24-يناير-2025
إحدى مقرات حزب الجبهة الوطنية (منصة إكس)

إحدى مقرات حزب الجبهة الوطنية (منصة إكس)

 

المتابع للإعلام المصري حاليًا، وما يبثه على الهواء مباشرة بالصوت والصورة، للطوابير الممتدة أمام مكاتب الشهر العقاري بمختلف المحافظات داخل مصر وبعض العواصم العربية والأجنبية، لتحرير توكيلات تأسيس حزب "الجبهة الوطنية"، الوافد الجديد على الخارطة الحزبية المصرية، يشعر منذ الوهلة الأولى بأنه في خضم معركة سياسية من الطراز الأول، زخم لم يعرفه الشارع المصري، وحضور جماهيري يوحي بالتشاركية الشعبية السياسية.

موازاة مع هذا الزخم المُروج له إعلاميًا بشكل مخيف، تجوب مواكب السيارات الفخمة، رباعية الدفع، التي تحمل اسم وشعار الحزب الجديد، العديد من المدن، في كرنفال يحبس الأنفاس، واستعراض قوة مثير للجدل والسخرية معًا، فارضًا حزمة من التساؤلات الحرجة: من الذي جمع كل تلك الأعداد الغفيرة لتحرير توكيلات لحزب مجهول الهوية، وهي الأعداد التي يصعب تجميعها في الاستحقاقات الرسمية كالانتخابات البرلمانية أو الرئاسية؟ ومن الذي ينفق على هذا الحراك بهذا البذخ؟ وما الهدف من تأسيس مثل هذا الكيان في وجود أحزاب أخرى تمثل النظام وتقوم بدور الظهير السياسي له؟

سرعة تكوين حزب "الجبهة الوطنية" بهذه القوة والميزانية المفتوحة كانت أمرًا مريبًا، لكنه لم يكن الشيء المريب الوحيد إذ كانت الهيئة التأسيسية للحزب أكثر ريبة، تلك التي ضمت رجالات الصف الأول من الدولة سابقًا من وزراء، اقتصاديين، إعلاميين، رجال دين وجنرالات

في منتصف أيار/مايو الماضي، خرجت بعض وسائل الإعلام المصرية لتعلن بشكل مفاجئ عن استعدادات "اتحاد القبائل والعائلات المصرية" (تكتل مستقل يتزعمه رجل الأعمال إبراهيم العرجاني، المالك لشركة "هلا" المسؤولة عن تنسيقات معبر رفح) وعدد من كبار المسؤولين في الدولة لتأسيس حزب جديد، لم يُحدد اسمه بعد. وبعد ستة أشهر تقريبًا، وفي نهاية كانون الأول/ديسمبر الماضي، تم الإعلان رسميًا عن تدشين هذا الكيان تحت اسم "حزب الجبهة الوطنية".

سرعة تدشين الحزب بهذه القوة وتلك الميزانية المفتوحة كانت أمرًا مريبًا، لكنه لم يكن الشيء المريب الوحيد في هذا الأمر؛ إذ كانت الهيئة التأسيسية للحزب أكثر ريبة، تلك التي ضمت رجالات الصف الأول من الدولة سابقًا من بينهم وزراء، اقتصاديين، إعلاميين، رجال دين وجنرالات. أبرزهم: وزير الإسكان السابق عاصم الجزار، ووزير الزراعة الأسبق السيد القصير، ومحافظ الغربية الأسبق أحمد صقر، والنائب أحمد رسلان، بجانب رجل الأعمال المخضرم محمد أبو العينين، وكيل مجلس النواب (البرلمان)، والإعلامي ضياء رشوان، والكاتب يوسف القعيد، ومفتي الجمهورية السابق شوقي علام، بالإضافة إلى نجل ممول الحزب وراعيه الأول إبراهيم العرجاني.

السؤال الأول الذي فرض نفسه مع تدشين هذا الحزب كان حول الفارق بينه وبين حزب "مستقبل وطن"، المعروف بأنه حزب الدولة والظهير السياسي للنظام الحالي، والذي يضم بين جنباته قيادات الصفين الأول والثاني وربما الثالث لرجالات الحكومة من الوزراء والمسؤولين في مختلف المجالات. ألا يمثل ذلك تضاربًا؟ تعارضًا؟ تناقضًا؟

وبين غمضة عين وانتباهتها، أصبح هذا الكيان الوليد المنتفخ حديث الشارع، بين مؤيد بزعم إثراء الحياة السياسية وتعزيز التجربة الديمقراطية وثقافة الحوار، ومتحفظ بداعي عدم حاجة الساحة السياسية المصرية لأحزاب جديدة في هذا التوقيت، لا سيما من هذا النوع المثير للجدل الذي لا يُعرف من أين أتى؟ وإلى أين يذهب؟ وما هو مساره؟

 

أحزاب الباراشوت.. التجربة العشرية

تُدشن الأحزاب في أغلبها، بحسب نظريات علوم السياسة، وفق استراتيجية "الهرم المُدرج المعدول"، حيث يتم بناء قاعدة جماهيرية أولًا، يعقبها برنامج سياسي واضح الهوية ومحدد الأهداف، وصولًا إلى قمة الهرم السلطوي. لكن ما يحدث في مصر خلال العشرية الأخيرة يعاكس تلك النظريات شكلًا ومضمونًا، حيث اعتماد "الهرم المقلوب" المبني على تحديد الرأس أولًا من أسماء ذات ثقل سياسي واقتصادي وإعلامي تتصدر المشهد، ثم يتم البناء عليها على أمل تكوين قاعدة جماهيرية، دون حضور لبرنامج أو خطة عمل.

تُدشن الأحزاب في أغلبها، بحسب نظريات علوم السياسة، وفق استراتيجية "الهرم المُدرج المعدول"، حيث يتم بناء قاعدة جماهيرية أولًا، يعقبها برنامج سياسي واضح الهوية ومحدد الأهداف، وصولًا إلى قمة الهرم السلطوي. لكن ما يحدث في مصر خلال العشرية الأخيرة يعاكس تلك النظريات شكلًا ومضمونًا

ويُعرف هذا النوع من الكيانات بـ "أحزاب الباراشوت"، تلك التي تهبط على الساحة عبر مظلة من السماء دون قاعدة لها على الأرض، وهو ما أكده عضوا الهيئة التأسيسية للحزب، عاصم الجزار، وضياء رشوان، خلال تصريحات متلفزة لهما أثارت الكثير من السخرية، إذ أشارا إلى أن الحزب ليس لديه برنامج حقيقي ولا رؤية واضحة، فهو ليس حزبًا مواليًا للسلطة ولا للمعارضة، ولا يطمح في الحكم، وليس لديه أي مطامع سياسية، لينفيا عن الحزب – بقصد أو دون قصد- كافة الدوافع والمسببات التي على أساسها تُؤسس مثل هذه الكيانات.

لم يكن "الجبهة الوطنية" هو حزب الباراشوت الوحيد خلال الآونة الأخيرة. ففي 2014 تم تدشين حزب "مستقبل وطن" الذي عُرف حينها بأنه خليفة "الحزب الوطني" المنحل، والذي احتكر المشهد السياسي خلال الفترة الأخيرة وهيمن على صناعة القرار السياسي في البرلمان والمحليات ومن خلال السلطة التنفيذية، واعتبره كثيرون الظهير السياسي للنظام ورئيسه عبد الفتاح السيسي.

واليوم، وبعد عشر سنوات من تأسيس "مستقبل وطن"، ها هي الساحة تتهيأ لكيان جديد، بنفس الثقل وربما أكثر قوة، دون وضوح الرؤية بعد بشأن ما إذا كان سيسحب البساط من تحت أقدام الحزب الأول أم سيسير بالتوازي معه جنبًا إلى جنب، في ظل هرولة الكثيرين من أنصار مستقبل وطن للانضمام للحزب الجديد في تحرك أثار الكثير من التساؤلات.

وفقد "مستقبل وطن" خلال تجربته الممتدة على مدار عشر سنوات كاملة الكثير من المصداقية وثقة الشارع المصري به، بعدما تحول إلى النسخة الأكثر قبحًا من الحزب الوطني المنحل، شكلًا ومضمونًا. إذ وسّع قاعدته استنادًا إلى رموز النظام السابق، وبذات السياسات والاستراتيجيات التي وسعت الهوة بين الدولة والشارع. الأمر الذي قد يستدعي إجراء بعض التغييرات العاجلة والدفع بلاعب جديد قد يستحوذ على إعجاب وهتافات الجماهير في المدرجات، ويقلل نسبيًا من الهتافات المسيئة للاعب القديم.

 

هل مصر فعلاً بحاجة إلى أحزاب سياسية؟

المنتشون زهوًا بالحزب الجديد يعزفون على وتر احتياج الساحة السياسية المصرية لضخ دماء جديدة تعيد الروح للحياة الحزبية وترفعها من على أجهزة التنفس الصناعي المتواجدة عليه منذ سنوات، غير أن مثل تلك المزاعم تصطدم بلغة الأرقام التي في أغلبها لا تكذب. إذ يوجد في مصر 87 حزبًا سياسيًا، 14 منها ممثلة في البرلمان الحالي. يتصدرها بطبيعة الحال حزب الدولة "مستقبل وطن" بأغلبية 320 مقعدًا، يليه "الجمهوري الحر" الموالي للنظام كذلك بـ 50 مقعدًا، ثم حزب "الوفد" المستأنس رغم وصفه بالمعارض بـ 39 مقعدًا، يليه حزب "حماة وطن" الموالي بـ 27 مقعدًا، ثم حزب "النور" الإسلامي بـ 11 مقعدًا، وأخيرًا حزب "المؤتمر" بـ 8 مقاعد.

الخارطة الحزبية سالفة الذكر تشير إلى أن مصر ليست بحاجة إلى أحزاب جديدة، لا من حيث الشكل ولا المضمون. فالأحزاب الداعمة للنظام تهيمن على الساحة وتحتل الكعكة السياسية بأكملها، أما الأحزاب المعارضة أو التي تُسمي نفسها كذلك فهي في حقيقتها أحزاب مستأنسة ومدجنة ولا قلق منها على الإطلاق، فيما يقبع الباقون في الركن البعيد الهادئ خارج دائرة الضوء والحضور، كيانات كرتونية لا حضور لها.

الخارطة الحزبية تشير إلى أن مصر ليست بحاجة إلى أحزاب جديدة، فالأحزاب الداعمة للنظام تهيمن على الساحة وتحتل الكعكة السياسية بأكملها، أما الأحزاب المعارضة أو التي تُسمي نفسها كذلك فهي في حقيقتها أحزاب مستأنسة ومدجنة ولا قلق منها على الإطلاق، فيما يقبع الباقون في الركن البعيد ككيانات كرتونية لا حضور لها

ولو افترضنا أن الساحة بحاجة إلى أحزاب جديدة، فمن باب أولى تُمنح الأحزاب تحت التأسيس التيسيرات المطلوبة لإشهارها بشكل قانوني بدلًا من بقائها على قوائم الانتظار لسنوات طويلة بسبب عدم القدرة على استيفاء الشروط اللازمة والمعقدة. لا أن يأتي حزب جديد بالباراشوت من بعيد ليفرض نفسه على المشهد بصفته أحد اللاعبين الأساسيين والمؤثرين، إن لم يكن اللاعب الأهم والمسيطر على الفريق بأكمله.

وبعيدًا عن الدفوع التي يسوقها أعضاء الهيئة التأسيسية لـ "الجبهة الوطنية" بشأن اختلافهم عن "مستقبل وطن" وأنهم أصحاب مشروع مغاير وليست لديهم أطماع سلطوية، لكن القاصي والداني في مصر وخارجها يعلم أن كلا الحزبين نابعان من مداد واحد، ومن مصدر واحد، ومن ممول واحد، ولهم أجندة واحدة وهدف واحد، واستراتيجية واحدة. باختصار، هما وجهان لعملة واحدة، ويسيران وفق بوصلة واحدة هي دعم النظام الحاكم، وهو ما يسترعي التساؤل حول الهدف من تلك الازدواجية غير المفهومة لكثير من المراقبين.

 

استراتيجية (Market Share)

في الفيلم المصري الكوميدي "جعلتني مجرمًا" (إنتاج عام 2006) استخدم الفنان أحمد حلمي جملته الشهيرة "كُل نفسك قبل ما حد ياكلك"، والتي أصبحت فيما بعد "إفيه" لدى الكثير من المصريين، دون معرفة حقيقة تلك العبارة التي تجسد حرفيًا الاستراتيجية التسويقية المعروفة بـ "Market Share"، والتي تشير إلى لجوء بعض الشركات التي تعاني من ضعف في مبيعات السلع الخاصة بها لاستحداث منتج أو سلعة أخرى - بجانب السلعة التي تنتجها في الأساس - بهدف الحصول على أكبر قدر ممكن من السوق.

هذه الاستراتيجية تبنتها العديد من الشركات بعدما ثبتت جدواها الاقتصادية. ففي سباق التنافس على سوق التواصل الاجتماعي على سبيل المثال، سعى مؤسس شركة "Meta"، مارك زوكربيرغ، لتدشين منصات أخرى للاستحواذ على القدر الأكبر من هذا السوق، فأنشأ "واتساب" و"إنستغرام" إلى جانب المنصة الرئيسية الأولى "فيسبوك". الاستراتيجية ذاتها نفذتها شركة "HUAWEI" الصينية التي طرحت سلسلة هواتف جديدة في الأسواق إلى جانب هاتفها الأصلي أسمتها "Honor"، وهو نفس ما فعلته شركة "Oppo".

تتطابق تلك الاستراتيجية التسويقية مع تطورات المشهد الحزبي في مصر، والذي يهيمن عليه تيار واحد فقط. فيتم طرح حزب جديد (الجبهة الوطنية) على الساحة، بنكهة مغايرة ودماء جديدة، ووعود براقة، يستحوذ على شريحة ملائمة من الكعكة (السوق السياسي الانتخابي والشعبي). وسواء كانت تلك الشريحة هي من نصيب الحزب المهيمن على السوق حاليًا (مستقبل وطن) أو من الجزء المتبقي، فإن هذا التيار في النهاية هو الرابح الأكبر، كون الحزب الجديد يأكل من حصته قبل أن يأتي حزب آخر يأكل منها. وبذلك يحافظ على حضوره الجماهيري عبر رافدين مختلفين، كل يأكل من نصيب الآخر.

يهيمن على المشهد الحزبي المصري تيار واحد فقط فيتم طرح حزب جديد (الجبهة الوطنية) من نفس التيار بنكهة مغايرة ودماء جديدة، ووعود براقة، يستحوذ على شريحة ملائمة من الكعكة.. وهذا التيار في النهاية هو الرابح الأكبر، كون الحزب الجديد يأكل من حصته قبل أن يأتي حزب آخر ليأكل منها

 

هندسة على الطريقة الأميركية

يؤمل صانع القرار في مصر نفسه بهندسة المشهد الحزبي على الطريقة الأميركية، "جبهة ومستقبل" على غرار الديمقراطيين والجمهوريين، بما يغلق الباب تمامًا أمام أي محاولات للأحزاب والكيانات الأخرى في المنافسة. متناسيًا البون الشاسع بين النموذجين، من حيث الرؤى والاستراتيجيات والممارسة، ناهيك عن الأهداف والمسارات، وهو ما يجعل من الاقتراب من تلك المحاكاة مدعاة للسخرية قبل أن تكون دربًا من الخيال في ضوء افتقاد المناخ السياسي المصري لأبجديات العمل السياسي الحر.

يؤمل صانع القرار في مصر بهندسة المشهد الحزبي على الطريقة الأميركية، "جبهة ومستقبل" على غرار الديمقراطيين والجمهوريين، بما يغلق الباب تمامًا أمام أي محاولات للأحزاب والكيانات الأخرى في المنافسة متناسيًا البون الشاسع بين النموذجين، من حيث الرؤى والاستراتيجيات والممارسة

المثير للقلق هنا أن يكون المشهد أقرب للنموذج الكوري الشمالي، حيث هيمنة الحزب الواحد على الساحة بشكل مطلق، تحت ستار تحالف شكلي، كما هو حال حزب "العمال" الذي يرأسه رئيس كوريا البلاد كيم جونغ إل، خلفًا لوالده كيم إل سونغ، والمنضوي مع الحزب الاشتراكي الديمقراطي وحزب شوندوغيو شونغ يو، تحت مظلة "الجبهة الديمقراطية" بزعم توحيد الوطن.

تشير التجربة إلى أن الأزمة، منذ أن عرفت مصر الحياة الحزبية نهاية القرن التاسع عشر، ليست في عدد الأحزاب ولا هويتها ولا حتى خلفيتها الأيديولوجية، فالمعضلة في المناخ العام، في سقف الحريات المنخفض، في القبضة الأمنية المحكمة، التي شكلت سورًا كبيرًا بين الشارع والعمل السياسي، وحولت الدولة إلى كيان حبيس داخل غرف مغلقة من الخوف والقلق من ممارسة أبسط حقوقه السياسية.