23-مايو-2023
كاريكاتير لـ اليكس فالكون تشانغ

كاريكاتير لـ اليكس فالكون تشانغ/ كوبا

كذب من قال "ما في حدا بموت من الجوع!"، حيث قدرت مئات المنظمات الإنسانية في العام 2022 أن إنسانًا يموت في كل أربعة ثوانٍ بسبب الجوع. ويبدو أن نفي وجود الجوع بات البروباغندا المفضلة للأنظمة السلطوية، خصوصًا في منطقتنا، سائرين على خطى رئيس اللجنة التنفيذية المركزية السوفييتية ميخائيل كالينين في ثلاثينيات القرن الماضي عندما أنكر وقوع مجاعة الرعب في أوكرانيا المعروفة بـ "الهولودومور"، والتي أسفرت عن وفاة حوالي ثلاثة ملايين أوكراني، متذرعًا بأسطوانة المستبدين المشروخة التي ما زالت رائجة حتى يومنا هذا عن تعرض البلاد لمؤامرة كونية وحملات تشويه مشبوهة.

وللأسف، في عالمنا المعاصر الذي تقلصت فيه العدالة الاجتماعية لصالح توحش الطبقات الحاكمة، لم تعد السلطات راغبة في رؤية المسحوقين أو سماع تأوهاتهم، ولم تعد متسامحة حتى مع إلقاء الضوء على هذه المشكلة، وعلى الرغم من ارتفاع نسب الفقر في معظم البلدان العربية وتدهور الأحوال المعيشية، ما فتئ المسؤولون العرب ينفون وجود الجوع والفقر، فكانوا كمن كذب الكذبة وصدقها، وما شذَّ عن هذه السردية إلا قلة ممن يحلو للمستبد الإشارة لهم بالسوداويين، المندسين، حملة الأجندات من الطابور الخامس.

على الرغم من دعايات الأنظمة السلطوية فإن منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة (الفاو) قدرت بأن عدد الجياع في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا قد بلغ سنة 2020 ما يقرب من 70 مليون شخص

وعلى الرغم من دعايات الأنظمة السلطوية فإن منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة (الفاو) قدرت بأن عدد الجياع في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا قد بلغ سنة 2020 ما يقرب من 70 مليون شخص. مع استمرار انتشار الجوع في العالم العربي، الذي زاد بنسبة أكثر من تسعين في المائة في غضون 20 عام، وفقًا لمنظمة ميرسي كوربس. يحدث هذا بينما يواجه 20 مليون إنسان خطر المجاعة في اليمن، وجنوب السودان، والصومال ونيجيريا.

وبوجود 821 مليون شخص يعانون من الجوع حول العالم، يذهب شخص من كل تسعة في عالمنا إلى النوم جائعًا كل ليلة، عالم الوفرة والمفارقات، العالم الذي يجوع فيه مئات الملايين بينما يهدر فيه ما يقدر بـ 1.3 مليار طن من الأغذية الصالحة للاستهلاك البشري كل عام!

وعلى الرغم من أن معظم الخبراء يرجعون أسباب الجوع إلى الفقر وسوء توزيع الموارد، وإلى التغير المناخي والصراعات المسلحة وعدم القدرة على الوصول إلى التعليم والخدمات الصحية؛ فإن تحميل المسؤولية للقدر وإلقاء اللوم على الحظ السيئ وبعض من سوء الإدارة والتخطيط فيه كثير من التسطيح والسذاجة، في عالم ترسم خطوطه الدول الاستعمارية على المستوى الدولي، ودمى المستعمر من الأنظمة السلطوية على المستويات الوطنية بغض النظر عن اختلاف لون العباءات التي قد ترتديها. وعليه فإن أي تفكير في الأسباب الهيكلية للجوع، خصوصًا في دول العالم النامية، لا يجب أن يستبعد السياسات الممنهجة لكلٍ من المستعمر الحديث والأنظمة السلطوية على حدٍ سواء.

فلطالما اعتمدت الأنظمة السلطوية على تسليح الجوع، والسيطرة على الطعام كأداة من أدوات بسط سيطرتها على المجتمع، ضمن سياسات إفقار وتجويع متعمدة، وليست وليدة مشاكل اقتصادية أو طبيعية فقط، سياسات قد تختلف بعض دوافعها باختلاف السياقات، ولكنها بمجملها حولت الجوع من مجرد نتيجة فقط إلى مخرج لعملية تجويع ممأسسة، عملية تهدف إلى بسط السيطرة على المجتمع من خلال دفع الناس دفعًا للهاث وراء لقمة العيش، وإلهائهم بتأمين قوت يومهم حتى لا يجدوا الوقت أو الطاقة اللازمين للمدافعة عن أية قضايا أخرى.

تأتي سياسات التجويع مصحوبة بسياسات تلميع القيادات من خلال المبادرات التجميلية، والتي تطل فيها القيادات السلطوية من أبراجها العاجية بين الفينة والأخرى لتوزيع بعض الفتات بصور مختلفة لكسب الشعبية، سياسة أصبحت ديدن كثير من الأنظمة السلطوية، في منظومة تكرس شقاء الغالبية من أجل نعيم القلة، سياسة اختصرها غسان كنفاني بقوله "يسرقون رغيفك ثم يعطونك منه كِسرة ثم يأمرونك أن تشكرهم على كرمهم.. يالوقاحتهم!".

وحتى سياسات دعم أصناف الطعام الأساسية كالخبز، لا يمكن فصلها عن سياسات التجويع، إذ تمتد هذه السياسات لتشكل علاقة الناس بالدولة، بحيث ترسخ صورة النظام السلطوي على أنه الحافظ للاستقرار والحامي للأمن الغذائي، من خلال وعوده بدعم سعر رغيف الخبز وضمان توفيره يوميًا للناس ضمن سياسات تعزيز شرعية الأنظمة، بينما يحلق سعر كل شيء آخر.

وفي مستوى آخر، ومن خلال تزاوج السلطة غير الشرعي برأس المال، عملت السلطات والشركات العملاقة حول العالم إلى تحويل الإنسان من مواطن ذي حقوق إلى مجرد مستهلك، وحولت الغذاء الذي لطالما عد من أبسط الحقوق الإنسانية إلى مجرد سلعة يتم التلاعب بها لضمان الاستمرار في تحقيق الأرباح الفاحشة، وبدلًا من الاستثمار في إنتاج الغذاء بات الاستثمار منصبًا على السيطرة على أسعاره وضمان عدم كسر صغار المنتجين المحليين لاحتكار الدول الكبرى والشركات متعددة الجنسيات.

تم تحويل الإنسان من مواطن ذي حقوق إلى مجرد مستهلك، وتحويل الغذاء من أبسط الحقوق الإنسانية إلى سلعة يجري التلاعب بها لضمان الاستمرار في تحقيق الأرباح الفاحشة

ولا نستطيع طبعًا تجنب الحديث عن الاستعمار التاريخي والمعاصر ودوره في هندسة الجوع في المستعمرات السابقة، فقد تم تحويل المستعمرات لمجرد منتجين لأصناف غذائية من أجل التصدير لأوروبا على حساب الأصناف الاصلية التي كانت تشكل عمود النظام الغذائي في المستعمرات، وحتى يومنا هذا نرى كثير من الزراعات العملاقة في الدول النامية التي تركز على زراعة الورود والفراولة وغيرها بهدف التصدير على حساب الأصناف الغذائية الأساسية، بينما تستهلك هذه الزراعات موارد هائلة من المياه وتحتل أكثر الأراضي خصوبة!

وللأسف، حتى ملكيتها تعود للشركات العالمية متعددة الجنسيات، مما يحرم مجتمعات الدول النامية من العوائد الحقيقية تاركًا لهم الفتات.

بالتأكيد نحن بحاجة لمزيد من العمل في مجال تطوير الزراعة والصناعات الغذائية، ومكافحة التغير المناخي، وحل النزاعات المسلحة، والتوعية بالجوع من أجل مكافحته، لكن بشكل مواز علينا العمل بجدية على تحقيق العدالة الاجتماعية والمساواة، وعلينا العمل على الدعوة وحشد التأييد من أجل تغيير السياسات الدولية والوطنية التي تساهم في تجويع الناس عمدًا بهدف السيطرة، وكسر احتكار الشركات العالمية لسوق الغذاء.

في النهاية، علينا العمل بشكل جدي على حل الأسباب الهيكلية للجوع التي تم دمجها في سياسات تجويع متعمدة دون الاكتفاء بزيادة التبرعات الخيرية، أو أية مجموعة من الحلول التقنية التي قد تعالج الأعراض دون أن تعالج السبب الأساسي للجوع.