان سيعود إلى هناك، أجاب دون تردد: "بالطبع.. غزة جزء مني، وسأعود إليها يومًا ما. لكن أولًا، عليّ أن أتعافى مع عائلتي".
"في الوقت الذي ينتظر فيه الفلسطينيون هدنة دائمة، يبقى وائل الدحدوح شاهدًا حيًا على معاناة شعبه، وصوتًا لا يمكن إسكاتُه رغم كل المحاولات"، تختم "دير شبيغل" تقريرها.