23-مارس-2021

من لوحات الفنانة

البحث عن هولي واربورتون لن يُفضي إلى تفاصيل ومعلوماتٍ كافية حولها. الفنانة الشابة التي لا بد أننا صادفنا عملًا من أعمالها في مواقع التواصل الاجتماعي، لا تملك من الشهرة ما يكفي لتكون معروفة على نحوٍ واسع، مما يعني أننا لن نعرف عنها أكثر مما تخبرنا به لوحاتها التي تقول إنها لا ترسم الأشياء التي تراها وتبصرها، وإنما الأشياء التي تشعر بأنها لن تُرى مجددًا، تلك التي تحدث للحظاتٍ، ثم تختفي.

ترسم هولي واربورتون لوحاتها بينما تتخيل شكل وطبيعة حياة شخصياتها، مما يجعل من اللوحة سردًا لحكايات هذه الشخصيات، وإن بتفاصيل قليلة

وإن أخذنا بعين الاعتبار طبيعة وشكل حضور الفرد في لوحات هولي واربورتون، نستطيع القول إن ما يعنيها ويشغلها هو التقاط الفرد قبل وأثناء امّحاءه وتلاشيه تمامًا، الأمر الذي يُفسِّر، ربما، انقسام لوحاتها إلى قسمين، تشغلُ المدينة وعوالمها القسم الأول، حيث نرى بشرًا التُقِطوا في لحظاتٍ تُعبّر عن طبيعة حياة إنسان المُدن المُنعزل أو المعزول، بينما يشغل الريف القسم الثاني، حيث يتسع الفراغ على حساب الحضور البشري.

اقرأ/ي أيضًا: ناصر حسين: حياة ممكنة

وفي كلا القسمين أو العالمين الذين تنتمي إليهما لوحات الفنانة البريطانية، يحضر الكائن البشري بشكلٍ محمل بالدلالات والإشارات التي لا يمكن تجاهلها، وإن بدرجاتٍ مختلفة. في الريف، وسط السهول والغابات والجبال والوديان، نراه حاضرًا بأقل شروط الحضور الممكنة، إذ قدَّمته واربورتون بأحجامٍ صغيرة، دون ملامح، وبلونٍ أبيض تتفاوت درجات حدته، إذ يبدو قويًا وكثيفًا في بعض اللوحات، وشفافًا ممحوًا في لوحاتٍ أخرى، بشكلٍ يخلق عند المتفرج انطباعين، إما أن الشخص الذي يتوسط اللوحة ليس فردًا طبيعيًا وإنما طيفه فقط، أو أنه فردٌ طبيعيٌ التُقِط في اللحظة التي يُمحى فيها.

ما الذي يمحو الفرد ويحيله طيفًا في لوحات واربورتون؟ الإجابة تكمن في اللوحات ذاتها، إذ نرى في إحداها شخصًا يقف في منتصف اللوحة تمامًا، وأمامه، على بعد أمتارٍ قليلة، ثمة مجموعة أشخاص يغادرون المكان، والأمر الذي يشير إلى هذا الانطباع هو ألوانهم، فبينما نرى الشخص الذي يتوسط اللوحة مرسومًا بلونٍ أبيض واضح، جاءت ألوان تلك الشخصيات شفافة وممحوة، تمامًا كما لو أن حدة اللون مقياسٌ لدرجتي الحضور والغياب، مما يعني أن ما يمحو الفرد هو الوحدة التي يشعر بها الشخص الذي يقف بالقرب من تلك الشخصيات، إما مودّعًا لها، أو مستعيدًا، بشكلٍ أو بآخر، لحضورها السابق.

الوحدة التي يُعبّر عنها الشخص الذي يتوسط هذه اللوحة، تحضر في لوحاتٍ أخرى بشكلٍ أوضح، حيث نرى أشخاصًا يصعدون طريقًا ترابيًا مقفرًا بمفردهم، يحيط بهم فراغٌ شاسع، أو يقطعون حقلًا واسعًا وممتدًا دون نهاية، أو يسيرون محني الرأس، واضعين أيديهم في جيوبهم، بشكلٍ يُعبّر عن وحدتهم في هذا المكان.  

يمكن القول هنا إن هولي واربورتون رسمت لوحاتها هذه بينما تتخيل حياة شخصياتها، لتكون اللوحة بهذا المعنى سردًا بشكلٍ أو بآخر لهذه الحيوات. والمثير في لوحات الفنانة البريطانية، أنه من الممكن العثور على الجزء الثاني من الحكاية التي ترويها لوحة ما في لوحةٍ أخرى، الأمر الذي يضع الناظر إليها أمام تساؤلاتٍ عدة، منها: ما الذي يمنع أن يكون الشخص المُنحدر في طريقٍ ترابي مقفر، هو ذاته الشخص الذي وقف بالقرب من أشخاص يهمون بالمغادرة؟ ما الذي يمنع أن تكون واربورتون ترسم حياته، وأن بأقل بالتفاصيل، بعد رحيلهم؟

وإذا اتفقنا بأن درجة شفافية اللون الأبيض هو مقياسٌ لدرجة الحضور والغياب في اللوحة، لم لا يكون الأشخاص الذي ظهروا يقطعون طرقاتٍ مقفرة، هم ذات الشخص؟ وأن الاختلاف الوحيد بينهم، والكامن في درجة شفافية اللون الأبيض، هو إشارة إلى دخول هذا الشخص مرحلة التلاشي شيئًا فشيئًا بفعل الوحدة؟ وبالتالي، ما الذي يمنع أن تكون اللوحات الخالية من الحضور البشري، هي إشارة إلى أن الشخص ذاته قد امّحى وتلاشى؟ أسئلة كثيرة أخرى تثيرها لوحات واربورتون، والملفت أنها أسئلة تربط لوحاتها ببعضها، بحيث يمكن النظر إليها، بعد ترتيبها، على أنها حكاية متكاملة.

الانطلاق من هذه الفرضية أعلاه لقراءة لوحات هولي واربورتون، يجعل من الانطباع الأول الذي يتشكل عند الناظر إلى القسم الذي تشغله المدينة، هو أن الشخصيات التي يراها هنا، خائفة ومتوترة، قد تكون هي ذاتها التي رآها في واحدة من لوحات الريف تهم بالرحيل. وإذا كانت الوجهة حينها قد بدت غير معروفة، فإن النظر إلى لوحات المدينة وطبيعة حضور الفرد فيها، يؤكد بأن الأخيرة هي وجهتهم.

رسمت الفنانة البريطانية شخصياتها في المدينة بملامح واضحة، وأحجامٍ كبيرة، وألوان بعيدة عن اللون الأبيض، بحيث تُميّزها وسط الحشود البشرية التي تُحيط بها أولًا، وتُظهر، عبر الاعتناء بالملامح، حالة الخوف والتوتر والقلق والتعب التي تسيطر عليها ثانيًا، والتي تحاول التخلص منها، أو الانصراف عنها مؤقتًا، من خلال الآخرين. ولهذا السبب، ربما، نرى أشخاصًا يتعانقون بكثرة، رجلٌ يتكئ برأسه على كتف امرأةٍ تبدو عشيقته، وفتاة تتكئ برأسٍ مثقل على كتف صديقتها، وربما عشيقتها.

تشغل المدينة حيزًا واسعًا من أعمال واربورتون، حيث نرى فيها بشرًا التُقِطوا في لحظاتٍ تُعبّر عن طبيعة حياة إنسان المُدن المعزول

في المقابل، نرى أشخاصًا بمفردهم، في ظل وحدةٍ لا يبدو صعبًا الانتباه إليها. نراهم وسط حشدٍ بشري، أو في غرفة مظلمة، في المترو، أو أمام المقهى، في شارع صاخب، أو آخر مقفر، وفي جميع الحالات، تسيطر الوحدة على هذه الشخصيات، وتدفع بهم نحو التلاشي أو الغياب المجازي الذي عبّرت عنه واربورتون في لوحةٍ نرى فيها شخصًا يسير على جانب الطريق، بلونٍ أبيض ممحو، وبحركاتٍ يظهر عبرها مستسلمًا تمامًا لتلاشيه الذي يحدث لتوّه.

اقرأ/ي أيضًا: فوتوغرافيا دون مكولين.. ما وراء الذعر

هل تروي هولي واربورتون إذًا حكاية الهجرة من الريف إلى المدينة؟ وترسم طبيعة حياة من قرر البقاء في الريف، ومن هاجر باتجاه المدينة؟ ربما. ولكن الأكيد أن ما ترسمه يُطلق في مخيلة من يراه قصصًا مختلفة، تنتهي جميعها عند انطباعٍ يبدو ثابتًا، وهو أنها لا ترسم الفرد في ظل وحدته فقط، إن كان في الريف أو المدينة، وإنما ترسم عبره وعبر وحدته هذه، عالمًا مؤقتًا وربما زائلًا.

 

اقرأ/ي أيضًا:

معرض هلا عز الدين.. محو المسافة بين اللوحة والمتفرج

العربي الشرقاوي.. روح الحرف ومعناه