فتح الأرشيف الأمني السوري أمامنا الأبواب على اتساعها للتفكير في أنّ هذه الجبال الهائلة من الأوراق والمراسلات والتقارير والدراسات الأمنية يمكنها أن تساهم في كتابة التاريخ السوري من منظور جديد وفريد، لأنها تقدّم مصدرًا جديدًا لكتابة التاريخ المحلي.
فإذا كان التاريخ المحلي يعتمد على السجلات الإدارية والقضائية، والروايات الشفوية، والصحف المحلية، والأدبيات الشعبية، وبطاقات الباصات وملصقات السينما والمسرح.. وكل ما يجعله أكثر قربًا من تفاصيل الحياة اليومية للناس؛ فإن هذه الرفوف المتراكمة من الأوراق على مر عقود من الرصد والمتابعة لشعب كامل تضيف روحًا جديدة للتاريخ المحلي الذي يمكن أن يُقرأ من زاوية غير معهودة.
يدخل الأرشيف دومًا في الكتابة التاريخية لدى كل الدول، ولعل المثال الأكبر يأتي من الدولة الصهيونية، خصوصًا من مدرسة المؤرخين الجدد الذين قاموا بكتابة تاريخ عُرف بـ"ما بعد الصهيونية"، اعتمدوا فيه على الأرشيف العسكري لعصابات الهاغاناه والأرغون والجيش الإسرائيلي.
لم يكتف بعض هؤلاء المؤرخين بالسرديات الرسمية التي كرّست صورة مشوهة عن التاريخ الفلسطيني، بل اتجهوا إلى التنقيب في هذا الأرشيف للوصول إلى قراءة جديدة لأحداث النكبة والصراع العربي الإسرائيلي، بل وحتى لمسار تشكيل دولة الاحتلال نفسها، ومن أبرزهم المؤرخ الشهير إيلان بابه الذي أصبح مؤرخًا فلسطينيًا.
يُظهر الأرشيف الأمني جانبًا مهمًا من آلية عمل أجهزته المختلفة، ليس فقط في توثيق القضايا والمتابعات، بل أيضًا في رسم صورة عن هذه الأجهزة لنفسها وللسلطة السياسية
في العموم، أظهرت هذه المدرسة التاريخية كيف يمكن للأرشيفات الرسمية، رغم كونها أدوات سلطة، أن تُستخدم لإعادة قراءة الماضي بشكل يكشف الحساسيات الجديدة، ويقوّض السرديات الرسمية. الأمر نفسه بالنسبة إلى أراشيف دول مثل ألمانيا الشرقية التي مثّل انهيارها بعد سقوط جدار برلين فرصة لاكتشاف دهاليز وأقبية جحيم القمع الذي عاشته، وقد بينّ فيلم "حياة الآخرين" ذلك الجانب ببراعة، حينما عرض كيف استخدمت الشرطة السرية "شتازي" ما استطاعت من وسائل للتجسس على حياة الأفراد.
أرشيف القمع في ألمانيا الشرقية، كما أخبرنا الفيلم، مصدر مهم لفهم المعاناة اليومية للناس وطرق السلطة في تدميرهم لأنهم لم يخضعوا لها.
نافذة على المجتمع
تكشف تقارير الوشاية السورية التي ظهر بعضها للعلن، والذي وصلنا في "ألترا صوت" جزءًا منه، كيف راقب نظام الأسد الجميع، فالملفات توثق اللقاءات العائلية والعلاقات الشخصية والمهنية. ثمة ملفات تحتوي على تسجيلات لساعات طويلة من اتصالات الأشخاص الموضوعين تحت المراقبة، ما أتاح جمع معلومات لا تقتصر فقط على آرائهم السياسية أو علاقاتهم الاجتماعية، بل شملت تفاصيل شخصية للغاية، حيث يمكن أن نعرف ماذا كانوا يأكلون، وما نوع السجائر الذي يفضلونه.
ترك نظام المراقبة الأسدي آثارًا نفسية واجتماعية عميقة على حياة السوريين، بسبب انهيار الثقة بين الناس وارتفاع منسوب الشك والخوف، وبهذا لم يقتصر القمع على تكميم الأفواه، بل وصل إلى مستويات مخيفة من الحضور في الفضاء الخاص وكأن للنظام حضورًا لا مرئي. ولهذا السبب، اكتسبت كلمة "مخبر" مكانة سيئة في الوعي الجمعي السوري.
الاقتصاد من وجهة نظر الأمن
ليس الأرشيف الأمني السوري مجرد وثائق أمنية أو تقارير شخصية، بل نافذة على الكيفية التي أُعيدت بها هندسة الاقتصاد المحلي، الذي بدلًا من أن يكون مستقلًا أو موجّهًا لتحقيق رفاهية المواطنين، استُخدم كوسيلة ضغط ونفوذ.
ومن خلال الاطلاع على وثائق بهذا الخصوص، يمكن ملاحظة أن كل مصلحة تجارية أو نشاط اقتصادي لم يكن مجرد نشاط فردي بل جزءًا من شبكة أوسع مرتبطة بجهاز المراقبة. وبهذا الشكل، ساهمت سياسات الدولة الأمنية الاقتصادية في خلق تفاوتات اجتماعية عميقة، حيث ظهرت طبقات متميزة مرتبطة بالولاء السياسي، وأخرى مهمشة أو حتى معاقَبة اقتصاديًا.
لاحظنا في الوثائق التي اطلعنا عليها اهتمامًا كبيرًا بالحوالات المالية، ليس لأجل الحوالات نفسها، بل لمعرفة كيف يمكن استخدام هذا المال في الأعمال العسكرية وربطها بالشبكات التي قد تشكل خطرًا على النظام، فكان أي مبلغ مالي، مهما كان صغيرًا، يُنظر إليه على أنه احتمال لدعم المعارضة المسلحة أو شراء معدات يمكن استخدامها ضد السلطة، وطبعًا ضمن هذا الاعتبار كان يمكن لـ100$ من فرد من العائلة أن تنتهي بأخيه أو أبيه في مجاهل فرع فلسطين تحت تهمة "تمويل خارجي".
صورة الأمن عن نفسه
يُظهر الأرشيف الأمني جانبًا مهمًا من آلية عمل أجهزته المختلفة، ليس فقط في توثيق القضايا والمتابعات، بل أيضًا في رسم صورة عن هذه الأجهزة لنفسها وللسلطة السياسية. فالمراسلات بين الأفرع الأمنية المختلفة تكشف عن تنافس هذه الجهات في إثبات ولائها وتنفيذ التعليمات بدقة، بما يعكس هوسها بالالتزام التام بالتوجيهات السياسية.
إلى جانب ذلك، تستخدم الأجهزة الأمنية تقاريرها الداخلية لرصد الواقع الأمني وإدارته، مثل دراسة وضع الحواجز في مناطق مقصودة. على سبيل المثال، يُظهر تقرير اطلعنا عليه وجود نحو 30 حاجزًا، مع تفصيل الجهة المسؤولة عن كل حاجز منها، وطبيعة المهام التي يؤديها، ومدى فاعليته وأهميته. وبرأينا أن هذا النوع من التقارير لا يعكس فقط الهيمنة الأمنية على المجال العام، بل يكشف أيضًا عن البنية التنظيمية لهذه الأجهزة وكيفية تبريرها لإجراءاتها أمام السلطة العليا.
صناعة الحقيقة
لطالما تم التركيز على وسائل الإعلام المحلية، بما يضمن التزامها بالسردية الرسمية، وكيفية ضبط المحتوى من جهة، وصياغة روايات مضادة لتكون جزءًا من المنظومة الدعائية للسلطة من جهة أخرى.
تضيف الرفوف المتراكمة من الأوراق على مر عقود من الرصد والمتابعة لشعب كامل روحًا جديدة للتاريخ المحلي
بالتوازي مع ذلك، هناك رصد دقيق للإعلام الخارجي، سواء من خلال متابعة ما يُنشر وتحليله، أو عبر الآليات المتبعة للرد وتشويه الجهات التي تقوم عليها. من بين هذه الآليات، تُستخدم صفحات مزورة على الإنترنت تعمل على تفنيد الأخبار المناوئة والتشكيك فيها، إلى جانب حملات تضليل ممنهجة تهدف إلى تقويض مصداقية وسائل الإعلام المستقلة. لا يهدف هذا الأسلوب إلى التأثير على الرأي العام المحلي فقط، بل يسعى إلى التأثير على إدراك الجمهور الخارجي وإرباك الخطاب الإعلامي المعارض.
وهنا يمكننا أن نتخيل كيف تحوّلت بعض الصفحات التي كنا نتابعها، ظنًا منا أنها تقدم محتوى مهنيًا، إلى مجرد أدوات للقمع والتعذيب النفسي، فلم تكن سوى جزء من استراتيجية أمنية تهدف إلى توجيه الرأي العام، والتلاعب بالمعلومات لصالح السلطة.
تاريخ لكنه يحتاج إلى القراءة بأكثر من عين
لأن الأرشيف الأمني السوري ليس وثيقة بريئة يجب أن يُقرأ بحذر، ويجب تفكيكه وتحليله لكشف طبقاته الخفية، حيث تتداخل المعلومات الأمنية مع بروباغندا السلطة، مما يجعل الأرشيف نفسه جزءًا من آلية القمع وإعادة تشكيل الذاكرة الجماعية.
بهذه القراءة يمكننا تحويل هذا الأرشيف الأمني الضخم من كونه ميراثًا للقهر والقمع والاستبداد إلى رواية تاريخية بطريقة مختلفة، تكشف عن آليات التلاعب، وتضيء مساحات حاولت السلطة طمسها أو إعادة تشكيلها.