هل يجب علينا إلغاء الفن؟
24 يونيو 2025
هذه المقالة هي ترجمة للمقالة الأصلية The big idea: should we abolish art? المنشورة على صحيفة The Guardian. وهي جزء من كتاب How to Be Avant-Garde، بقلم مورجان فالكونر.
في نهاية هذا الأسبوع، قد تزور معرضًا فنيًا يدفعك إلى التأمل أو الشعور بالإلهام. أليس تذوق الفن جزءًا أساسيًا من الحياة الجيدة؟ وإن لم تذهب إلى معرض، قد تأسرك لوحة ما في المنزل، أو تنغمس بين صفحات رواية، أو تذهب إلى المسرح، أو تستمع إلى الموسيقى. لكن ماذا لو لم تفعل؟ ماذا لو خلا العالم من المعارض، والمسارح، ودور النشر، وقاعات الموسيقى؟ ماذا لو قررنا إلغاء الفن تمامًا؟
يبدو الدافع لإلغاء الفن، في أفضل حالاته، تعبيرًا عن انعدام الثقافة والتحجر الفكري، وفي أسوأها تعبيرًا عن ميول استبدادية، ومع ذلك انجذب عدد ملحوظ من الفنانين الحداثيين إلى هذه الفكرة. مثل مؤسس الحركة السريالية أندريه بريتون، الذي دعا مرارًا وتكرارًا إلى إلغاء الأدب. وثيو فان دوسبرغ، مؤسس حركة "دي ستايل" الذي صرَّح بأن "الفن سمَّم حياتنا"، بينما اعتقد صديقه وأحد أعضاء حركته بيت موندريان، أنه حتى لو أُلغي الفن، فلن يفتقده أحد.
أعلن الشاعر الروسي فلاديمير ماياكوفسكي أن الفن قد مات بالفعل، وكتب: "وجد الفن نفسه على هامش الحياة، كان رقيقًا ولم يستطع الدفاع عن نفسه"
وفي كانون الأول/ديسمبر 1914، مع بداية أول شتاء للحرب العالمية الأولى، أعلن الشاعر الروسي فلاديمير ماياكوفسكي أن الفن قد مات بالفعل، وكتب: "وجد الفن نفسه على هامش الحياة، كان رقيقًا ولم يستطع الدفاع عن نفسه".
ترسخت هذه الآراء في لحظة تاريخية محددة، أعقبت الصدمة وخيبة الأمل الناتجة عن الحرب، ومع ذلك من السهل رؤية صدى تلك الأفكار في عصرنا الحالي. في فترة ما بعد الحرب، فقد الكثيرون ثقتهم في الثقافة التي رأوا أنها حبيسة نخبة معينة جعلتها باهظة الثمن، وبعيدة، وغامضة. وإذا زُرت معرضًا فنيًا في الآونة الأخيرة، فستلاحظ أن هذا النوع من الفن لا يزال مزدهرًا.
كانوا يسعون إلى تحرير الفن من سجنه، وتحويل بيئتنا المحيطة بالكامل بحيث تزول الحدود بين الفن والأشياء العادية
لم يكن هدف موندريان وفان دوسبرغ وأمثالهما إلغاء الإبداع أو التعبير الذاتي، بل كانوا يسعون إلى تحرير الفن من سجنه، وتحويل بيئتنا المحيطة بالكامل بحيث تزول الحدود بين الفن والأشياء العادية. وربما قرّبتنا نهضة التصميم الحديث من هذا الهدف، لكن موندريان كان يأمل في أن يشكّل أسلوبه الخاص، المُميز بألوانه الأساسية وخطوطه الهندسية، قاعدة للغة تصميم مُوَّحدة، عالمية، ومجهولة الهوية. وبدلًا من ذلك، تدهور أسلوبه إلى كليشيه بصري مُبتذل (كيتش)، يُطبع على كل شيء من الجوارب إلى المآزر. إذ يبدو أننا نحب المصممين أكثر من تصميماتهم.
ما يُثير الاهتمام بشأن هذه النزعة القديمة لإلغاء الفن أنها نبعت من الشك في الفن الذي يتسم بالتعاطف والإنسانية. ففي أثناء الحرب، عمل بريتون طبيبًا نفسيًا لعلاج الجنود الذي تعرَّضوا لصدمات نفسية، وجعلته هذه التجربة متشككًا من أي فن يحاول تخليصهم مما شاهدوه من أهوال. فإذا كان العالم بائسًا لهذه الدرجة، أليس من الأفضل أن نسعى إلى تغييره، بدلًا من الهروب منه؟
ماذا سيحدث لو لم نهدّئ أنفسنا بأوهام المدينة الفاضلة، وبدلًا من ذلك فعلنا كما اقترح جون لايدون ذات مرة، واستخدمنا هذا الغضب كطاقة مُحرِكة؟
ومع ذلك، فهذا بالضبط الدور الذي يلعبه الفن في حياتنا. فإذا مريت بأسبوع سيئ في العمل، ستلجأ إلى الفن للاسترخاء، وبالفعل سيخفف من غضبك، ويجعلك مستعدًا لمواجهة مديرك مرة أخرى يوم الإثنين. لكن، ماذا سيحدث لو لم نهدّئ أنفسنا بأوهام المدينة الفاضلة، وبدلًا من ذلك فعلنا كما اقترح جون لايدون ذات مرة، واستخدمنا هذا الغضب كطاقة مُحرِكة؟
من الواضح أن تلك الدعوات المبكرة لإلغاء الفن لم تنجح في تحقيق أهدافها. فـ"موندريان" نفسه الذي تحدث كثيرًا عن نهاية الفن، لم يستطع التخلي عن حبه للرسم، وفي النهاية ألقى اللوم على المجتمع لعدم استعداده لعالمه الجديد الشجاع الخالي من الفن.
فـ"بريتون"، على سبيل المثال، اقترح التجول في المدينة كشكل جديد من التعبير الشعري
كما أن البدائل التي اقترحها أولئك الفنانون آنذاك لم تكن ممكنة التطبيق. فـ"بريتون"، على سبيل المثال، اقترح التجول في المدينة كشكل جديد من التعبير الشعري. فقد تخيَّل أن اللقاءات العابرة والخواطر التي يثيرها المشي، قد تُولِّد قصائد مُفككة أشبه بكولاج من المشاهد والإشارات والمشاعر.
وربما كان ذلك ممكنًا لو تجولت في أحياء باريس التاريخية في عشرينيات القرن الماضي، لكنني حين جرّبت الأمر بنفسي في أحد أحياء مدينة نيويورك، وجدت "قصائدي" باهتة وحزينة. كما واجهت صعوبة في التوقف عن التفكير عن "وجهتي المنشودة"، وكان عبور الشوارع المزدحمة مخاطرة بحد ذاته. ولهذا استنتجت أن تقسيم حياتنا له ما يبرره: فنحن نستخدم العقل لإنجاز الأمور، ونلجأ إلى الخيال لنرتاح. ببساطة: الفن والحياة لا يمتزجان.
وتوحي التطورات الأخيرة بأن الفنانين يتفقون معي. فبعد موجة من محاولات إضفاء الطابع الديمقراطي على الفن في الستينيات، هدأ الوضع نوعًا ما، وكأن الفن أصبح أكثر تحفظًا، مثل الشاب الثوري الذي دخل مرحلة منتصف العمر. فبعدما كنا نطمح إلى عروض طليعية تسبق عصرها وتماثيل مصنوعة من وثائق أو أكوام تراب، عاد رواد الفن اليوم يطلبون لوحات البورتريه مرة أخرى.
الاعتقاد بأن الفن يجب أن يتكوَّن من أشياء جميلة به شيء من الصحة، خاصة أننا نعيش في عالم يزداد رقمنة وتجريدًا وتسارعًا
ولا شك أن الاعتقاد بأن الفن يجب أن يتكوَّن من أشياء جميلة به شيء من الصحة، خاصة أننا نعيش في عالم يزداد رقمنة وتجريدًا وتسارعًا، ومن ثم تزداد حاجتنا إلى التوقف والنظر إلى شيء بديع يساعدنا على التباطؤ والعيش في اللحظة.
ولكن قبول أن هذا هو أقصى ما يسعى إليه الفن يعني قبول أن عالمًا كاملًا من الإبداع البشري المكرّس للجمال والفكر والمشاعر سيبقى محصورًا داخل إطار صورة أو قاعدة تمثال، ويُباع لمن يدفع أكثر. وهذا بالضبط هو المشهد البائس الذي نشاهده في أغلب المعارض الفنية اليوم، حيث لا تُقاس قيمة الفن بتجربة الجمال أو بالنقاش حوله، بل باقتناء تذكارات باهظة الثمن.
لذا، بالرغم من أن الدعوة إلى إنهاء الفن قد تبدو للوهلة الأولى كأنها شعار لراديكاليين سطحيين أو فلاسفة غامضين، فإن الإيمان بإمكانية هذه الفكرة قد يفتح لنا آفاقًا جديدة لرؤية العالم، ويضعنا في صحبة مميزة.
للأسف، نحن نقنع أنفسنا أن تجاربنا اليومية، مهما كانت غريبة أو آسرة، لا يمكن أن تكون فنًا راقيًا، لكن أندريه بريتون كان يرى هذا ممكنًا. كما نقول لأنفسنا إن الألوان التي نطلي بها جدران منازلنا لا يمكن أن تكون فنًا، مهما منحتنا من متعة، لكن بيت موندريان كان يرى العكس. وبدلًا من التمرد على هذه الأفكار، نقبل بالهزيمة، ونقنع أنفسنا بأن الفن امتياز محصور في أيدي غيرنا. لنُبقِ على الإبداع حيًا؛ فهذه القناعات هي ما يستحق الإلغاء، لا الفن.