15-أبريل-2020

مرت هيئة تحرير الشام بتحولات عديدة (Getty)

أكملت "هيئة تحرير الشام" نهاية كانون الثاني/يناير الفائت ثلاث سنواتٍ من عمرها. الفصيل الذي شكّلته "جبهة فتح الشام" (النصرة) برفقة عددٍ من الفصائل والتنظيمات التي انشقّت غالبيتها عنها فيما بعد؛ طوى عامًا آخر كان حافلًا بالتحوّلات التي صعدت به كفصيلٍ مُسيطر على منطقة خفض التصعيد الأخيرة، التي تشملُ محافظة إدلب وريفي حلب الجنوبيّ والغربي وريف حماة الشمالي. كما كان حافلًا أيضًا بالاضطرابات الداخلية والانشقاقات الفردية والجماعية التي عصفت به، بالإضافة إلى العمل الدؤوب للتحوّل من مجرّد فصيل عسكريّ إلى شبكة مؤسّسات خدماتية واقتصادية تحتكر كلّ شيء تقريبًا في مناطق سيطرته، متوسّلًا ذراعه المدنيّ "حكومة الإنقاذ" لتحقيق غايته.

الفصيل الذي شكّلته "جبهة فتح الشام" (النصرة) برفقة عددٍ من الفصائل والتنظيمات التي انشقّت غالبيتها عنها فيما بعد؛ طوى عامًا آخر كان حافلًا بالتحوّلات

تأسيس الهيئة جاء تماشيًا مع طبيعة التحوّلات التي انتهجها أبو محمد الجولاني الذي يسعى إلى اثبات اعتدال تنظيمه وشطبه من لوائح الإرهاب العالمية، وهو ما لم يتقبّله التيّار المتشدّد والمحسوب على القاعدة كونه يعني الافتراق عنها والابتعاد عن منهجها ونكث الجولاني ببيعته لأميرها أيمن الظواهري سنة 2014، الأمر الذي دفع بعددٍ من القياديين البارزين للانشقاق عن الهيئة برفقة مجموعاتٍ صغيرة من المقاتلين ليشكّلوا فيما بعد جماعة "حرّاس الدين"، التي تعرّف نفسها بأنّها الفرع السوريّ للقاعدة.

اقرأ/ي أيضًا: مقاتلو تنظيم الدولة وعائلاتهم في سوريا.. تهديد وورقة ضغط

عملية انشقاق التيّار المحسوب على القاعدة داخل الهيئة، فتحت الباب لعمليات انشقاق أخرى فردية، كان أبرزها انشقاق الشرعيين المصريين أبو اليقظان (محمد ناجي) وأبو شعيب (طلحة الميسر)، بالإضافة إلى انشقاق المرجع الشرعي للهيئة أبو عبد الله الشامي (عبد الرحيم عطون)، وقائد لواء "مجاهدو أشدّاء" عبد المعين محمد كحّال (أبو العبد أشدّاء). وخلال الأيام الماضية، أعلن رئيس مجلس الشورى العام في إدلب، والذي يعتبر الجهة التشريعية الرسمية لحكومة الإنقاذ، بسام صهيوني عن استقالته من منصبه. وتبعه بعد ساعات قليلة استقالة عضو مجلس الشورى في الهيئة جمال زينية (أبو مالك التلّي).

المعلومات التي انتشرت عقب استقالة صهيوني ذكرت أنّ السبب الرئيسيّ لمغادرة الأخير صفوف الهيئة هو تهميشه وإعطائه منصبًا رمزيًا دون صلاحياتٍ تمكّنه من تقرير سياسات حكومة الإنقاذ، بعيدًا عن قيادة الهيئة. بينما أفادت المعلومات نفسها بأنّ استقالة جمال زينية كانت للسبب نفسه، أي تهميشه وإبعاده عن دوائر صنع القرار.

وبحسب المعطيات الميدانية، قد تمهّد استقالة الأخير لانشقاقات ضخمة داخل صفوف الهيئة كونه يمتلك عددًا كبيرًا من المناصرين، الأمر الذي دفع الجولاني إلى لقائه وحثّه على العودة عن الاستقالة بهدف منع حدوث انشقاقات جماعية قد تكون الأكبر والأكثر تأثيرًا على وحدة وتماسك تنظيمه، مقابل امتيازات مالية ودور أكثر فعّالية منحه الجولاني لأبو مالك الذي أشارت الأخبار المتداولة حول استقالته عن استيائه من جهله بتوجّهات الهيئة، ورغبته بمعرفة التحوّلات المفترضة الحاصلة داخلها.

الهيئة وحرّاس الدين.. صراع مستعر حول تمثيل التيّار الجهادي

استقالة أبو مالك التلّي كثّفت من دعوات الاستقطاب وجذب المقاتلين بين هيئة تحرير الشام وحرّاس الدين، وذلك في الوقت الذي تشهد فيه العلاقة بين الطرفين توتّرات غير مسبوقة، تنذرُ بحرب وشيكة الحدوث بينهما.

فالحرّاس حاولوا استمالة أبو مالك الذي يعدّ واحدًا من القيادات التقليدية الأكثر تشدّدًا داخل الهيئة، عدا عن كونه أبرز المعارضين لسياسات وتحوّلات الجولاني البراغماتية ومواقفه من الإيجابية من التدخّل التركيّ، ممّا يجعله من حيث المواقف قريبًا من التنظيمات السلفية الجهادية المنافسة للهيئة، عدا عن أنّ وجوده داخلها يشكّل عائقًا يعرقل سياسات الجولاني الذي لا يبدو مستعدًّا في الوقت الحالي على الأقلّ للتفريط به كونه لن يُغادر الهيئة وحيدًا، وإنّما برفقة مئات المقاتلين الموالين له باتّجاه "حرّاس الدين".

وضعت استقالة أبو مالك التلّي تماسك هيئة الجولاني على حافّة التفكّك والانهيار، وصعدت مُجدّدًا بالخلافات الحادّة داخلها بين تيّارات موالية لتحوّلاته وافتراقه عن القاعدة، وأخرى معارضة لها ولتسهيلاته لعمل الجيش التركيّ في إدلب، الأمر الذي سوف يصبّ في مصلحة حرّاس الدين وبقية التنظيمات المنضوية في غرفة عمليات "وحرّض المؤمنين".

 تُنافس الغرفة التي تجمع (حرّاس الدين، أنصار التوحيد، أنصار الدين، أنصار الإسلام) الهيئة على تمثيل الجهاديين في إدلب وتُحاول استقطاب قيّادييها ومقاتليها، مُستغلّةً تصدّع علاقات الجولاني ببقيّة التنظيمات الجهادية التي أدركت أنّ وجودها بعد اتفاق وقف إطلاق النار الأخير بين الرئيس التركي رجب طيب أردوغان والروسي فلاديمير بوتين في السادس من أذار/ مارس الفائت، بات مُهدّدًا لا من قبل الأتراك والروس، وإنّما من قبل الجولاني الذي لن يتأخّر في محاربتها في سبيل إثبات اعتدال تنظيمه وافتراقه عن القاعدة.

العلاقة بين "تحرير الشام" والأتراك

بالإضافة إلى تحوّلات الجولاني البراغماتية والابتعاد عن نهج القاعدة وتبديل جلد تنظيمه خلال السنوات الماضية، تسعى التنظيمات الجهادية وعلى رأسها "وحرّض المؤمنين" إلى الاستفادة من علاقة الهيئة بالأتراك للمزايدة عليها ومُحاولة شقّ صفّها، في الوقت الذي تنتشر فيه معلومات عن نيّة الهيئة بدء مرحلةٍ جديدة من التحريض والتجييش ضدّ هذه التنظيمات بين مقاتليها، تمهيدًا لإعلان الحرب عليها واستئصالها.

الهيئة بدورها تُحاول الالتفاف والتصدّي لمزايدات "وحرّض المؤمنين" من خلال خطابات مضادّة تنشرها بين مقاتليها وداخل تشكيلاتها العسكرية ومؤسّساتها الشرعية، كما بيّن تسجيل صوتي مسرّب للقاضي الشرعي العسكري وعضو مجلس شورى "تحرير الشام" أبو الفتح الفرغلي، الذي تحدّث فيه عن علاقة الهيئة بالجيش التركيّ ومدى الاستفادة من تواجده العسكريّ أيضًا في المنطقة، ملمّحًا إلى مسألة صوابية تكفيره باعتباره جزءًا من مؤسّسة علمانية ترفض تحكيم الشريعة، وهو ما يتوافق مع خطابات القاعدة وأدبيات السلفية الجهادية أيضًا.

وكان الفرغلي قد أكّد في كلمته المسرّبة أنّ تعامل الهيئة مع الأتراك يأتي من باب جواز الاستعانة بالكافر على الكافر عند الضرورة، مؤكّدًا أنّه: "إذا يسر الله لنا وثبتنا في مناطقنا، واستعدنا المناطق التي خسرناها، فأسهل شيء هو أن يخرج الأتراك منها، وإذا لم يخرجوا سنعتبرهم قوة احتلال ونقاتلهم كما نقاتل أي قوة أخرى". وهو ما يتناقض مع بيانات قيادة الهيئة التي تشكر تركيا على مواقفها من القضية السوريّة، وتطلب منها مواصلة مساندتها ودعمها لصمود الشعب السوري.

وبينما يرى البعض أنّ الهدف من حديث أبو الفتح الفرغلي هو ضمان تماسك التيّارات داخل الهيئة، لا سيما الشرعيين والقياديين الأجانب أيضًا، ومُحاولة لامتصاص غضبها من خلال إيجاد مبرّرات شرعية للوجود التركيّ والتعامل معه، يرى البعض الآخر أنّ الهدف من تسريب التسجيل هو الضغط غير المباشر الذي يمارسه الجولاني وتنظيمه لتحقيق أكبر قدرٍ من المكاسب، والاستفادة من وقف إطلاق النار قدر الإمكان، وعلى كافّة الأصعدة، بالإضافة إلى التأكيد من جديد على أنّ الهيئة جزء أساسي من مستقبل إدلب.

في المقابل، هناك من يعتبر أنّ التيّار المتشدّد داخل "تحرير الشام" هو المسؤول عن تسريب التسجيل بهدف إحراج قيادة الهيئة. وذلك في الوقت الذي يرى فيه البعض الآخر أنّ تسريب حديث الفرغلي هو محاولة من قبل قيادة الهيئة نفسها لتوريطه والتخلّص منه بعد ذلك، تمامًا كما حدث لعددٍ من القياديين قبله، كأبو اليقظان المصريّ وغيره. 

العلاقة بين "هيئة تحرير الشام" وأنقرة مهّد لها الجولاني بحربه على حركة أحرار الشام الإسلامية وطردها من معبر باب الهوى في تموز/ يوليو 2017، مستبقًا دخول الأتراك إلى منطقة خفض التصعيد التي أقرّها مسار أستانا، والغاية إجبار الأتراك على التعامل مع الهيئة باعتبارها قوّة مسيطرة على الأرض يجب عليها التنسيق معها.

وعلى هذا الأساس دخل أوّل رتل عسكريّ تركيّ إلى المنطقة بمرافقة "تحرير الشام" التي رأت قيادتها في هذه الخطوة فرصة لإثبات اعتدالها وحصولها على قبول دولي يسهّل من إزاحتها عن لوائح الإرهاب. وهو ما يتناقض مع مواقفها السابقة من الأتراك، حيث كان التعامل معهم تهمة كافية لقتال الفصائل المعتدلة.

من السلفية الجهادية إلى فضاءات الأوليجاركية

استغلّت "تحرير الشام" اتفاق سوتشي بين الرئيس التركي رجب طيب أردوغان والروسي فلاديمير بوتين لاستكمال عملية بناء شبكاتها ومؤسّساتها المدنية والخدماتية والاقتصادية، ووضعها ظاهرًا تحت إشراف حكومة الإنقاذ المحسوبة عليها. وكانت الهيئة ومنذ الإعلان عن تشكيلها قبل ثلاث سنواتٍ من الآن، حريصةً على توفير مصادر دخل متعدّدة تضمن لها أمانًا اقتصاديًا على المدى البعيد، بدءًا من جمع الضرائب والزكاة والإتاوات واستثمار المباني العامّة من خلال تأجيرها أو بيعها، بالإضافة إلى سيطرتها على قطاعات اقتصادية مختلفة كتجارة الوقود عبر شركتها "وتد للبترول"، مرورًا بقطاعات الكهرباء ومياه الشرب والاتّصالات.

وكانت "تحرير الشام" قد خاضت معارك عديدة ضدّ فصائل المعارضة المعتدلة بهدف تحصيل المزيد من الأموال، والسيطرة على المعابر الحيوية بين إدلب ومناطق سيطرة ميليشيات الأسد، كمعبر العيس وخان العسل في أرياف حلب الجنوبية والغربية، ومعبر مورك في ريف حماة ومعبر أبو الضهور في ريف إدلب الشرقي. بالإضافة إلى سيطرتها على معبر باب الهوى الحدودي مع تركيا، والمعابر التي تصل إدلب بمناطق غصن الزيتون ودرع الفرات، مثل معبر الغزاوية ودير بلوط.

الأموال الطائلة التي تجنيها الهيئة شهريًا، والمقدّرة بنحو 13 مليون دولار أمريكيّ بحسب القيادي السابق فيها أبو العبد أشدّاء، لم تُنفقها على العمل العسكري أو تحسين أوضاع النازحين المعيشية. وكان أبو العبد قد تحدّث في مقطع مصوّر نشره منتصف أيلول/سبتمبر الفائت عن فسادٍ مالي وإداري كبير ينخر مؤسّسات الهيئة التي استولت على مئات الآليات وملايين الدولارات من الفصائل التي حاربتها، دون أن ينعكس ذلك على أدائها العسكريّ الذي كان أقلّ من المتوقّع.

اقرأ/ي أيضًا: مصير نقاط المراقبة التركية.. هل يكشف صراعًا بين أنقرة وموسكو؟

وذكر أبو العبد أنّ الهيئة استولت على 10 ملايين دولار من حركة نور الدين الزنكي وحدها بعد طردها من ريف حلب الغربيّ، وأنّها ترفض منح الفصائل الأخرى أي نسبة ممّا تجنيه من تحكّمها بموارد المناطق المحرّرة، واحتكارها تجارة المواد الغذائية والمعادن والمحروقات وغيرها.

 سيطرت "تحرير الشام" عبر حكومة الإنقاذ والمؤسّسة العامة للاتصالات التابعة لها على قطاع الاتّصالات من خلال تأسيسها شركة "سيريا كونيكت"، التي باتت الشركة الوحيدة المصدّرة للإنترنت

كما سيطرت "تحرير الشام" عبر حكومة الإنقاذ والمؤسّسة العامة للاتصالات التابعة لها على قطاع الاتّصالات من خلال تأسيسها شركة "سيريا كونيكت"، التي باتت الشركة الوحيدة المصدّرة للإنترنت ضمن مناطق سيطرة الهيئة، التي فرضت على جميع العاملين في مجال الانترنت التعامل معها. بالإضافة إلى سيطرتها على قطاع الكهرباء، حيث أعلنت المؤسّسة العامة للكهرباء التابعة للإنقاذ عن اتّفاق مع شركة تركية لاستجرار الكهرباء من تركيا إلى إدلب، وأنّها بدأت العمل لبناء وتمديد خطوط جديدة من المنطقة الحدودية بهدف تغذية كافة المناطق بالكهرباء، الأمر الذي سيوفّر للهيئة قطاعات ربحية جديدة تساعدها على تمويل نفسها واستمرارها كقوّة وحيدة ومنفردة في الشمال السوري.

 

اقرأ/ي أيضًا:

 رهان موسكو الأخير.. المال مقابل السلام في إدلب