18-أغسطس-2016

هوّ صحيح الهوى غلاّب؟

المخيم بكل تفاصيله يعني الخيمة التي لجأت إليها عائلة خرجت من أرضها قصرًا ظانين أنهم سيعودون لقريتهم؛ لكن أبى الظنّ أن يتحقق فبقيت الخيمة على أعراشها منتصبة إلى يومنا هذا مع أن ظروفًا ما هدّمتها عدة مرّات وأعيد نصبها من جديد وكأن ما يشدهم للعودة هو صمود الخيمة حتى تلمس اعتقاداتهم بأن لا عودة لفلسطين إن فشل بناؤها. تُرى ما الذي يجعل قاطني المخيمات يعشقون بقعة لا تتجاوز الكيلو متر الواحد رُغم تجاوزات ما يعانوه من ظروف كافرة بحق الإنسانيّة؟

بعيدًا عن ذكر المعاناة إلا أنّ ما يجعلهم يحبون الجلوس مطولًا أمام الجدران الضيقة والمساحات الصغيرة هي على حسب قول بعضهم إنها وراثة قد ورثوها من الجيل الأوّل للنكبة.

فرقٌ كبير بين أن تحارب الهواء والرياح كي لا تُسقط الخيمة وبين محاربة الإنجليز وقت الانتداب

أبو غازي الجدّ الوحيد في الحي الذي بقي حيًّا منذ النكبة، كان يروي حكاية الخيمة الأولى التي عاش -هو وعائلته المكوّنة من اثني عشر نفرًا- فيها عام 1950 فيقول : "فرقٌ كبير بين أن تحارب الهواء والرياح كي لا تُسقط الخيمة وبين محاربة الإنجليز في ذلك الوقت" وفرق أيضًا بين أن تدخل عن طريق الهرب نحو الأرض المحتلة من منطقة إلى أخرى مباغتًا العدو وبين أن تدخل هاربًا إلى قطعة قماش خوفًا من سقوط الصقيع رغم أن الخيمة في ذلك الوقت لم تكن تؤخر ولا تقدّم من هذه الترهات لكن في اعتقاداتنا أنها الوحيدة التي تحمينا من كل شيء.

اقرأ/ي أيضًا: دعوا الناس تهرب

رغم ظروفًا عدّة مرّ بها أبو غازي وغيره الكثير منذ النكبة حتى الجيل الثالث إلا أن تعلّقهم بالمخيم حبًا حملوه مع أكياسهم من فلسطين إلى لبنان. فلا يستطيع أحدهم التخلي عن المخيم ظنًّا أنهم لو تركوه ستنعكس البوصلة وخاصة أن للمخيم نكهة أخرى فيكفي أن الكيلو متر مربّع تجسد بشكل القرى المهجّرة السبب الكافي لتعلّقهم بالمخيم.

"غازي" الابن الأكبر ومن الجيل الثاني للنكبة، يقول إنه لم يلحق تلك الصورة التي يرويها أبوه فإنه قد ولد بين أربع جدران تحت سقف من الزينكو العتيق الصدئ يدعم بعضه بعضًا من أخشاب الزيتون المهترئ ولكن لم تختلف الأربع جدران عن الخيمة التي ذكرها أبوه سوى في المجهود الضئيل في تطوير المكان من مثلث إلى مرّبع كخطوة فقيرة نحو تطوير الشكل الهندسي، ويكمل قوله: "تغيّر الشكل الهندسي للمنزل لكن الرياح والهواء لم يتغيرا حيث كان أبي يورثنا مجهوده في تركيب السقف من جديد كلما هبّت الرياح".

غازي وأبو غازي الذين سنحّت لهم فرصة السفر إلى دول أوروبا عن طريق ابنتهم التي تقطن الآن في "برلين" رفضوا السفر معتبرين أن الخروج من هذه الظروف هو معنى حقيقي للتخلي عن الخيمة التي بنوها مجتهدين حتى يومنا هذا، وأن تجتهد في بناء ما يعنيك مباشرة يعني أنّك تتجه لهدف والهدف هو العودة لقرية صفّورية شمال فلسطين وإلى كل الأرض.

ورغم فقر المعيشة إلّا أنهم مقتنعون بأن العودة إلى فلسطين تبدأ من هذه الظروف وكلما حاولت ابنتهم أن تقنعهم بالسفر إلى برلين، يردد أبو غازي جملته التي ورثها غازي "هوّ صحيح الهوى غلاب".. "هوّ صحيح الهوى غلاب". وهي أغنية للسيدة أم كلثوم، يقصد بالهوى شيئين: "الهواء الذي أسقط الخيمة عدة مرات، والهوى حبهُ لأم غازي التي تعرّف عليها هناك عندما هم لإعادة بناء خيمة مجاورة وهي نفسها خيمة عائلة أم غازي".

اقرأ/ي أيضًا:
الفلسطيني السوري.. ذاتٌ تتشظى
محمد الوهيبي.. صورة فلسطين البدوية