22-يوليو-2020

مدخل مسرح سينما أورسولاينز الباريسي (ستيفاني دي سكاتون/ا.ف.ب/Getty)

تستند الكثير من الأفلام إلى الروايات وكل منهما يستخدم طرقًا مختلفة لسرد القصص، ويكاد لا ينته النقاش حول العلاقة بينهما. ففي كل مرة يتم إنتاج فيلم مقتبس عن رواية ما، تبدأ الآراء المتعددة بتناول الموضوع حول مدى نجاح الفيلم في نقل روحية الرواية ومضامينها. يتعامل الجمهور مع الأمر وفق مقاربة "المقارنة" بين الفيلم والرواية دون الأخذ في الاعتبار الاختلافات الجوهرية التي تحكم العملين، خاصة وأن أحدهما عمل أدبي وثانيهما عمل فني، ولكل منهما عناصره الخاصة والمميزة والمختلفة عن الأخر.

الرواية هي الباب الأول الذي يحكي الحكاية ويسرد القصة ويقدمها إلى الجمهور، وترسخ بذلك في ذهن القراء كأنها أول وثيقة صحيحة وحقيقية على حساب الفيلم

كثيرًا ما نسمع غداة مشاهدة أحد هذه الأفلام نقدًا على شاكلة "الرواية أجمل" أو "الفيلم نزع الرواية" أو "المخرج لم يستطع نقل ما في الرواية إلى الشاشة" وغيرها من المقولات التي تصب في أغلبها إلى جانب الرواية وليس إلى جانب الفيلم. ويعود السبب في ذلك إلى أن الرواية هي الباب الأول الذي يحكي الحكاية ويسرد القصة ويقدمها إلى الجمهور، وترسخ بذلك في ذهن القراء كأنها أول وثيقة صحيحة وحقيقية.

اقرأ/ي أيضًا: نتفليكس تعلن عن 10 من أفلامها الأصلية الأكثر مشاهدة على الإطلاق

كذلك يتعامل القراء مع الروايات بعاطفية مفرطة إذ يزعجهم وربما يخدش مشاعرهم ما يعتبرونه تلاعبًا بالرواية، أو ربما إعلاء لدور الكاتب المبدع وحقه في الحفاظ على روايته دون المس بها من قبل المنتجين والمخرجين وكتاب السيناريو. فما هي العلاقة بين الفيلم والرواية وكيف يمكن مقاربة المسألة؟

البحث في طبيعة الفيلم والرواية يؤدي إلى الاستنتاج أن كليهما لا يمكن أن ينتجا ويتركا نفس الآثار أثناء سرد قصصهما. على سبيل المثال، مصطلح "الوردة" يرمز إلى الوردة، وكذلك لوحة فيها وردة تدل على الوردة، وهنا يتضح الفرق في وسائط التعبير، فالفيلم مبني على المشهديات بينما يتكون النثر من علامات مكتوبة. فالصور في الفيلم تظهر ما تريده بشكل فوري ومباشر، فصورة الوردة على الشاشة تكون أقرب إلى الوردة من قراءة كلمة "الوردة" على الورق.

كما يمثل الصوت فرقًا إضافيًا بين الفيلم والرواية حيث أن وجود هذا الصوت الإنساني الحي يجعل العمل السينمائي أكثر وضوحًا وأكثر سهولة للاستيعاب. فالرواية لا تملك سوى الكلمة المكتوبة بينما الأصوات في الفيلم متعددة (الكلام- الموسيقى- الضجة- المؤثرات الصوتية) ويتم استعمالها لإيصال الرسائل والتعبير عن الأفكار وخلق أجواء تصل إلى أحاسيس المشاهد وتعبر عن عواطف الممثلين وتخدم هدف المشهد السينمائي، وهي خاصية تعجز الرواية عن نقلها.

فأهمية الأصوات والموسيقى والصور الحسية والألوان تمكن الفيلم من خلق أجواء الحياة الطبيعية، فيما يعبر الكاتب الروائي من خلال الكلمات الصامتة.  لكن ذلك لا يعني أبدًا أن نقاط الضعف في الرواية هي بالمعنى السلبي، لا بل على العكس، إنها من طبيعة خاصة ومميزة، حيث أن الكلمة الصامتة تمكن كل قارئ على حدة من بناء عالم روائي خاص في مخيلته.

لنأخذ مثلًا عنصر الألوان. لا تخوض الرواية في عنصر الألوان، والكاتب حين يكتب قصته لا يظهر لنا الرابط بين قصته وبين الألوان التي يجب أن تسود إحدى المقاطع أو المراحل في روايته، إلا فيما ندر. بينما نجد أن المخرج لا يمكن أن يتغافل عن الألوان والإضاءة ورمزيتهما بالنسبة إلى القصة ككل ودلالاتهما في نقل الرسائل إلى عين المتفرج. ولا يمكن التغاضي عن الأبحاث في هذا المضمار التي تتناول تأثيرات الضوء والألوان والظلام والظلال والأصوات والسرعة في حركة الكاميرا على الأعصاب والسيكولوجيا لدى الجمهور المشاهد.

كذلك زوايا التصوير حيث أن الروائي يسرد قصته بينما المخرج يصور ذات القصة من زوايا مختلفة، فربما يضع المخرج كاميرته في الأعلى ليصور مشهدًا ثابتًا أو مشهدًا متحركًا أو مشهدًا يركز فيه على اليدين والأصابع أو سمات الوجه وتعابيره. فالمخرج محكوم بزوايا وكادرات سينمائية وألوان وطبيعة صورة، بعكس الروائي الذي لديه عناصر مختلفة لنسج روايته.

يمثل الصوت فرقًا إضافيًا بين الفيلم والرواية حيث أن وجود هذا الصوت الإنساني الحي يجعل العمل السينمائي أكثر وضوحًا وأكثر سهولة للاستيعاب

هناك أمر جوهري بالغ الأهمية يتجلى في فن الممثل الذي يضخ الحياة في الشخصية ويقوم بخلقها من جديد ليضعها أمام أعين المشاهدين، فالممثل يبعث الحياة في شخصيات مرهفة بكل ما تنطوي عليه من مشاعر متناقضة، وهذه العملية تكاد لا تأخذ اهتمام من يتصدى للمقارنة بين الفيلم والرواية لأن جل اهتمامه يكون محصورًا بمضمون الفيلم ومقارنته مع مضمون الرواية التي اقتبس منها الفيلم. بينما يجب التشديد على أن صنعة الممثل هي فن بحد ذاته، وهي تعادل صنعة الكاتب الذي خلق الشخصية على الورق ثم قام الممثل بعده بضخ الحياة إليها وفق تقنيات تمثيلية متعددة.

اقرأ/ي أيضًا: ستالين والسينما.. من عين المخرج إلى يد الدولة

في المقابل تكمن الصعوبة في الفيلم في النواحي التجريدية، وبشكل خاص، الصعوبة في نقل العوالم الداخلية للشخصيات. فالكاتب يمكنه كتابة عشرات الصفحات عن رجل يجلس وحيدًا داخل القطار ويمتع القارئ بما يعتمل داخله وبالحوار الباطني بينه وبين ذاته، بينما هناك صعوبة في تثبيت الكاميرا لعشرات الدقائق على رجل يجلس وحيدًا في قطار.

إذ تصور الكاميرا السطح فقط وتبحث عن وسائل من أجل التعبير عن الأفكار والتصرفات والرؤى وخبايا النفوس. وعادة ما تكون هذه الوسائل على شاكلة لمحات ورموز ومناظر ذات دلالة. لكن تظل الصعوبة موجودة في وصف الحالات الداخلية للشخوص والعلاقات الاجتماعية بين الشخصيات، والأوضاع الاقتصادية والسياسية للظروف السائدة، والسياق الزمني والمكاني التي تجري داخله الأحداث، كما تفعل الرواية أو كما يفعل الروائي أثناء سرده التفاصيل بعشرات ومئات الصفحات.

أما لناحية أساليب السرد فهناك اختلاف أيضًا. فالفيلم يسرد قصة بدون وجود قصاص لها، حيث يكون الفيلم عبارة عن محاكاة للعلاقات والصراعات بين الشخصيات والمنظمات وغيرها، ويكون الحوار أسلوبها. فالفيلم يعرض القصة أمام الناس، ونحن نسمع ونشاهد ما يريد المخرج أن نسمعه ونشاهده، بينما تقوم الرواية على إخبار القصة للناس متضمنة أساليبًا سردية وحوارات، وهناك من يقول بأن "الرواية لها ثلاثة أزمنة، بينما الفيلم له زمن واحد".

كذلك هناك فارق يتعلق بمدة كل من الفيلم والرواية، وهو فرق كبير حيث يتناول الفيلم القصة في ثلاثة ساعات في الأغلب بينما تمتد الرواية إلى عشرات الصفحات التي تحتاج إلى وقت طويل لقراءتها. ومن الفروقات الجوهرية أيضًا، يجب التنبه إلى أن المشاهد في الفيلم يتلقى المشهديات والصور بعينيه وأذنيه وهو صامت، بينما قارئ الرواية بحاجة إلى القراءة واستخدام صوته، وكليهما يحتاجان إلى المخيال.

لا يعني تحويل الرواية إلى فيلم ضرورة الالتزام بكافة تفاصيل الرواية وحرفيتها وسردها وحوارها بدقة لامتناهية. هناك فروقات حتمية ستنتج عن اختلاف عناصر كل عمل، فالعمل السينمائي مختلف كل الاختلاف عن العمل الروائي، وهناك أنواع عدة منها: الاقتباس المباشر وهو النقل بشكل حرفي من الرواية، ومنها الاقتباس غير المباشر والاقتباس الجزئي والاقتباس الكلي. وتبعًا لذلك يتراوح مدى الاقتباس من الرواية إلى الفيلم.

من العناصر المهمة كذلك: "المدة الزمنية والشخصيات والعصر وتسارع الأحداث وإضافة شخصيات وحذف شخصيات، وتخطي مراحل وفترات زمنية من الرواية وتقليصها في الفيلم أو المرور عليها مرور الكرام، وأحيانًا تغيير المهن الخاصة بالشخصيات. ويمكن أيضًا تحويل الروايات التاريخية أو الروايات التي كتبت في قرون مضت، تحويلها إلى أفلام معاصرة تدور أحداثها في الوقت الراهن مع الحفاظ على القالب الأساسي للرواية.

كما هناك العديد من الروايات التي تم تحويلها إلى أفلام على يد العديد من المخرجين وشركات الإنتاج السينمائية وتمت إعادة إنتاجها بقوالب جديدة، وكانت في كل مرة تخرج على يد مخرج جديد بنكهة مختلفة ويتلقاها الجمهور بشكل مختلف في كل مرة، وسبب ذلك أن الفيلم هو حرفة ومهنة المخرج في نهاية المطاف. نجد أن رواية pride and prejudice قد تم تحويلها إلى أكثر من عشرة أفلام، وقد نشر أحدثها عام 2005، علمًا أنها نشرت في العام 1813 وكاتبتها جاين أوستن.

إضافة لكل ما سبق تعتبر الروايات مصدرًا هامًا من مصادر للأفلام. فالعديد من المخرجين يأخذون أفكار أفلامهم من الروايات. وهناك العديد من الصعوبات التي تكمن في تحويل هذه الروايات إلى أفلام، خاصة حين تكون الروايات طويلة جدًا أو تتضمن عدة أجزاء تطول لمئات الصفحات، وكذلك لأن المشاهدين يتعاطون بطريقة مختلفة مع الأفلام المقتبسة عن روايات ويبدأون بالمقارنة كما أسلفنا الذكر.

وفي مقدمة الصعوبات يأتي السؤال عن كيف يمكن للمخرج تحويل النص الورقي إلى مشهديات صورية ولقطات بواسطة الكاميرا؟. ثم يأتي دور كاتب السيناريو بتحويل السرد الموجود في القصة إلى حوارات بين الشخوص في الفيلم، وإلى أفعال Actions وحركة Motion. وهذه التعديلات على الرواية ستؤثر في المتلقين لأنها ذات حساسية ويمكن أن تطال جوهر الرواية أو تنقص منها أو تضيف إليها.

صنعة الممثل هي فن بحد ذاته، وهي تعادل صنعة الكاتب الذي خلق الشخصية على الورق

فيما يعتمد نجاح نقل الرواية إلى فيلم على الميزانية المالية المتاحة للمخرج ولفريق العمل، وعلى ذوق المشاهدين في مكان وزمان ما، وعلى قدرات المخرج ومواهبه ونظرته الثاقبة وعلى فهم النص الروائي جيدًا. وهذه العوامل غير موجودة في الرواية لأنها عمل إبداعي فردي لا تتطلب الجهود الجماعية المضنية التي يتطلبها الفيلم.

اقرأ/ي أيضًا: الوقت سينمائيًا.. سؤال خارج على الزمن

يرى المخرج في الفيلم  بعينيه ويصور المشاهد معتبرًا أن الكاميرا هي عينه، بينما الروائي يتخيل مشهدياته وينثرها على الورق. في كلتا الحالتين هناك عمليات إبداعية لكن كل عملية تختلف عن الأخرى من الناحية الإنسانية للذات المبدعة. على سبيل المثال، إذا راود حلم لأحد المخرجين أو الروائيين فكل واحد منهما سينقل هذا الحلم بطريقة مختلفة، وحتى لو طلب من أحد المخرجين نقل حلم أحد الروائيين من الورق إلى الكاميرا فإن النتاج سيكون بعيدًا كل البعد وربما لن يجد القارئ/المشاهد رابطًا بين العملين أو ربما سيتفاجئ بنسبة الشبه بينهما. ولذلك فإن الإبداع حالة ذاتية لا يمكن التنبؤ بها، ومن ثم فإن وضع قواعد ومقارنات بين الفيلم والرواية أشبه ما تكون بالتمنيات.

من أحد الأمثلة حول النقاشات التي أخذت حيزًا حول العلاقة بين الفيلم والرواية كان في رواية "العطر" للكاتب الألماني باتريك زوسكيند، وبين الفيلم المقتبس عنها من إخراج توم تيكوير، ومن بطولة "بن ويشاو" الذي جسد شخصية جان باتيست غرونوي. انتشر السؤال التالي بكثرة "هل استطاع المخرج أن ينقل إحساس رائحة العطر إلى الشاشة؟"، ولكن أيضًا "هل استطاع الكاتب أن ينقل إحساس رائحة العطر في روايته على الورق؟"، وكذلك "هل استطاع البطل أن يقنع المشاهدين والقراء بتجسيده شخصية جان باتيست غرونوي أمام الكاميرا وأن يظهر تناقضات الشخصية واضطراباتها النفسية ووضعها الإجتماعي؟".

كثيرون قالوا أن "الرواية أجمل". يمكن أن نعزو هكذا مقولات وهكذا خلاصات إلى أسباب عديدة، لكن ما يجب التأكيد عليه هو أن المشاهدين والقراء يحصلون على تجارب مختلفة من الرواية ومن الفيلم، سواء من الناحية الانطباعية الذاتية، أو من الناحية النقدية المهنية لعناصر كل من الفيلم والرواية حيث يكون النقد المقارن تبسيطيًا. ولذلك تصبح المقارنة غير ذات معنى ولا تستند إلى أي أساس منطقي أو فني علمي، وتصبح تبعًا لذلك الأسئلة السابقة حول المقارنة غير مهمة وفاقدة لشرعية السؤال والإجابة. وكما يقول ستيفن كينغ "إنها تشبه مقارنة التفاحة بالليمونة".

 

اقرأ/ي أيضًا: 

فيلم "Persona" لإنغمار برغمان.. ثنائية الوجه الحقيقي والقناع

كيف بدأت أفلام الرعب؟