05-مايو-2023
تفصيل من مخطوطة من العصر الأموي

تفصيل من مخطوطة من العصر الأموي

مؤخّرًا دُعي أدونيس إلى زيارة اعتبِرت موحِيةً للمملكة العربيّة السعودية. فهذا شاعِر الحداثة الذي طالما واجه القداسة. واليوم، بعد طيّ بساط القداسة، فتحت له الأسوار. لم يكن أدونيس مستفِزًا؛ بل كان استراتيجيًا في فتوحاته. فاختار الكلام على راهنية العصر الجاهلي؛ وبدا وكأنّه يُبرّر مذهبه الحداثي، مذهب الجدة والابتكار والخروج على التقعيد، بالعصر الجاهلي، عصر ما قبل القواعد والإبداع خارج السلطات والمقدّسات والقوالب الجاهزة. فالعصر الجاهلي يوافق الحداثة وما بعدها في قلب ثنائية الأصيل والمعاصر؛ فيظهَر المعاصِر، أي التمرّد على النمط والسلطات، أصيلًا، لا مارِقًا. لكأنّنا بصدد مقترح إعادة فتح العصر الجاهلي.

والواقع أنّ هذا ليس أضغاث شاعِر. بل هو مطلب حائن. فلعلّه من بلاسِم العقل العربي فكّ الأيديولوجيا عن الأعصر. ولعلّ أزمة العقل العربي التي طلبها مفكّرو الثمانينيات إنّما تعلّقت  بأدلجة الأزمنة. أضِف أنّ لبّ الحداثة  المتأخّرة، بعكس الأولى، ليس القطيعة مع الأعصُر، بل استدخالها في مخيالها. فمنذ فترة حُرّرت القرون الوسطى. فاعتُرِف بأنّه "لم تكن هنالك عصور وسطى إسلامية"، كما في عمل توماس باوَر في 2018، وهو يتوّج اتجاهًا يعود إلى أعمال الثمانينيات وما بعد الاستشراق عمومًا. كما تبيّن منذ هنري بيرين حتّى ستيفين زيموت أنّ القرون الوسطى الغربية لم تكن قهقرية، بل إنّها أكثر تأثيرًا في الحداثة من عهد الإصلاح وعهد الأنوار. فتمايز الملك والقس (أو كما في مجال الإسلام، بين الخليفة والسلطان) حدث في حروب التتويج الشهيرة في أوروبا. وحسب زيموت، فهذا ما أنشأ العصر الحديث القائم على العلمانية. وهكذا أعيد اكتشاف العصر الوسيط باعتباره تشكّل الهوية الحديثة.

إنّ إعادة فتح العصر الجاهلي لا تكون بإعلانِه عصرًا منقطِعًا. بل هو صميمي في الإسلام. وكان طه حُسَيْن قد استقدَم هذه المسألة من منظور مختلِف، عندما اعتبَر الأدب الجاهلي خيالًا إسلاميًا

ولكن ماذا عن العصر الجاهلي؟ هل يمكِن إنقاذه هو الآخر؟ منذ الأخوان قُطب أعيد طرح العصر الجاهلي في لبّ الحداثة، التي نُسِبت للجاهلية، وأصبَح لزامًا التخلّص من الجاهلية الحديثة بالإسلام الأوّل. وسرعان ما وتّرت، بل وعسكَرت، هذه المفهمة علاقة الإسلام والحداثة. إنّ إعادة فتح العصر الجاهلي هي تطبيعه والمصالحة بينه وبين العصر الإسلامي وفكّ القطبية عن ثنائية الإسلام والحداثة. فرغم استناد القطبية على نقد الإسلام للجاهلية إلاّ أنّها تخفق في فهم الموقف الإسلامي المركّب من الجاهلية، وبالتالي فالحداثة. فالخطاب الإسلامي من الجاهلية مزدوج ونقدي وانتقائي ينقض القيم الثقافية مع مواصلة إمكانياتها. والعصر الإسلامي كان إكمالًا للنظام الأخلاقي الذي كان سائدًا؛ وهو ما يُبيّنه الحديث النبوي: "إنّما بُعِثتُ لأتمّم مكارم الأخلاق".

فما معنى هذا الإكمال؟ إنّ إعادة فتح العصر الجاهلي لا تكون بإعلانِه عصرًا منقطِعًا. بل هو صميمي في الإسلام. وكان طه حُسَيْن قد استقدَم هذه المسألة من منظور مختلِف، عندما اعتبَر الأدب الجاهلي خيالًا إسلاميًا، لا استقلال له عن الأدب العبّاسي. وطبعًا اعتبِرت هذه الدعوة في حينه هرطقة لأنه كان لا بدّ من الفصل القيَمي، حتّى على المستوى الأدبي والوثائقي، بين العصرين، وإلاّ فقد العصر الإسلامي شرعيتَه بصفته قطيعة. وهكذا نُظر لمقترح حسين ضمن ثالوث مهرطِق ضلعاه الآخران دعوة محمد أحمد خلف الله للتفسير الرمزي، لا الواقعي، للقصص القرآني؛ ودعوة علي عبد الرازق لإلغاء الكلام الديني في مسألة الحُكم. وهكذا فإنّ تديين هذا النقاش الأكاديمي يُفسّر الغلبة المؤقّتة لنظرية قطب على حسين.

والواقِع أنّ المصالحة بين العصر الجاهلي والإسلامي قائمة بالفعل في الدراسات البحثية التي تطوّرت كثيرًا مؤخّرًا. ولعلّ عزيز العظمة، بدراساته الحاذقة للحداثة والقدامة العربيتين، يستهلّ لنا هذا الموضوع. فقد صدَر عمله "ظهور الإسلام في القدامة المتأخّرة: الله وشعبه" The Emergence of Islam in Late Antiquity: Allah and His People في  2014 عن كامبردج. ورغم أنّ أطروحاته قد لا تُقبَل شعبيًا لمنحاها التاريخاني للدّين، إلاّ أنّ أهمية عمله استخلاص وتحليل دراسات بزوغ الإسلام وقراءتها في سياق التاريخ العالمي للقدامة. فمسألتان كانتا صميميتان في الجاهلية: الإمبراطورية ومتعلّقها: الدّين التوحيدي. يبني العظمة على اتجاهين في الدراسات: الأوّل أنّ الإمبراطورية الرومانية ورثت الكونية  الهيلينية  وحوّرتها وعممّتها بما أفاد الديانتين، المسيحية والإسلام. أمّا الثاني فانفتاح الإمبراطورية على الأرياف والتخوم والاستمداد منها في البنى الامبراطورية. يُسمّي العظمة عملية الانفتاح هذه بـ"نقض الترييف" (de-provincialization). وهي عملية تاريخية معقّدة لا تبدأ مع هجرة روما إلى بيزنطة (وإن لم يحدث فرق بينهما عند العرب في الاسم) ولا تنتهي مع انفتاح الفضاءات بين روما أو القسطنطينية على المجال "البربري" وتعالق حواضر الإمبراطورية بأريافها. فأصبحت شعوب الهامش، بما فيها العرب، جزءًا من تحولات المركز. ويبني العظمة جزءًا من تحليله على الأنثروبولوجيا التاريخية للآلهة الجاهلية وعلاقتها بالتطوّر الثيولوجي والتأليهي بالمجال الإمبراطوري الأعَم.

إنّ من شأن فتح العصر الجاهلي سياسيًا وأيديولوجيًا رأب القطيعة الدّينية والأخلاقية بينه وبين العصر الإسلامي. فعمل أحمَد الجلاّد، "دين وشعائر بدو الجزيرة العربية قبل الإسلام" The Religion and Rituals of the Nomads of Pre-Islamic Arabia الصادر في 2022 عن دار بريل، يُظهر أنّ التوحيدية كانت قد تبيّئت في المجال الجاهلي كما تدلّ على ذلك آلاف النقوش والآثار الصفائية وحتى الثمودية. وعليه فيظهر أنّ القرآن إنّما كان يحاجُج آخر بقع الوثنية في الجاهلية، التي كانت قد استدخلت التوحيد لحد بعيد. ثم إنّ التداخل اللاهوتي بين الجاهلية والإسلام يُستشَفّ من القرآن نفسه الذي يقدّم سردية توحيدية عن الشرك الجاهلي، فهم لا يعبدون الأصنام تألهًا، بل يتخذونها "زُلفى إلى الله". فهي لم تعد آلهة مكتملة، بقدر ما صارت أيقونات وأقانيم أو إرهاصات قديسين وأولياء. أضف إلى ذلك أنّ كثيرًا من شعائر الإسلام كانت تمارس في الجاهلية كجزء من التقليد الإبراهيمي الذي جدّده الإسلام.

ورغم أنّ النصّ الإسلامي لم يعد يتصدّر مصادِر تأريخ ما قبل الإسلام إلاّ أنّه كذلك يُصحّح القطبية بإظهار جاهلية أخلاقية.  في الناس: كحاتم الطائي وعنترة بن شدّاد، الذي أعجِب به الرسول، والسموأل بن عادياء، وقس بن ساعدة وأكثم بن صيفي؛ وفي الحركات المجتمعية كالصعاليك، بغاة العدالة الاجتماعية والمتمرّدين على القبائل، وكالتوحيديين؛ وفي المؤسّسات كدار الندوة وحلف الفضول؛ وفي الثقافة والأحداث كالمنعة والنخوة والإباء عن جور الأقيال وحرب ذي قار. وكلها من القيم التي انبنى عليها واستكملها العصر الإسلامي. وهي أمور تستجيب كذلك للتصوّر الروماني للعرب. فهم يبدون في أعمال الإغريق والرومان من هيرودتس حتى سالوست وبلوتارك وبليني، وأكثر الشعوب أخلاقية وورعًا وتديّنًا وتجارةً (وإن كانوا أكثَرها تحاربًا ومعاقَرة. ولكن هذا لن يتغيّر حتى ما بعد العصر العبّاسي).  

إنّ من شأن فتح العصر الجاهلي تصحيح الفهم التاريخي للإسلام. فهذه التداخلات الإمبراطورية جعلت عرب ما قبل الإسلام حاضرين في المجال الإمبراطوري. وهي العملية التي استكملتها الفتوحات الإسلامية

إنّ من شأن فتح العصر الجاهلي تصحيح الفهم التاريخي للإسلام. فهذه التداخلات الإمبراطورية جعلت عرب ما قبل الإسلام حاضرين في المجال الإمبراطوري. وهي العملية التي استكملتها الفتوحات الإسلامية. فالإغريق والرومان وقبلهم الآشوريون رأوا عرب ما قبل الإسلام في الرافدين، منذ مملكة قيدار، وفي سوريا وفلسطين ومصر منذ زنوبيا. وقد أخطأ مؤرّخو الرومان كسالوست، رغم أنّه كان حاكمًا على الجزائر، في نسبة هجرة عربية أو فرسية أرمينية إلى شمال إفريقيا قبل الميلاد. ولكنهم لم يخطئوا في رؤية الأقليات العربية هنالك. وهذا أمر يسبِق الرومان. فكليوباترة كانت تتكلم العربية، التي كانت لغة بلاطية في مصر في القرن الأول قبل الميلاد. بل ولا يمكن فهم سيطرة الفرس على مصر في القرن السادس قبل الميلاد بدون مساعدة عرب سيناء لهم. لم ينتظر العرب العصر الإسلامي للتدفّق إلى المجال اللاحق. ولذا أصبح دارسو التاريخ الروماني يقرأون عرب الجاهلية في التاريخ العالمي لروما وبيزنطة ومقابلتهم بالقبائل الجرمامية والسلتية والقوطية.. إلخ، التي كانت دومًا خارج وداخل روما بالدخول في صراعاتها وإمدادها بالجيوش والمرتزقة وفتحها لاحقًا. ومن الجلي أنّ الغساسنة، وقبلهم الزباء، كانوا المؤسّسة التي كانت تنظّم لدى العرب هذه العلاقة مع روما، فيما كان خصومهم المناذرة، من يتولّون ذات المهمة لدى الساسانيين. إنّ القرآن نفسه يشير إلى هذا التداخل العالمي للعرب عندما يتحدّث عن حركتين اجتماعيتين ساهمتا في عولمة القدامة: البحّارة العرب الذين "يركبون في الفُلك المشحون"، والذين طوّعوا بحر العرب حتّى البحر الأحمر قبل الميلاد. والثانية التجار الذين التحقوا بالحواضر الرومانية والفارسية في الشام واليمن في "رحلة الشتاء والصيف".

هذا في حدّ ذاته يؤشِكل فكرة الفتوحات، التي صارت توتّر الثقافة وتخلق فيها صراعات عربية-أمازيغية، مسلمة-مسيحية، أو أصولية-علمانية. فمنذ مانويل الثالث بالايلوج في القرن الخامس عشر، والإسلام يُقدّم أنّه دين الفتوحات، لا دين الاعتناق الاختياري. ولكن هذه الفتوحات تُفهَم في السياق الجاهلي من العلاقات الامبراطورية، التي كان طبيعيا فيها تدفّق القبائل إلى الحواضر الرومانية والبيزنطية والفارسية. إنّ من شأن هذا إسقاط العلاقة التي أسبغتها كلٌّ من الأصولية والاستشراق على الإسلام باعتباره دين الفتوحات. وكما هو معروف فإنّ فكرة الفتح العربي الحاسِم قد فُنّدت في عدة ميادين تاريخية، كتاريخ الأندلس ومصروالصحراء وحتى المغرب الكبير. كلّها كانت فضاءات تغلغل فيها الإسلام ببطء وفي عملية اجتماعية أخذت قرونًا، وليس فقط بالفتوحات، التي غالبًا ما بقيت بعيدًا عن عمق الشعوب.

إنّ من شأن دراسات العصر الجاهلي اليوم أن تحرّر العقل العربي من تعالقات تاريخية إنّما تمّ استبقاؤها بما يُسمّيه طلال أسَد بـ"التقليد الخطابي"، الذي في هذه الحالة قد نقلها من الجاهلية إلى العصر الإسلامي، أو أكملها، بالعبارة الإسلامية. وعليه فكما تُثبِتُ معركة طه حُسين فإنّ المسألة الجاهلية هي في صميم نقاشات العقل والإصلاح. إنّ من شأن افتتاح العصر الجاهلي ليس فقط تقديم الفهم التاريخي، بل معالجة الأسقام التي حلّت بالعقل العربي فالإسلامي في العصر الحديث.