18-يناير-2023
مقاتلون في هيئة تحرير الشام

لم تعد الهيئة تقدّم نفسها بوصفها فصيلًا عسكريًا أو تنظيمًا جهاديًا وإنما "دولة" لها حكومتها ومؤسساتها (Getty)

لم يكن هجوم "هيئة تحرير الشام" (جبهة النصرة سابقًا) الأخير على منطقتي "درع الفرات" و"غصن الزيتون" الخاضعتين لسيطرة فصائل "الجيش الوطني" المدعوم تركيًا، مشهدًا غريبًا على ذاكرة السوريين الذين اعتادوا على بغيها. و"البغي" هو الكلمة المفتاح في تجربة هذا التنظيم متعدد الأسماء والانتماءات، متقلب الهوى والمزاج. فعليه بنى زعيمه الجولاني دويلته، ومن خلاله فرض نفسه حاكمًا بأمره في مناطق أخضعها لسيطرته بعد بغيه على فصائلها.

تقدّم الهيئة نفسها بوصفها "دولة" لها حكومتها ومؤسساتها التي تزعم أنها قادرة على معالجة الملفات التي فشلت الحكومة المؤقتة في معالجتها

ومع ذلك، ورغم اعتياد السوريين على بغيها وتوقعهم له أيضًا، إلا أنه ثمة ما يلفت الانتباه في الهجوم الأخير للهيئة، خاصةً أنها اقتحمت منطقة "غصن الزيتون" (عفرين وريفها) لمساندة فرقتي "الحمزة" و"السلطان سليمان شاه" في مواجهة "الفيلق الثالث" (الجبهة الشامية وجيش الإسلام). والمفارقة هنا ليست في أن هذه الفصائل تنضوي تحت لواء "الجيش الوطني"، وإنما في أن هاتين الفرقتين من أكثر فصائل المعارضة مهاجمةً للهيئة التي وصفتهما أذرعها الإعلامية، بدورها، بأنهما فصائل خمر ودعارة وفساد.

أول ما تجدر ملاحظته هو ادعاء أنصار الهيئة وأذرعها الإعلامية بأن الغاية من اقتحام المنطقة وقتال "الفيلق الثالث" هي إنهاء حالة الفوضى – وسببها اقتتال الفصائل – وفرض الاستقرار فيها. وبغض النظر عن أن الغاية الأساس هي توسعة نفوذها والوصول إلى المعابر ذات العوائد المالية الضخمة، ومساندة فرقتي "الحمزة" و"السلطان سليمان شاه" (المعروفتين بفسادهما المالي والأخلاقي وتورطهما في اغتيال الناشط محمد أبو غنوم الذي فجّر الاقتتال بينهما وبين "الفيلق الثالث") بوصفهما بوابة الجولاني لدخول المنطقة؛ لا يبدو هذا الادعاء إلا جزءًا من خطاب الهيئة الموجّه إلى الأتراك، ومفاده أنها وحدها القادرة على إنهاء حالة الاقتتال الفصائلي وفرض الأمن والاستقرار في مناطق نفوذهم.

لذلك تريد فرض نفسها بديلًا عن فصائل الجيش الوطني غير المتحالفة معها، والحكومة المؤقتة – التابعة للائتلاف – التي توظِّف الهيئة فشلها في توحيد قرار الفصائل، وإنهاء خلافاتها، والتعامل مع تجاوزات بعضها، وتنفيذ الأحكام القضائية الصادرة بحق قيادات بعضها، لتقديم نفسها بديلًا قادرًا على التعامل مع هذه الملفات. والمفارقة أن القيادات التي فشلت الحكومة المؤقتة في تنفيذ الأحكام الصادرة بحقهم، هم قادة "فرقة السلطان سليمان شاه".

وبصرف النظر عن موقف الأتراك الذين أجبروها على سحب قواتها من عفرين وعموم منطقة "غصن الزيتون"، استطاعت الهيئة تأمين موطئ قدم لنفسها في المنطقة، سواءً من خلال فصائل الجيش الوطني المتحالفة معها، أو عبر ما تبقى من قواتها التي تخفيها بملابس حلفائها ومقراتهم التي يمكن اعتبارها قواعد عسكرية خفية تنطلق منها لمهاجمة فصائل الجيش الوطني المعارضة لها متى ما أرادت فرض نفسها أمرًا واقعًا، على غرار تجربة إدلب، أو تستخدمها لزعزعة استقرار المنطقة بما يخدم مصالحها ويعزز موقفها لدى الأتراك.

ورغم فشلها في هزيمة "الفليق الثالث" ودخول منطقة "درع الفرات"، إلا أنها حققت مكاسب عديدة تساعدها، في حال حفاظها عليها وعلى وجودها في مدينة عفرين وريفها، على قضم المنطقة تدريجيًا وتكرار تجربة محافظة إدلب التي فرضت سيطرتها عليها بالتدريج، وتقدّمها اليوم بوصفها نموذجًا لقدرتها في الإدارة والتنظيم وحفظ الأمن وفرض الاستقرار، ولكن لا بوصفها فصيلًا عسكريًا أو تنظيمًا جهاديًا، وإنما "دولة" لها حكومتها ومؤسساتها المدنية والعسكرية والأمنية التي تزعم أنها قادرة على معالجة الملفات التي فشلت الحكومة المؤقتة في معالجتها.

الأهم مما سبق أنها نجحت في اختراق الجيش الوطني، واستخدامه غطاءً لوجودها في منطقة "غصن الزيتون"، عبر تحالفها مع فرقتي "الحمزة" و"السلطان سليمان شاه". كما أحدثت شرخًا واسعًا بين فصائله المتناحرة في الأصل، والمنقسمة إلى فئة متحالفة معها، وأخرى معارضة خاضت ضدها معارك شرسة، مقابل فئة ثالثة تقف على الحياد.

بنى الجولاني "دويلته" على البغي الذي فرض نفسه من خلاله حاكمًا بأمره في مناطق أخضعها لسيطرته بعد بغيه على فصائلها

 

لم يعد الصراع في هاتين المنطقتين صراعًا بين فصائل متناحرة تتقاتل على النفوذ وموارد المعابر، وإنما بين مشروعين، واحد تمثّله وتدافع عن وجوده بعض فصائل الجيش الوطني التي تمثل بقايا المعارضة التي حملت تطلعات لتغيير النظام، وثانٍ هو مشروع "هيئة تحرير الشام" وحلفائها الجدد، الذين يحاولون إدارة الأزمة الحالية لتعزيز نفوذهم ومكاسبهم. 

صحيح أن هذا الصراع قديم، لكن الجديد فيه أن هذه المناطق، إلى جانب منطقة "نبع السلام"، هي آخر مناطق سيطرة المعارضة المسلحة، وأن سيطرة الهيئة عليها إن لم تؤد إلى طرد الحكومة المؤقتة منها، وبالتالي اقتصار تمثيل المعارضة الخارجية على منطقة "نبع السلام"، فقد تدفع باتجاه دمج الحكومة المؤقتة في حكومة الإنقاذ التابعة للهيئة، وتذويب فصائل الجيش الوطني في مؤسساتها، وطرد من يرفض إلى "نبع السلام" التي لا تملك حدودًا مشتركة مع "درع الفرات" و"غصن الزيتون".