18-أكتوبر-2020

بايدن في بورتريه لـ ألان ماكدونالد/أمريكا

تتغلب العاطفة على العقل في السياسة أحيانًا، إذ يرى الفلسطينيون مع غيرهم من الشعوب والدول المُتضررة من سياسات اليمين المسيحي الصهيوني المتمثل في إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، أنّ مجيء إدارة ديمقراطية برئاسة جو بايدن ستكون مخرجًا من الأزمات الحالية أو مرحلة لالتقاط الأنفاس من الهجوم المتواصل للإدارة الجمهورية الحالية. لكن في واقع الحال، ورغم مكانة الرئيس الأمريكي ودوره الهام في صناعة السياسة الخارجية الأمريكية، إلا أنه جزء من مؤسسة عميقة لا يُقرّر فيها السياسة الخارجية أو الداخلية وحده.

إذا جاء بايدن مكان ترامب كما يتمنى بعض الفلسطينيين لن يستطيع الرجل القيام بتغييرٍ جذري عمّا اتخذه ترامب وإدارته من خطواتٍ

إذا جاء بايدن مكان ترامب كما يتمنى بعض الفلسطينيين لن يستطيع الرجل القيام بتغييرٍ جذري عمّا اتخذه ترامب وإدارته من خطواتٍ. فبايدن وحزبه لن يوقفا التطبيع العربي مع دولة الصهاينة الذي أنجزه ترامب بالضغط على بعض العرب المرتعشين خوفًا، بل سيشجعونه ويواصلونه، ولن يتراجع بايدن عن نقل السفارة الأمريكية إلى القدس والاعتراف بها عاصمةً موحّدة لدولة الكيان الصهيوني. هذا الأمر يبدو شبه مؤكد، كون ما قام به ترامب ليس سوى تنفيذ لقرارٍ اتخذه الكونغرس الأمريكي في تسعينيات القرن الماضي، وهو محل إجماع أمريكي بين الحزبين، لكن غير المؤكد أنه ربما سيُعيد فتح مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في العاصمة واشنطن، ويستأنف تمويل وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، ويتوقف عن العبث بالقضية الفلسطينية بشكلٍ مُنحاز وفاضح كما فعل ترامب من خلال ما أُطلق عليه "صفقة القرن".

اقرأ/ي أيضًا: انقسام في مجلس الشيوخ بشأن مرشحة ترامب المحافظة لمنصب المحكمة العليا

إن جرى ذلك، سيُساهم في واقع الحال بإعادة بعضًا من الوضع الراهن ما قبل إدارة ترامب، ويعني ذلك العودة إلى طاولة مفاوضات التسوية الفلسطينية-الإسرائيلية المتوقفة منذ مدة طويلة، مع العلم بأن إدارة أوباما والتي كان فيها بايدن نائبًا للرئيس قد أصرّت قبل رحيلها على تمرير واحدٍ من أهم القرارات المتعلقة بقضية فلسطين في مجلس الأمن الدولي الذي يحمل رقم 2334 (2016)، حيث امتنعت الولايات المتحدة في سابقة من نوعها عن التصويت، وبذلك اعتُمدَ قرارًا ظل حبيس حق النقض (الفيتو) طوال ستة وثلاثين عامًا، يُطالبُ إسرائيل بوقفِ الاستيطان في الضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية.

تجدرُ الإشارة بأن الإدارات الديمقراطية الأمريكية رعت عمليات التسوية في الشرق الأوسط منذ الرئيس جيمي كارتر، وحققت تسوية مصرية-إسرائيلية في كامب ديفيد (1979)، وتابعت ذلك إدارة كلينتون مُحاولةً حل الصراع الفلسطيني-الصهيوني في كامب ديفيد 2 ولم تنجح، وتبنّى أوباما نهجًا سلميًا مرنًا حاول من خلاله تسوية العُقد المُستعصية في المفاوضات، إلّا أنّه فشل أمام رفض نتنياهو المتُسلّح بضغط اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة. وفي الوقتِ ذاته، علينا ألّا ننسى أن الحزب الجمهوري ووزير خارجيته هنري كيسنجر في سبعينيات القرن الماضي، قد نظّرا لتسوية تاريخية للصراع، وكذلك فعل ريغان الذي هو صاحب المشروع الشهير عام 1982، وكذلك جورج بوش الأب وهو راعي مؤتمر مدريد الذي عُقد في ظلّه اتفاق أوسلو (1993) بين منظمة التحرير الفلسطينية ودولة الصهاينة.

قد لا يتغير حال الفلسطينيين كثيرًا إذًا بوصول بايدن إلى سدة الحكم، لكن الأمل يحذو القيادة الفلسطينية أنه بمجيء بايدن سيتوقف الضغط الأمريكي الهائل، الذي وصل حدّ التجويع وتجفيف الموارد المالية الذي مارسته إدارة ترامب الأكثر صهيونيةً في التاريخ الأمريكي، على مؤسسات منظمة التحرير للقبول بصفقة ترامب-نتنياهو. لكن ثمّة يقينٌ بأن الأمور لن تعود إلى ما كانت عليه قبل ترامب، بل ربما ستنطلق من النقطة التي وصل إليها مع بعض المرونة الشكلية لا الجوهرية.

الموقف الديمقراطي غير المتأثر بشكلٍ كامل بالعقائد اللاهوتية الأنغليكانية الصهيونية الغيبية المتطرفة، يتمسكُ بحل الدولتين، ويهدفُ إلى منع انزلاق الصراع الفلسطيني-الصهيوني إلى حل الدولة الواحدة العنصرية ثنائية القومية، وهو بذلك يختلفُ مع اليمين المتطرف الصهيوني ومن خلفه الجناح الإنجيلي الصهيوني المسيحي في الولايات المتحدة الذي يتمثّلُ اليوم في إدارة ترامب.  

قد لا يتغير حال الفلسطينيين بوصول بايدن إلى سدة الحكم، لكن الأمل يحذو القيادة الفلسطينية أن الضغط الأمريكي الهائل الذي وصل حدّ التجويع وتجفيف الموارد المالية سوف يتوقف

يتلخص موقف الديمقراطيين بما قاله وزير الخارجية الديمقراطي جون كيري عام 2017 عمّا يُمثّله الاستيطان الصهيوني من خطرٍ على السلام في الشرق الأوسط، ومحذرًا الحليفة إسرائيل من مغبة السير في طريق الدولة الواحدة: "إنها تحتلُ مناطقًا تجعل من قيام الدولة الفلسطينية أمرًا مُستحيلًا، مما يجعل حل الدولتين على المحك ]...[ إن حكومة نتنياهو هي الأكثر تشددًا في تاريخ إسرائيل، وعدد المستوطنين في الضفة زاد بحوالي 275 ألف مستوطن منذ أوسلو، منهم 100 ألف منذ تولي نتنياهو الحكم"، مُشددًا على أن "توسيع المستوطنات لا يمت بصلة إلى أمن إسرائيل".

اقرأ/ي أيضًا: السفارات الافتراضية وتطبيع إسرائيل "عربيًا"

وقد تبنى المرشح الديمقراطي جو بايدن نفس هذه المقولات عندما كان نائبًا للرئيس أوباما، ففي نيسان/أبريل 2016، صرّحَ جو بايدن: "إنه بسبب سياسة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو المتمثلة في التوسيع المطرد للمستوطنات، فإن حقيقة الدولة الواحدة هي النتيجة المحتملة في نهاية المطاف، حيث لا يعود اليهود الإسرائيليون يشكلون الأغلبية".

يهدفُ الديمقراطيون من خلال رفضهم حل الدولة الواحدة الذي تسعى له حكومة نتنياهو، حماية دولة الصهاينة من نفسها بوقف انزلاقها المتواصل نحو دولة واحدة عنصرية شبيهة بدولة الفصل العنصري السابقة في جنوب أفريقيا، وهو – وفق رؤية الإدارة الديمقراطية – سيقودُ عاجلًا أم آجلًا تجاه الدولة الواحدة متساوية الحقوق، حيث لا مكان فيها للصهيونية كعقيدةٍ عنصرية استعلائية، وبذلك سيسقط أهم مشروع غربي استراتيجي أمني في المنطقة.

ما زال من المبكر التكهّن بالتطورات الصحية الناجمة عن مرض ترامب ومستقبله السياسي، وكذلك التنبؤ بنتائج الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة التي لوّح ترامب بعدم الاعتراف بنتائجها إن فشل. وعليه، وفي الإجابة على سؤال المقال، نعتقدُ أنّ قيادة السلطة الفلسطينية تُراهن بلا شك على جو بايدن، رغم معرفتها الأكيدة أنه لا يملك عصًا سحرية للحل. هذه الأوهام باتت من الماضي، لكنها بحاجة لضبط النفس كي تُعيد بناء حساباتها التفاوضية من جديد، إذ ليس في وارد تفكيرها نبذ هذا النهج في الوقت الحاضر، متسلحةً بوحدة وطنية فلسطينية واعدة بين الفصائل، وبانتخاباتٍ يجري الإعداد لها إن صدقت النوايا هذه المرة، وكذلك بتجربةٍ غنية جعلت الوهم يتلاشى حول "الأُخوّة العربية" ووحدة المصير، بعد طعناتِ التطبيع من قبل بعض الدول العربية. وما الذهاب إلى إسطنبول لحل عقدة المصالحة إلا رسالة إلى بعض الأطراف العربية أن الفلسطيني ليس يتيمًا أو قاصرًا.

لا يرى الشارع الفلسطيني ما بين ترامب وبايدن أية فروقٍ جوهرية، فقد جرّب كلاهما؛ جمهوريين وديمقراطيين، على مدى أكثر من سبعين عامًا من المأساة الفلسطينية. لم يرَ الفلسطيني في كل أنواع الإدارات الأمريكية، إلا داعمًا ومساندًا للمحتلين الصهاينة، وإذا تمايزت الإدارات الامريكية في المواقف، فإن أعينهم دائمًا ما تكون على إنقاذ حليفهم المُستعمِر العُنصري، الذي يُبالغ في غيِّه وإجرامه ورفضه لفرص التسوية، متخطيًا حدود المعقول في تجاوز القانون الدولي اعتمادًا على الحماية الأمريكية.

لا يرى الشارع الفلسطيني ما بين ترامب وبايدن أية فروقٍ جوهرية، فقد جرّب كلاهما؛ جمهوريين وديمقراطيين، على مدى أكثر من سبعين عامًا من المأساة الفلسطينية

أمّا بالنسبة للمطلوب فلسطينيًا: أولًا، ينبغي على القيادة والفصائل الفلسطينية إعادة ثقة المواطن الفلسطيني بها، وذلك لن يتأتى إلا بمراجعة شاملة لكل المسار السابق من اتفاقيات ومفاوضات وأساليب نضال وأدوات، وربما تغيير الهدف من حل يستند إلى دولتين إلى مشروع فلسطين كاملةً لا عنصرية، أي من خلال خيار دولة واحدة لجميع سكانها على خطى النموذج الجنوب أفريقي، وهذا الخيار يُشكل مقتلًا للصهيونية.

اقرأ/ي أيضًا: ترامب الواضح... ترامب الجميل

ثانيًا، لا يُمكن صناعة انتفاضة وفق بيان من الفصائل المُجتمعة في بيروت ورام الله، فالانتفاضات لا تُحرّكها البيانات إنما ظروف موضوعية وإرادة فعل جمعي، قد تكون موجودة حاليًا من الناحية النظرية، لكن ما زالت الجماهير في حالة شك في الفصائل والقيادات واستراتيجياتها، فالتجارب الماضية لا تمنحُ لا أملًا ولا ثقة بهما. ثالثًا، في حال توفّر الشرط الأول واستعادة الثقة ما بين الجماهير وقياداتها وفصائلها، يُمكن البدء بعمل وحدوي قادر على إعادة تسليط الضوء على القضية الفلسطينية وإعادتها إلى موقعها الطبيعي كقضية مركزية للأمة العربية، وذات أهمية للأمن والسلم الدوليين، وهذا ما سيجعلُ أي إدارة أمريكية قادمة تتعامل بجدية مع مسألة الصراع الفلسطيني-الصهيوني، أما إذا لم تتحقق هذه الشروط فإن استمرار الوضع الراهن هو المرجح ولفترةٍ طويلة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

هالة الانتخابات الأمريكية

تقدير موقف: الانتخابات النصفية الأمريكية.. التداعيات المحتملة على إدارة ترامب