13-أكتوبر-2015

عمل للفنان إياد الصباح في غزة 2014 (Getty)

أتخيل نفسي نائمًا على كتفك داخل سيارة أجرة، تنقلنا السيارة من مطار دمشق إلى البيت الذي دُمّر ولم يعد له وجود، لكنه الآن موجود في خيالي كما هو، لست بحاجة إلى تأمل المكان، يكفي أن تتأملي أنتِ كل هذا الخراب خارج وداخل المكان، وذاكرتي. أما أنا يكفيني كتفك الذي أسند رأسي وقهري عليه.

ما فائدة مدينة نحبها ونتغنى بِقدمها والحضارات التي مرّت واندثرت فيها، ولم نكن سوى عبيد فيها؟

وأريد أن تراقبي كيف تغمر السكينة روحي عندما يهطل المطر في دمشق، وكيف أصبح ساذجًا أكثر من اللازم، وكأني لم أقرأ رواية "الجهل" لميلان كونديرا، وكأني لم أُشف من لعنة المكان، وهناك احتمالات كثيرة بأن نذهب إلى دمشق ولا نجدها! قد نجد مكانًا غريبًا عنّا لا فرق بينه وبين الأماكن التي ذهبنا إليها أو التي عشنا فيها. قد تقولين لي وأنتِ مصدومة من الصورة التي رسمتُها لكِ عن المدينة، وماترينه أمامك: هذه هي دمشق التي حدثتني عنها؟! 

إلا أن هناك احتمالًا كبيرًا بأن تكون هذه الصيغة النهائية من "جثة المدينة" بعد أن سمحوا لها بأن تكون جثة مدينة. من الأشياء التي من الجيد إدراكها، هو إدراكنا بأن هذه المدينة قد ماتت، على الأقل كي ندرك أن طوال الخمسين عامًا لم نكن ندري أن هذه المدينة تحتضر، كما كنا نحن أنفسنا نحتضر، من دون أن ندري ما سبب هذا الكتمان الذي يُعيق تنفسنا، وانسياب الكلام من أفواهنا.

ما فائدة مدينة نحبها ونتغنى بِقدمها والحضارات التي مرّت واندثرت فيها، ولم نكن سوى عبيد فيها؟ لكن ضعفنا تجاه اقتلاعها من وجداننا، هو أننا ولدنا فيها، وذاكرتنا الأولى كبشر تكونت فيها، وأن فيها لغة وبشر أحياء وأموات، ولغة تربطنا فيها، وليست اللغة مجرد لغة كلام، وكتابة، وتاريخ يسّطر من خلالها، إنها لغة الروح، وفيها بداية قصتنا.

كم "بداية" محفورة في داخلنا؟ نحن شعوب البدايات، المصابين بلعنة اللانهايات. وتذكّر كل بداية هو محاولة لفتح جرح لم يندمل بالأصل، في "اللاجدوى"، إنه الشعور الذي يذكرك بأن إحساسك بالعجز قد يظل بداخلك إلى الأبد! 

عشر سنوات مضت على تلك الليلة، التي مزّقتُ فيها مئة وخمسين نصًا تقريبًا، كانت تشكّل التجربة الأولى لي في الكتابة، إضافة إلى مسودتين، ولم أكتف بتمزيقها، بل بإحراقها أيضًا، لكي لا تقع بيد أحد، ويحاول ترميمها. وكانت أسبابي في التخلص من هذه النصوص والمسودات هي أني رأيت أن هذه الكتابات مليئة بركاكة الأسلوب، وسطحية تناولي للأفكار، وأنني شعرت بالخوف بأن تقع هذا الأوراق بيد صديق يحترف الكتابة، ويتم إعدامي ككاتب بسبب هذه البداية المحبطة. 

صحيح أنّ كل البيوت مهدمة، لكن تحت ركامها توجد القصة الكاملة لـ"البدايات"

ما يذكرني بهذه الحادثة اليوم، هو أنني في ذات الليلة وبعد أن غرقت في نومٍ عميق، حلمت أن الحي الذي أعيش فيه اختفى، وحلت محله أرض جرداء قاحلة. كان أبي واقفًا بجانبي يسألني: أين ذهب البيت؟! كان واضحًا من ملامح الأرض والمكان؛ أن البيوت اقتلعت من جذورها!

في الصباح لم أخبر أمي ما رأيته في الحلم، لكني أخبرتها بفعلتي الشنيعة، التي ارتكبتها في تلك الليلة، لكن من دون أن أشعرها بأن الأمر أثر بي، لكي أعرف مارأيها. وماكان منها إلا أن أصابتها صدمة، وغضبت غضبًا شديدًا من فعلتي، وهي التي ليس عندها اهتمامات أدبية أبدًا، وحزنت بشدة على كتاباتي الركيكة، وكأنهم أطفالها!

مع ذلك لا أستطيع اليوم، أن أمحو من ذاكرتي ما كان يعصف بذهني، عندما كتبت تلك النصوص، إلى الآن أشعر أنَّ هناك رمادًا في الذاكرة، تراوده دومًا فكرة الاشتعال. الحيّ مدمر بالكامل اليوم، كل البيوت مهدمة، وتحت ركام كل بيت توجد القصة الكاملة لـ"البدايات"، وهناك تحت ركام بيتنا، ما زال يوجد لي بدايات مليئة بالركاكة، لكن لو عدت يومًا وتأملتها، هل سأجدها بحاجة إلى التنقيح؟ مثلما أنقح ذاكرتي الآن، صورة المدينة المدمرة، أحاول جاهدًا أن أتمسك بصورة المكان كما كان، لم يستطع كل هذا الدمار أن يقتلع تفاصيل المكان من الذاكرة، ويا ترى.. أين تبدأ جذور المكان؟ وأين تنتهي؟

اقرأ/ي أيضًا:
السحر وامتلاك العالم

المناطق المحررة.. أرض سورية محروقة