20-أبريل-2018

من الوصايا العشر

من المؤكد أن وعي الصهاينة بأهمية وتأثير السينما كان مبكرًا جدًا، لذلك عملوا بقوة وعبر عقود طويلة على استغلال الفن السابع بأكبر قدر ممكن لتحقيق أغراضهم فتوجهوا بثقلهم إلى مجال إنتاج وصناعة الأفلام. والمقارنة بين المحاولات السينمائية لعرض وجهة النظر العربية الفلسطينية في مواجهة النظرية الصهيونية تبدو ظالمة إلى أقصى الحدود، ليس على المستوى الدولي فحسب بل والإقليمي أيضًا، بعدما صار عاديًا أن يخرج سينمائي عربي من بلد انتهكته إسرائيل نفسها أكثر من مرة ليحدثنا عن الخطر الفلسطيني وحق إسرائيل في أن تعيش بسلام.

شكّلت قصص العهد القديم وأساطير العودة إلى أرض الميعاد موادًا خصبة لإثارة الخيال اليهودي وحثّ الأتباع على الهجرة إلى القدس

عمومًا، فالمحاولات العربية ظلت لسنوات طويلة نادرة وغير مؤثرة وبعيدة عن الجدية، ولكن على الجانب الآخر بدت السينما الصهيونية وكأنها تمهّد لوعد بلفور الملعون. ففي عام 1913 خرج للنور فيلم وثائقي للمخرج الروسي نواه سوكلوفسكي عن حلم اليهود بالعودة إلى أرض فلسطين بعنوان "حياة اليهود في فلسطين" مقدمًا نظرة مبكرة على حياة الموجة الأولى والثانية من المهاجرين اليهود لاستيطان أرض الميعاد خاصتهم. أما بعد صدور مرسوم بلفور بإنشاء وطن قومي لليهود على أرض فلسطين، أصبح لزامًا على قادة الصهيونية القيام بعمل دعائي ضخم لجذب المهاجرين اليهود من كافة أنحاء الأرض وترغيبهم في الذهاب إلى فلسطين. وقتذاك، شكّلت قصص العهد القديم وأساطير العودة إلى أرض الميعاد موادًا خصبة لإثارة الخيال اليهودي وحثّ الأتباع على الهجرة إلى أورشليم (القدس)، لكن العامل الحاسم الآخر في تسريع موجات الهجرة إلى فلسطين كان ظهور الخطر النازي في أوروبا وما حمله من وعود بإبادة شاملة للشعب اليهودي.

اقرأ/ي أيضًا: فلسطين والسينما المصرية.. حضور نادر

لملمة شتات الشعب اليهودي من المنافي الصعبة وحنينهم إلى ملامسة الأرض الأم، وحلم فقراء اليهود بالهروب من الأوضاع السيئة التي اختبروها في بلادهم والعيش في "أرض اللبن والعسل"، كما يخبرنا النص التوراتي عن أرض فلسطين؛ مثّلا ضلعين أساسيين في الخطاب الصهيوني الموجّه لخدمة الدعوة بين يهود الشتات للتحرر من العبودية والتشرد والفقر والعودة إلى أرض الميعاد، جنة شعب الله المختار. ولم يمض وقت طويل حتى أتحفتنا السينما الأمريكية بالعديد من الأعمال الموجهة، يأتي في مقدمتها الفيلم الشهير "الوصايا العشر"، بنسختيه، الصامتة (1923) والناطقة الملونة (1956)، والذي استمد مادته التاريخية من العهد القديم مع تحريف على مقاس دعاة الصهيونية لتطويع دراما الفيلم لخدمة أغراضها.

مخرج الفيلمين هو سيسيل دي ميل، الذي خلّدت هوليود اسمه بجائزة تمنح سنويًا في حفل توزيع جوائز رابطة هوليوود للصحافة الأجنبية (غولدن غلوب)، والذي لم يتناول قصة وجود وخروج موسى وبني إسرائيل من مصر إلا على الوجه المشوّه المراد به إظهار اضطهاد اليهود في مصر وتصوير أهل مصر كشعب منبوذ محتوم عليه العيش ذليلًا تحت بطش فرعون مصر وحاشيته الظالمة. ومن مساخر القدر أن دي ميل صوّر بعض مشاهد النسخة الناطقة من فيلمه في مصر، بل واستعان بخدمات الجيش المصري وقتذاك كمجاميع للمشاركة في بعض المشاهد التي تمثّل شعب مصر، وخاصة في مشهد انفلاق البحر الأحمر أمام موسى ومن معه قبل أن يعود إلى وضعه الطبيعي فيغرق الآخرين (فرعون وجنوده المصريين). من بين الأسماء المصرية المشاركة في الفيلم يبرز اسم عباس البغدادلي، وهو ضابط مصري سابق بسلاح الفرسان، قام بدور سائق عربة رمسيس فرعون مصر. العرض الأول للفيلم احتضنه حفل كبير في مدينة نيويورك يوم التاسع من تشرين الثاني/نوفمبر 1956، أي بعد أسبوع من اجتياح القوات الإسرائيلية لسيناء!

كما أنتجت السينما الأمريكية فيلم "هذه أرضي" كأول فيلم يهودي ناطق باللغة العبرية ويروج لحق اليهود المزعوم في أرض فلسطين ويؤكد على حقيقة هامة وهي ضرورة إقامة الشباب اليهودي في أرض الميعاد (شفيق عبد اللطيف – السينما الإسرائيلية – دار المعارف 1987).

وعلاوة على هذا، لم ينحصر النشاط السينمائي الصهيوني في الولايات المتحدة وحدها بل تعداها إلى أوروبا أيضًا، حيث يمكن رصد العديد من الأفلام الموجهة مثل الفيلم البولندي "صابرا" (1933) من إخراج ألكسندر فورد الذي يتناول قضية المهاجرين الشبان من اليهود إلى أرض فلسطين. أيضًا في بريطانيا أُنتج فيلم "الرقم 24 لا يجيب" (1949) وهو فيلم يتناول نشاط العصابات الصهيونية المسلحة في أرض فلسطين ومخابراتها العسكرية التي تنشط ضد العرب الآمنين. وفي أواخر الخمسينيات أنتجت في هوليوود عدة أفلام تحمل لونًا آخر من الدعاية الصهيونية ومنها: "الخروج" و"يوديت" و"راحيل" و"ظل العملاق"، حيث تبنت المواقف الأيديولوجية للصهيونية العنصرية ودعت بشكل واضح للتبرع بالمال والهجرة إلى أرض الأجداد الموعودة. وأنتج الصهيونيون البريطانيون فيلمًا عام 1970 بعنوان "أرضه"، من إخراج جيمس كولبر، يسعى من خلاله لتبرير حق إسرائيل في ضم الأراضي العربية وفق مخطط صهيوني مرسوم.

في أواخر الخمسينيات أنتجت في هوليوود عدة أفلام تحمل لونًا آخر من الدعاية الصهيونية ومنها: "الخروج" و"يوديت" و"راحيل" و"ظل العملاق" 

أما فيلم "هانا ك" للمخرج كوستا غافراس، والذي شارك فيه الممثل الفلسطيني البارز محمد بكري، فقد عُرض في مهرجان القاهرة السينمائي عام 1983 محاطًا بدعاية ضخمة باعتباره فيلمًا عالميًا لمخرج أوروبي شهير يتناول القضية الفلسطينية من زاوية موضوعية وبرؤية تناصر العرب، وقد اعتبره الناقد المصري أحمد رأفت بهجت في كتابه "الشخصية العربية في السينما العالمية" عبارة عن "أنشودة غزل في الديمقراطية الإسرائيلية التي تسمح للفلسطيني المشتبه به كإرهابي بالإقامة في منزل محاميته اليهودية داخل مدينة القدس رغم أنها حبيبة المدعي العام العسكري في إسرائيل، دون أن يملك هذا الأخير القدرة على طرد هذا الفلسطيني أو القبض عليه لأن القانون في إسرائيل يحقق له الحماية ولا يسمح بالتطفل على خصوصيات الآخرين!"

في أثناء الهجوم الإسرائيلي على لبنان عم 1982 ووسط ما كانت تعرضه قنوات التلفزيون من مجازر بشعة وصور للدمار والضحايا من جراء العدوان الغادر، كان التلفزيون الأمريكي يعرض، وعلى جزئين، الفيلم التلفزيوني الطويل "امرأة تدعى غولدا" الذي يؤرخ لحياة غولدا مائير رئيسة الوزراء الإسرائيلية السابقة. كان هذا العرض يهدف لتقديم صورة حضارية مشرفة لامرأة رأست حكومة دولة معتدية لم تسلم أي من جيرانها من وحشيتها طيلة الفترة التي قضتها في العمل السياسي كمسؤولة وصاحبة القرار في الكثير من الأعمال الوحشية التي ارتكبها جيش الاحتلال الإسرائيلي ضد المواطنين الفلسطينيين ودول الجوار العرب.

اقرأ/ي أيضًا: القضية الفلسطينية في السينما المصرية.. سؤال التطبيع والالتزام

عبّرت إنغريد برغمان، التي قامت بدور مائير في الفيلم، عن رؤيتها للشخصية التي جسدتها بمنتهى البراعة: "قلبي سيطر على تفكيري، وسقطت في حب غولدا. إنها صادقة جدًا ومخلصة ومرتبطة بالأرض وليس فيها شيء مزيف".

على قائمة الأفلام المراوغة المكشوفة يأتي فيلم "السفير" من إنتاج 1984 للمخرج البريطاني ج. لي تومبسون، وبطولة أربعة من نجوم السينما الأمريكية، هم روبرت ميتشوم وروك هدسون وفابيو تستي وإيلين بريستين، وقد عُرض في سوق "مهرجان كان" السينمائي مصحوبًا بدعاية قوية عن موضوعه الذي يتناول مسألة إحلال السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين، من خلال حكاية سفير أمريكي بدولة الاحتلال الإسرائيلي يسعى إلى تحقيق السلام بين من يصفهم "بأنهم يسمون أنفسهم الشباب الفلسطيني" من جانب والشباب الإسرائيلي من جانب آخر. وإضافة لسذاجة فكرة الفيلم، فإن مغازلته لصورة أمريكا حمامة السلام وقائدة العالم المتحملة لكافة الصعاب والمضايقات من أجل تحقيق رسالتها المقدسة، تبدو مجانية ومفضوحة.

 وإذا كان هناك جانب من الفيلم ينتقد التطرف في ممارسة المخابرات الإسرائيلية، غير أنه يؤكد في الوقت نفسه على قوتها وذكاء رجالها وقدرتهم على النفاذ إلى داخل الحجرات المغلقة، وهو يجد مبررًا للجوئهم السريع للعنف والقسوة من جراء ما يعرضه من غدر ووحشية ممارسات الفلسطينيين الذين يستغلون الدعوة للسلام من أجل إقامة مذبحة للشباب الإسرائيليين العزل. وهو يقول بأن السلام قد لا يفهمه بعض الشباب الإسرائيلي، ولكنه عند الشباب الفلسطيني يصبح مسألة مستحيلة، ذلك لأن الفلسطيني قد تعود على القتل والإرهاب وسفك الدماء!

على الرغم من ندرة الأفلام العالمية المناصرة للقضية الفلسطينية إلا إنها كانت تظهر من حين لآخر، ومن أهم التجارب في هذا المجال فيلم "هنا وفي مكان آخر"

وعلى الرغم من ندرة الأفلام العالمية المناصرة للقضية الفلسطينية إلا إنها كانت تظهر من حين لآخر، ومن أهم التجارب في هذا المجال فيلم "هنا وفي مكان آخر" (1976) للمخرج السويسري البارز جان لوك غودار. بعد تصوير الفيلم، تأخر المونتاج الخاص به بسبب أن كثيرين ممن ظهروا فيه على أنهم رجال المقاومة المنتصرين قد ماتوا. وتوقف المشروع إلى أن قرر غودار استكماله بتصوير جزء جديد أضيف إلى الفيلم واستطاع أن ينحو به منحى آخر، بإضافة بعض اللقطات التسجيلية الدرامية وبإضافات في شريط الصوت كان أهمها وأقواها تاثيرًا لقطة لمجموعة من الفلسطينيين أمام أحد الأنهار يتحدثون وينظرون في إحدى الخرائط ليأتي صوت الراوي (غودار نفسه): "إنهم يتحدثون عن كيفية عبورهم في المرة القادمة من نفس النقطة. ولكن هذا لم يعد مهمًا لأنهم لن يعبروا مرة أخرى. لأنهم جميعًا سيُقتلون في غضون الثلاثة أشهر التالية، بينما أنتم تشاهدونهم هنا يتكلمون".

أعلت إضافات غودار تأثير الفيلم وانتقلت بحكايته من مجرد عرض لوجهة نظر ما إلى حقائق موثقة شديدة الصدق عن شعب يصرّ على المقاومة والتضحية وأصبح أبطاله المرئيون على الشاشة نماذج مجسدة للبطولة ولمناضلين حقيقيين ضحّوا بدمائهم بالفعل من أجل قضيتهم التي مازالت مستمرة.

في عام 2002 نال فيلم "يد إلهية" للمخرج الفلسطيني إيليا سليمان جائزة لجنة التحكيم الخاصة من "مهرجان كان" السينمائي لتعبيره بلغة درامية بليغة وهادئة عن معاناة المواطن الفلسطيني العادي في حياته اليومية بعيدًا عن المقاومة والكفاح المسلح. تتوزع أحداث الفيلم بين مسقط رأس البطل ومكان مولد المسيح، بلدة الناصرة، وبين رام الله حيث تعيش حبيبته وحيث يكون مكان اللقاء بينهما هو نقطة تفتيش إسرائيلية. وتتوازى مع صعوبة الانتقال الجغرافي والتواصل الإنساني في الفيلم صور متعددة للوقوع تحت قهر وظلم الدولة الإسرائيلية، ليصبح أبناء الوطن الأصليون سجناء في أرضهم ومعزولين عن بعضهم البعض تجمعهم سماء واحدة ولكن يفصل بينهم محتل غاشم لا يعبأ بالحب ولا يعرف سوى العنصرية والقتل.

اقرأ/ي أيضًا: "حب وسرقة ومشاكل أخرى".. ملهاة فلسطينية

في نفس الدورة من مهرجان كان واجه "يد إلهية" فيلم المخرج الإسرائيلي عاموس غيتاي "كيدما"، وفيه يعيد رواية لحظة البداية في فلسطين وليحكي من جديد قصة جيل الرواد الذين أسسوا دولة إسرائيل. المهاجرون الأوروبيون القادمون إلى أرض الميعاد هم الناجون من معسكرات اعتقال النازي، وفي الفيلم تصبح شهادة التعذيب والموت في محارق النازي هي شهادة ميلاد الدولة الجديدة. الجانب الإسرائيلي، وفق غيتاي، ليس ضد الوجود الفلسطيني في دولة ما غير واضحة، وفي الوقت نفسه يحاول إيجاد مبررات لما وقع من عنف في الماضي من خلال تصوير المهاجرين اليهود كأشخاص يائسين وخائفين من الجحيم الأوروبي.

 

إذًا، يبدو أن ثمة خطابًا سينمائيًا فلسطينيًا وإسرائيليًا يحاول كل منهما التخلي عن فكرة الشعب المسلح والقتل والدم، وأن يتحدث بلهجة إنسانية مليئة بالسخرية والمرارة على الحياة الفلسطينية المختنقة تحت وطأة التقسيم الجغرافي، أو مليئة باستدرار عطف العالم نحو اليهود أو تذكية شعور الجمهور الغربي بالذنب تجاه ما اقترفه النازي ضدهم من مجازر. ولكن اللافت للنظر أن اليهود ما زالوا يتحدثون عن خروجهم من أوروبا بينما لا يستطيع الفلسطينيون الحديث بشكل مباشر عن قضيتهم الأساسية وحقوقهم المنتزعة وأرضهم التي أُخرجوا منها ليحتلها اليهود.

من هذه الإطلالة السريعة وباستعراض بعض نماذج الأفلام العالمية التي تناولت القضية سنلاحظ أن الدعاية الصهيونية استطاعت فرض نفسها على الساحة السينمائية، مع انحسار تواجد وجهة النظر العربية والتي لم تظهر إلا متأخرًا، وكان غالبا بفضل الفلسطينيين أنفسهم لكن يبقى ذلك التواجد مقصورًا على قطاع محدود من جمهور المهرجانات والمثقفين السينمائيين، ويصعب أن يجد له مكانًا في دور العرض التجارية الأوروبية والأمريكية على نطاق واسع (ولا يستثنى من ذلك هاني أبو أسعد بفيلميه "الجنة الآن" و"عمر" اللذين وصلا إلى الترشيحات النهائية لجائزة الأوسكار).

هناك خطاب سينمائي فلسطيني وإسرائيلي يحاول كل منهما التخلي عن فكرة الشعب المسلح والقتل والدم، وأن يتحدث بلهجة إنسانية 

تبث نشرات الأخبار ليل نهار صور جرائم الإسرائيليين وما يرتكبونه من مذابح ومجازر ضد الفلسطينيين، ولكنها تفشل في التأثير في الرأي العام العالمي بعد أن ترسبت في نفوس الأوروبيين والأمريكيين عبر عقود طويلة من تعاطي الخطاب الصهيوني المناهض للحق الفلسطيني والعربي صورة ساهمت السينما في تجسيد ملامحها لكي لا تنمحي من الذاكرة، صورة لليهودي المسالم الذكي المتحضر وهو يعاني محارق النازي التي أجبرته على الفرار إلى أرض الميعاد المزعومة ليواجه حرب بقاء مع كائنات يرونها غريبة تطلق على نفسها "الفلسطينيين" أو "العرب".

اقرأ/ي أيضًا: إيليا سليمان.. كيف تصل العالمية بثلاثة أفلام فقط

هكذا غابت القضية وانقلبت الحقائق وتحولت المزاعم إلى دولة وغابت عن الوجدان صورة شعب بأكمله، مهما ظهرت صور ضحاياه على نشرات الأخبار. الصور لا تكذب لكن الضمائر يمكنها الدخول في سبات طويل.

 

اقرأ/ي أيضًا:

بشار إبراهيم.. صندوق الذاكرة السينمائية

إيلان بابيه يفضح "فكرة إسرائيل"