10-يونيو-2022
اكتئاب ما بعد الولادة

تعاني العديد من الأمهات من اكتئاب بعد الولادة (Getty)

لا شيء يضاهي تلك اللحظات التي يمسك فيها الوالدان طفلهما بين أيديهم، بعد انتظار دام نحو تسعة أشهر، واستعدادات تضمنت تجهيز ثياب الطفل وسريره، ومتابعات دورية عند الطبيب، ومهمة اختيار اسمه والأحاديث المثارة عما إذا كان سيشبه والده أم والدته أكثر. كل هذا يغيب تمامًا عندما تبدأ الأم مرحلة ما بعد الولادة، وتنصدم في كثير من الأوقات بحجم المسؤولية وثقلها، وتفرّدها بتحمّل ذلك أحيانًا، وربما بلا تقدير كافٍ ومراعاة لازمة. 

تحدث ألتراصوت إلى العديد من الأمهات حول موضوع اكتئاب ما بعد الولادة، وجميعهنّ فضّلن الحديث بالظلّ دون كشف أسمائهنّ 

وروت أمهات لموقع ألترا صوت رحلة الأمومة والمشاعر التي انتابتهنّ في تلك الفترة ما بعد الولادة، الصعوبات والاحتياجات، وما راودهنّ من هواجس ومشاعر، بسبب تحديات وتغيّرات صادمة، لم يتهيأن لها.

تقول أم تبلغ من العمر 24 عامًا فضلت عدم ذكر اسمها، "أنا أم للمرة الأولى منذ ٦ شهور، كان إنجاب طفلتي بقرار واستعداد من قبلي أنا وزوجي، لكن مشاعر ما بعد الولادة صعبة وغريبة، فأنا لم أعد أحمل مسؤوليتي فقط، بل أصبحت مسؤولة عن شخص آخر وروح أخرى".

وأضافت "لم يعد لي الحرية بجسدي بحكم أنني أرضع ابنتي طبيعيًا، كان اضطراب نومي وصحوي، واضطراري أن أكون قوية ومحاربة دائمًا، شعورًا منهكًا، ظننت أن حياتي انتهت، شعرت بالذنب عندما كانت تبكي صغيرتي، فلا أجيد التعامل معها، كنت أضحك وأبكي بنفس الوقت، أغضب وأهدأ معًا، أكثر ما كان يراودني، أنني أن أمشي وأترك خلفي جبال المسؤولية، أردت أن يدعمني أحد، أن يحمل طفلتي عني ساعة واحدة فقط.. أنام فيها أو أستحم"، الأمر الذي تعدّه نساء كثر، رفاهية لم تتمكن من تحصيلها بسهولة خلال الأشهر الأولى بعد الولادة.

أما أم أحمد (30 عامًا) ولديها طفلان أصغرهما في عمر 5 أشهر، تروي "منذ الشهر السابع بحملي الثاني إلى اليوم، أشعر بالاكتئاب، فقدت ثقتي بنفسي وتراودني أفكار تقول أنه ليس لي وجود بهذه الحياة، حياتي متوقفة ومستقبلي سيئ".

وفي سياق حديثها، أردفت أم أحمد "أنا تغيرت، صرت بدينة وبشعة دون أمل أن أعود مثلما كنت، لن أجد عملًا مرة أخرى.. من يقبل بتوظيف أم لطفلين صغيرين؟، حتى زوجي الحنون المتعاون أخاف أن أخسره وأخسر تضامنه إن بقيت كذلك، طلبت الدعم من عائلتي، لكن لم يعروا بالًا لبوحي عن مشاعري، وقالوا لي التزمي بالصلاة والقرآن، أنا الآن اتعالج لدى إخصائية نفسية، ووصفت لي علاجًا لمدة عام، كما نصحتني ألا أنجب مجددًا إلا بعد فترة طويلة".

"خلال الحمل وبعد الولادة كان عندي مبالغة بالمشاعر، إذا حزنت يكون الحزن عميقًا، وإذا غضبت قويًا، الخوف والقلق عملاقان، حتى بأبسط الأمور كاستخراج أوراق ثبوتية لطفلتي مثلًا، أصبت بهوس مرعب حول أيامها القادمة، خفت أن تموت عندما أصابها يرقان خفيف، شعرت أن كل شيء ينهار" تتحدث ملك خليل (36 عامًا) لموقع ألترا صوت.

بدورها، اعتبرت منظمة الصحة العالمية أن الأسابيع الستة الأولى بعد الولادة تعدّ فترة "حرجة" لضمان بقاء المولود والأم على قيد الحياة، وأوضحت أن أكثر من 3 من كل 10 نساء وأطفال على مستوى العالم، لا يحصلون حاليًا على رعاية ما بعد الولادة في الأيام الأولى التالية للولادة، وهي الفترة التي تحدث فيها معظم وفيات الأمهات والرضع.

ولفتت إلى أن عواقب الولادة على الصحة البدنية والعاطفية - التي تتراوح من الإصابات إلى الألم والصدمات المتكررة – قد تصبح موهنة إذا تُركت دون تدبير علاجي، ولكن يمكن علاجها بدرجة كبيرة في غالب الأحيان إذا قُدمت الرعاية المناسبة في الوقت المناسب. 

وفي آذار الفائت، أصدرت منظمة الصحة العالمية أول مبادئ توجيهية عالمية لها على الإطلاق بشأن دعم النساء والمواليد في فترة ما بعد الولادة، ركزت فيها على ضرورة توفير رعاية عالية الجودة في المرافق الصحية لجميع النساء والأطفال لمدة لا تقل عن 24 ساعة بعد الولادة، مع إجراء الفحوصات اللازمة، وتقديم المشورة بشأن الرضاعة الطبيعية الخالصة، وإتاحة وسائل منع الحمل بعد الولادة، وتعزيز الصحة، إضافة إلى تحرّي الاكتئاب والقلق اللذين يصيبان الأمهات بعد الولادة، مع توفير خدمات الإحالة والتدبير العلاجي عند الحاجة.


اقرأي هنا: 

طرق علاج اكتئاب ما بعد الولادة

أعراض الاكتئاب بعد الولادة


وعن أهمية تقديم الدعم للأم من قبل محيطها وزوجها على وجه الخصوص، تقول روعة (38 عامًا) وهي أم لأربعة أطفال، "اكتأبت بكل ولاداتي، لكن كان أشدها بالطفل الأول، فبعد ولادة عسيرة لم أرغب بحمله ولا إرضاعه، حتى إذا بارك لي أحد أنهار بالبكاء، كنت أشعر أنه هو سبب ألمي، اشتد الشعور بعد شهرين من الولادة، كنت أسمعه يبكي بالساعات ولا أستطيع الحراك من سريري، وعندما أنهض أجده بحالة يرثى لها، يبكي بشدة وحفاضه وملابسه متسخة، كرهت زوجي، كنت أتراجع نفسيًا والجميع مشغول عني، كما كرهت نفسي لأنني أم سيئة".

وأضافت "في ولادتي الثانية والثالثة كانت حدة الاكتئاب أخف، لكنني راجعت طبيبًا نفسيًا، أما ولادتي الرابعة فلأنني كنت محاطة بدعم كامل من عائلتي وزوجي وأولادي أصبحوا واعيين، كانت تلك المرحلة سعيدة واجتزتها دون آلام نفسية".

وعلى عكس ما ختمت به روعة، تروي إحدى الأمهات لم ترغب بذكر اسمها (28 عامًا)، لموقع ألترا صوت "أنجبت منذ عام، وإلى اليوم ألعن تلك اللحظة التي ولدت فيها طفلي، لقد كذبوا علي جميعًا، زوجي وأهل زوجي وعائلتي، لم يكن الإنجاب كما وصفوا، ولم يقفوا إلى جانبي بعد ولادتي، حتى زوجي الذي وضعني بين احتمالين إما أن تُزوّجه والدته مرة ثانية أو أن أحمل، لم أعد أراه".

" بعد أن كنت أؤسس لفتح مكتبي الخاص، وكنت قد أوشكت على إنهاء رسالة الماجستير في الحقوق، دمروا حياتي عندما أجبروني على الإنجاب، لو أن زوجي كان بجانبي، لو أنه يقاسمني المسؤولية ما شعرت بما أشعر به الآن، لكن وعوده بداية حملي بأن كل شيء سيصبح على ما يرام جميعها تلاشت، أحب طفلي أحيانًا وأكرهه أحيانًا، أعنفه من شدة الضغط، وأشتهي أن أدعي عليه، لكن لا أفعل".

وخلال تواصل ألترا صوت مع السيدات اللاتي تحدثن عن تجاربهنّ، يمكن ملاحظة أن بعض الأمهات ما تزال تشعر إلى الآن بالحرج من الحديث عن مشاعرها، حتى ولو مضى عليها وقت بعيد، ولو كانت تعلم أنها مشاعر طبيعية ترافق بداية مشوار الأمومة الخاص بها.

من جانبها، لفتت إحدى الأمهات (29 عامًا)، إلى أهمية تثقيف النساء المقبلات على الحمل أو الإنجاب حول تحديات ومشاعر مرحلة ما بعد الولادة، واحتمالية إصابتها بالاكتئاب، وطرق تخطيها للمشاعر السلبية، فتقول "في الولادة الأولى ورغم مشاعر الحب الكبيرة اتجاه طفلي، كان ينتابني أحساس بشع جدًا، وأبكي بسبب وبلا سبب، كنت أحتاج لدعم زوجي بالدرجة الأولى، لكن هو أيضًا كان يشعر بأن طاقته فرغت على تحمّل مسؤولية المنزل والعمل والمصاريف الباهظة، لم نكن مدركين لما نشعر، لم نتلق أي توعية أو دعم".

نور (28 عامًا) أفصحت في حديث ودود لألترا صوت عما عاشته بعد ولادتها الأولى وحملها الثاني، "حملت خلال أشهر قليلة بعد ولادتي الأولى، ودخلت باكتئاب شديد، لم أعد أسيطر على أعصابي، كرهت رضيعي، ولم أعد أطيق قربه مني، اختلقت المشاكل مع زوجي، وكنت أشعر أنني جنيت على طفلي الأول، وسأجني على الثاني، حتى أنني بشهري السابع من حملي، طلبت من الدكتورة أن تولّدني حتى أرتاح، أخبرتها أنني جُننت، فكرت بجدية في أن آخذ طفلي الأول وأمشي، وأتخلى عن طفلي الثاني".

وتمنّت نور أن يكون للأم دعم أكثر، وأن يصبح مع الدكاترة النسائية أخصائي نفسي يدرس الحالات ويتدخل إذا احتاج الوضع، وهذا ما تفعله دول تقدم إرشادات ومتابعات مستمرة للأمهات الحوامل والمنجبات، وفق ما ذكرت الدكتورة دجانة بارودي المعالجة النفسية والمختصة بعلم النفس التربوي لموقع ألترا صوت.

إلى ذلك، بيّنت بارودي أن مرحلة ما بعد الولادة تعرّض المرأة لتقلبات مزاجية طبيعية ونفسية كبيرة، تكون خفيفة ومتوسطة الشدة في بعض الأحيان بسبب البيئة المحيطة والتغيرات العضوية والهرمونية التي تصاحب عملية الإنجاب، وتصل أحيانًا إلى اكتئاب حاد يحتاج إلى تدخل طبي وعلاج بالأدوية، وتصاب بدرجته الشديدة واحدة من كل 500 أم، خصوصًا من كان لدى عائلتها سجل مرضي.

أم عمر (30 عامًا) وهي أم لثلاثة أطفال، تروي لألترا صوت عن معاناتها "أصابني اكتئاب ما بعد الولادة، لكن لم أكن أملك الثقافة الكافية لمعرفة حقيقة مشاعري، وكيفية التعامل معها، كنت أتساءل لماذا فعلت هذا بنفسي، أجلد ذاتي لأنني أنجبت طفلًا سيتعذب في هذه الحياة، لا أستحق أن أكون أمًا، كررت ذلك كثيرًا، حتى أنني تمنيت لو يموت طفلي آنذاك، أنا أنجبت عندما كان عمري 17 عامًا، لم يكن هناك توعية حول خطورة الزواج المبكر، وبالمقابل أيضًا لم أجد دعمًا بعد الزواج والإنجاب".

كذلك حال أم يوسف (40 عامًا)، أم منذ 10 سنوات، تقول "بعد ولادتي الأولى أصبت باكتئاب، وضعت طفلي في جو عاصف ومثلج، وكانت الكهرباء سيئة في منزلي، لدرجة أنني كنت أرضعه على ضوء الشمعة، لم يشرح لي أحد عن كيفية الرضاعة، وكم هي مرهقة وتحتاج لصبر، أما زوجي فكان كل وقته يهرب من المنزل إلى العمل، استمرت مشاعري السلبية لمدة شهرين تقريبًا".

وأسهبت بالشرح عن مشاعر قليل من النساء يتحدثن عنها "كنت أرضع طفلي لساعات متواصلة أحيانًا، وأستحي أن أطلب المساعدة من إحدى أقاربي، علاقتي فترت مع زوجي، خصوصًا أن طفلًا موجودًا في غرفتنا، وحليب ثدي يملأ فراشي دائمًا، كان شعورًا صعبًا ومحرجًا للغاية، كنت أعرف أنني أعاني من مشاعر سلبية، لكن لا أعرف ما حلّها، ولذا أنشأت مجموعة عبر فيسبوك للأمهات فقط، حتى نساعد بعضنا بعضًا"، وربما أم يوسف واحدة من آلاف الأمهات اللاتي يلجأن إلى مواقع التواصل للاستفسار وكسب الخبرات من تجارب الآخرين.

من جانبها، بعثت أم فضلت عدم ذكر اسمها، برسالة إيجابية لنظيراتها من الأمهات، لخّصت فيها قصتها "مررت بظروف صعبة جدًا آخر حملي وبعد ولادتي، توفي اثنان من عائلتي، كان الجميع حزينًا، وبكيت أنا كذلك كثيرًا، لكنني كنت سعيدة أيضًا بطفلتي بمشاعر مضاعفة، هذه رسالتي لكل أم، لا تستلمي لظروفك وكوني أقوى من مشاعرك السلبية وهرموناتك المتخبّطة".

وتوضح بارودي المعالجة النفسية أن الأعراض المصاحبة لفترة ما بعد الولادة تشمل التوتر والقلق، البكاء، الاضطراب بالشهية، وكل ذلك قد يسبب قلة النوم، وأحيانا يكون بسبب قلة النوم، إلا أن هذه المشاعر تتبدل بعد مرور أيام قليلة.

أما في الحالات الشديدة، أو ما يسمّى بـ "اكتئاب ما بعد الولادة"،  وهو مشكلة نفسية حقيقية تصل للمرضية، تحتاج لتدخل الطبيب، فتصيب الأم هلوسات وأحاسيس غير حقيقية، وقد تشم روائح غير موجودة مثلًا، كما تكون مفرطة المشاعر حيال أي تصرف يبدر منها أو من الآخرين أو حتى من رضيعها، وتحتاج الأم بهذه الحالة إلى علاج معرفي سلوكي ودوائي، وفق بارودي.

وأشارت الإخصائية بعلم النفس التربوي، إلى دور الزوج الأساسي والمهم بتقديم الدعم لزوجته، ومساعدتها على اجتياز هذه المرحلة، خصوصًا مع تغيرات جسد المرأة ومع يصاحبها من ضعف ثقة المرأة بنفسها، وعدم تقبلها لزيادة الوزن أو النحافة أو آثار العملية في حال الولادة القيصيرية، مشددة على تقبّل وسعادة المرأة بإنجابها طفلًا وأثر ذلك على جسدها، مع الاهتمام بجسدها فور استطاعتها ممارسة الرياضة، "القلق وكره الجسد مرفوض، وإذا وجد يجب ألا يكون قبل مرور ستة أشهر على الولادة.

كما نصحت بارودي بالاستعداد للولادة، من خلال طلب الرعاية من قبل الأهل، وتجهيز مستلزمات الطفل، وألا تنسى الأم تسجيل لحظات نمو طفلها بصور وذكريات جميلة، وأن تتذكر نفسها بهواية أو تعطي نفسها حق النوم لفترة معقولة بموجب مساعدة من محيطها، أما من لديها تاريخ مرضي أو بأسرتها من أصيب باكتئاب سابقًا، فيجب المتابعة مع مختص واعتبار ذلك أولوية.

تؤكّد إحصاءات منظمة الصحة العالمية أن 10 بالمئة على الأقل من النساء حول العالم يعانين من اكتئاب الحمل

تؤكّد إحصاءات منظمة الصحة العالمية أن 10 بالمئة على الأقل من النساء حول العالم يعانين من اكتئاب الحمل، وتزداد هذه النسبة لتصل إلى 13 بالمئة بعد الولادة. أما في الدول النامية فتتزايد هذه المشكلة ورصدها تعقيدًا، وبحسب بعض التقديرات فإن اكتئاب بعد الولادة يؤثر على 20 بالمئة على الأقل من السيدات بعد الولادة. أما عربيًا، فتعاني النساء من عدم توفّر سبل الدعم الكافية في الفترة الحرجة بعد الوضع، كما يحيط بمسألة الاكتئاب عمومًا وصمة اجتماعية تحول دون التعامل مع المشكلة بالسبل الصحيحة، لو توفّرت، هذا عدا عن الوصمة المضاعفة التي تلاحق الأم في حال عبّرت عن معاناتها النفسية والذهنية في هذه المرحلة، وهو ما يؤدي في بعض الأحيان إلى نتائج كارثية عليها، وعلى الأبناء.